باسمه تعالى :
أقدم للقراء الكرام هذه الرسالة للأستاذ محمد المرواني، أحد أبناء الحركة الإسلامية بالمغرب، مؤسس "الحركة من أجل الأمة" ثم حزب الأمة بالمغرب . وهو الآن في سجن سلا بتهمة لم يقتنع بها حتى المواطن العادي، بله رجال القانون . وقد تابع القراء معنا، مجريات القضية التي سميت بقضية بليرج في حكمها الابتدائي الذي كان بخمس وعشرين سنة على الأستاذ المرواني، وبمدد أخرى طويلة على باقي الإخوة المظلومين ، ثم خفضت ، في الطور الاستئنافي، إلى عشر سنوات للمرواني، وأخرى لباقي السياسيين الخمسة . أما باقي المعتقلين فقد تم تثبيت الأحكام في حقهم ، والتي تصل لدى البعض إلى المؤبد و ثلاثين سنة وخمس عشرة سنة … في أغرب محاكمة للإسلاميين يعرفها المغرب .
وفيما يلي الرسالة :
محمد المرواني
بسم الله الرحمن الرحيم
رسالة مفتوحة إلى السيد محمد الناصري رجل القانون أولا.. ووزير العدل ثانيا
الموضوع: دعوة إلى فتح نقاش عمومي حول: مآل إصلاح القضاء في ضوء نموذج فضيحة
ما يطلق عليه إعلاميا بـ "قضية بليرج"
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.. وبعد
في البدء ثلاثة أسئلة:
لماذا رسالة مفتوحة؟
لماذا إلى السيد محمد الناصري؟
ولماذا الآن؟
أما لماذا رسالة مفتوحة، فببساطة لأنه، ليس لدينا ما نخفيه، كما أنكم لم تكونوا طرفا في صناعة هذه القضية الفضيحة!! وهذا كله يرجح بالنسبة لي التواصل معكم في فضاء عمومي مفتوح أمام الرأي العام والمهتمين والمتتبعين.
أما لماذا إلى السيد محمد الناصري؟ فلأنكم أولا رجل قانون عرفته رحاب المحاكم مدافعا عن موكليه ومرافعا لتبرئتهم، وإلمامكم بالقانون مسألة جوهرية في هذه المناقشة العمومية حول فضيحة من فضائح السياسة والآمن والقضاء بالمغرب، اختار لها صانعوها اسم: "قضية بليرج"، وبالتالي لن نجد عناء في المرافعة ما دامت اللغة التي سنستعمل في هذه الرسالة المفتوحة معلومة لديكم ألا وهي لغة القانون.
ثم، إنكم ثانيا وزير العدل وأنتم بذلك مسؤولون عن وضعية العدالة ببلادنا ثم أنتم بمقتضى المادة 51 من قانون المسطرة الجنائية (ق.م.ج) تشرفون على تنفيذ السياسة الجنائية وتبلغونها إلى الوكلاء العامين الذين يسهرون على تطبيقها. وهنا طبعا، يهمنا أن نتوقف عند أداء النيابة العامة في هذه القضية الفضيحة وأن نتعرف على دوركم في هذا الباب أيضا.
أما لماذا الآن؟ فلاعتبارين:
الأول: سياقي، حيث مرت سنة كاملة على التعبير الرسمي عن إرادة إصلاح القضاء، ولا شيء ذا بال يجري على الأرض بهذا الخصوص، بل إن المجتمع السياسي والحقوقي والمدني لا يزال متشككا في إمكانية إصلاح القضاء.
الثاني، أنه قد اسدل الستار القضائي الابتدائي والاستئنافي على فضيحة "قضية بليرج" بتأكيد نهج الاستمرارية وتبخر وعد تأمين المحاكمة العادلة الذي التزمتم بضمان شروطه ضمن الإطار القانوني.
لقد استجبنا لنداء المحاكمة العادلة ودفعنا مستحقاتنا كاملة دفاعا وأظناء، لأننا لسنا من دعاة الإفلات من العقاب إذا ما ثبتت الإدانة قانونيا ولا نشحذ براءة لأننا بكل بساطة واثقون من براءتنا إذا ما احتكمنا إلى القانون منطوقا ومنطقا وضمانات ومقتضيات. ولكن جوبهنا بالصمم والتجاهل، وبدا الأمر كما لو أننا أمام إرادتين: إرادة أولى تتطلع لإجراء تمرين المحاكمة العادلة في هذه القضية، وإرادة ثانية كانت "توظف" ذوي النوايا الطيبة والمساعي الحميدة لتهدئة الخواطر حتى تصدر الأحكام الإستئنافية! ولكن لعبة الوقت لعبة ذو حدين: فإخراج المحكمة الاستئنافية من المأزق قد يكون تحقق إذا أردنا القول تجاوزا، ولكن في المقابل ضاع مطلب العدالة، وهو المطلب الأساسي، لأن إحقاق العدالة ينهي القضية ولكن إخفاق العدالة لا ينهيها بل لا يزيدها إلا توترا إن لم يخرجها من دائرة يسيرة إلى دائرة عسيرة لا يعلم تداعياتها إلا الله سبحانه وتعالى. لقد علق أحد المصريين الشرفاء حينما "استعادت" مصر سيناء بقوله ساخرا: "لقد عادت سيناء وضاعت مصر"، وأقول، نعم لقد تحقق المراد في إنقاذ المحكمة الاستئنافية ولكن ضاعت العدالة واستمر الظلم. لقد كان بعض المقاومين يقولون للمستعمر: لكم الساعة ولنا الوقت vous avez la montre nous avons le temps.
ونحن نقول من وحي هذا القول العميق أن المنطق الإطفائي يربح الجولة ولكنه لا يربح المعركة والمعركة جولات، والعاقل من يعمل على معالجة الأسباب لأن ذلك هو الطريق الآمن لإنهاء المشكل. أما ربح الوقت، فضلا عن كونه دليلا على فقر في الحكمة، فنفسه قصير ولا ينهي المشكل ولا يزيده إلا توترا وتعقيدا.
السيد الوزير المحترم:
لقد شكلت فضيحة "قضية بليرج" فرصة تاريخية لإعطاء المصداقية للإرادة الرسمية المعبر عنها لإصلاح القضاء. ولكن انتصرت الاستمرارية على القطيعة فيها. لقد سقطت إرادة إصلاح القضاء سقوطا مريعا في فضيحة "قضية بليرج". نعم، لقد سقط القناع عن القناع، وبدا واضحا جليا أن أمر إصلاح القضاء ليس مسألة إجراءات ومساطر بل هو أمر أكبر من ذلك بكثير. إن السؤال اليوم يطرح بحدة حول الجهات التي تعرقل تجسيد إرادة الإصلاح القضائي ولا تريد دفع مستحقاتها.
السيد الوزير المحترم:
قبل التعرض لأوراش الإصلاح القضائي كما برزت من خلال هذه الفضيحة السياسية-الأمنية-القضائية، اسمحوا لي بداية أن أبسط بين أيديكم، بداية، سياق بروز هذه القضية فيما أسميه بشبهة السياق التي تنقض هذه المتابعة السياسية وتبطلها. ففي نونبر 2006، قمنا بإيداع تصريح بتأسيس حزب سياسي لدى الدوائر المختصة بوزارة الداخلية كما هو مقرر في قانون الأحزاب السياسية. وبعد مرور الآجال القانونية دون أن نتوصل بالوصل (أو إشعار المطابقة كما هو وارد في قانون الأحزاب السياسية) أصدرنا بيانا نعلن من خلاله عن تأسيس حزب سياسي اخترنا له اسم "حزب الأمة"، ثم شرعنا في الترتيب لعقد المؤتمر التأسيسي.
ومع عقد المؤتمر في 3 يونيو 2007، وبالتغطية الإعلامية التي صاحبته، انزعجت جهات بوزارة الداخلية فدشنوا مخططهم في مواجهتنا: كانت البداية هي إحالة ملف الحزب على القضاء الإداري بهدف إبطاله.. ثم واصلوا ترتيبهم.. إلى أن تم تدبير هذه القضية.. هذا هو السياق.. وهو كاشف لعوراتها.. وهو يبين بجلاء أن تدبير هذه المكيدة السياسية-الأمنية ضدنا، إنما جاء، كإجراء لاحق، كخلفية لتبرير منعنا من تأسيس حزب سياسي وهذا ينقض صدقيتها ويجرح في معقوليتها وواقعيتها. لقد كنا بصدد تأسيس حزب سياسي لتتحول هذه الرحلة إلى دراما "إرهابية" من إنجاز وإخراج جهات لا تريد لبلادنا أن تقلع وتنتقل ديمقراطيا. إنها صناعة أمنية وسياسية لتصفية حساب سياسي ولذلك لا تصلح أن تكون مستندا لإدانتنا لأن الحدود تدرأ بالشبهات والشك يفسر لصالح المتهم والأصل براءة الذمة.
السيد الوزير المحترم:
إليكم فيما يلي سبع خلاصات لتمرين المحاكمة العادلة الذي قمنا به من جانب واحد، دفاعا وأظناء، في فضيحة "قضية بليرج"، وذلك من خلال ثلاثة محاور، من أجل بيان تهافت هذه المتابعة السياسية وبطلان مستنداتها
المحور الأول: انتهاك ضمانات المحاكمة العادلة
1 ـ تعرض غالبية المعتقلين على ذمة هذه القضية الفضيحة للاختطاف والتعذيب وبمقتضى المادة 293 من ق.م.ج فإنه لا يعتد بكل اعتراف ناجم عن جريمة العنف أو الإكراه، وعلاوة على ذلك يتعرض مرتكب العنف أو الإكراه للعقوبات المنصوص عليها في القانون الجنائي. صحيح أن ق.م.ج يتحدث عن ثبوت لا عن مجرد إدعاء التعرض للاختطاف والتعذيب. وفي هذه القضية الفضيحة، قدم الكثير من الأظناء قرائن تدل على ثبوت ذلك، وحتى لو لم يدل أولئك بما يفيد الثبوت، كان المفترض أن يتم فتح تحقيق وبحث في الموضوع للوصول إلى الحقيقة بخصوصه وترتيب الجزاء القانوني عليه، ولكن هذا لم يتم. ولنتذكر أن المغرب قدم وثائق المصادقة على اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملات القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة بتاريخ 21 يونيو 1993 ونشر نص الاتفاقية بالجريدة الرسمية بتاريخ 19 دجنبر 1996 كما قدم التزامات واضحة فيما يتعلق باحترام حقوق الانسان.
2 ـ نظم وزير الداخلية السابق ندوة بتاريخ 20 فبراير 2008، على مسافة يوم وليلة من اعتقالنا ولم يتجاوز البحث التمهيدي معنا يومها جوانب الهوية الشخصية والعائلية والمهنية والسياسية بعد إلى موضوع القضية المزعومة، وهذا يعتبر في لغة القانون انتهاكا لقرينة البراءة ولسرية التحقيق وتوجيها صريحا غير مسبوق للشرطة القضائية في بحثها التمهيدي ولقضاء التحقيق والموضوع على السواء. كما أنه صاحب هذه الندوة البئيسة تهديد ووعيد لكل من يشكك في الرواية الرسمية. أما أدلتنا في هذا فهي ما نقل مباشرة على شاشات التلفزة وما نقلته وكالات الأنباء الوطنية والدولية وما نشرته مختلف الصحف المغربية.
السؤال هنا من أين حصل وزير الداخلية السابق على تلك المعلومات التي أدلى بها وخاصة أن الاستنطاق معنا كان في بداياته ولم يتطرق لأي من الوقائع التي ادعاها في ندوته تلك؟ ألا يعتبر هذا انتهاكا لمقتضيات المواد 1 و 15 من ق.م.ج .
3 ـ لم يتم احترام مقتضيات إجراءات الإيقاف والتفتيش والحجز، وعدم احترامها يجعلها إجراءات معيبة تقع تحت طائلة البطلان. وهذا هو مقتضى المادة 751 من ق.م.ج . ويكفي كمثال صارخ على هذا هو أن أحد الضباط "الموهوبين" قام بإجراءات الإيقاف، في وقت واحد، لشخصين يتواجدان في مكانين يبعدان عن بعضهما البعض بما يقارب 10 كيلومترات! وهذه قرينة تدل على أن مدة الحراسة النظرية لم تحترم مما تترجح معه فرضية الاختطاف.
4 ـ فيما تم التدليس على الكثير من الأظناء أثناء مرحلة التحقيق التفصيلي وتخويفهم من قبل محققين أمنيين كما عبروا عن ذلك أثناء مناقشة القضية ابتدائيا واستئنافيا، فقد حرم آخرون -وعن سبق إصرار- من إجراء التحقيق التفصيلي.
وكما تعلمون، فإن المادة 83 من ق.م.ج توجب التحقيق وتجعله إلزاميا في "الجنايات المعاقب عليها بالإعدام أو السجن المؤبد أو التي يصل الحد الأقصى للعقوبة المقررة لها ثلاثين سنة".
وتعلمون أيضا أن إجراء التحقيق التفصيلي هو أحد ضمانات المحاكمة العادلة. ومن حقنا أن نتساءل: أمام إلزامية التحقيق التفصيلي، من كانت له مصلحة في عرقلة إجرائه؟ إن في منعنا من إجراء التحقيق التفصيلي نقضا لأحد الأركان الأساسية للمحاكمة العادلة وانتهاكا جسيما لحقوق الدفاع.
5 ـ لم نتمتع بحقنا في العلم بأدلة الإثبات القائمة ضدنا ولم تعرض علينا ولم نناقشها أثناء مناقشة القضية ابتدائيا واستئنافيا. لقد تم الاكتفاء معنا بمناقشة معلومات واردة بمحاضر الضابطة القضائية وهي المحاضر التي طعنا فيها بالزور. وهذا انتهاك آخر لأحد الضمانات الأساسية للمحاكمة العادلة (مقتضى ديباجة ق.م.ج). وهو يدل على فراغ الملف من أدلة الإثبات القانونية في المادة الجنائية.
المحور الثاني: الوقائع المفترضة غير ثابتة أو بلا قيمة حجاجية
6 ـ حيث إن الوقائع المزعومة تنتمي إلى مرحلة قديمة نسبيا (بداية التسعينات) بحسب ما ورد في المحاضر المزورة فإن إعمال النظر القانوني فيها يقود إلى التمييز بين ثلاثة أنواع من المساطر الجزئية:
أ ـ هناك مسطرة جزئية مضمنة بملف القضية ويتعلق الأمر بواقعة الاعتداء على مواطن مغربي، وقيمة هذه المسطرة الجزئية تكمن في توظيف نتائجها واستخلاصاتها وإلا فلا قيمة لها وبالتالي يتوجب إلغاؤها وسحبها من ملف القضية.
هذه المسطرة الجزئية تتحدث عن شهود عاينوا الواقعة وقدموا معلومات دقيقة حول المشتبه بهم. وهؤلاء (أي الشهود)، لم يتم استدعاؤهم إلا بعد خوضنا لإضراب مفتوح عن الطعام وانسحابنا من متابعة أطوار المحاكمة، وذلك للتخفيف من حدة الاحتقان من قبل من رتبوا هذه المتابعة، وحين أدلوا بشهادتهم كانت نتيجتها أنهم لم يجدوا، في أي من الأظناء، مواصفات المشتبه بهم. وهذا، يسقط هذه الواقعة كمستند في هذه المتابعة السياسية. وللتذكير، فهذه هي الواقعة المفترضة الوحيدة التي تستند إلى مسطرة جزئية في هذه القضية الفضيحة، وقد جاءت شهادة الشهود فيها لفائدة تبرئتنا.
ب ـ هناك وقائع بلا مساطر جزئية بمعنى أنه لم يسبق أن جرى البحث فيها وهو ما معناه أحد أمرين إما أنها لم تقع أصلا أو أنها لم تكن ذات شأن يستدعي إجراء بحث إلا أن ما يرجح فرضية الاختلاق هو انه لا يوجد ضمن وثائق ملف هذه القضية ما يفيد وجود متضرر تقدم بشكاية أو بدعوى في الموضوع.
ج ـ هناك أخيرا واقعة ولكن مسطرتها الجزئية مضمنة بملف قضية أخرى وصدر بخصوصها حكم قضائي. ويتعلق الأمر بما يسمى بواقعة "ماكرو" فيما يسمى بقضية أطلس أسني. وهذا يطرح سؤال الامتناع والاستحالة، إذ كيف نتابع أشخاصا بواقعة سبق للقضاء أن أصدر فيها حكمه بحق أشخاص آخرين يقضون عقوبتهم السجنية منذ ما يفوق 14 سنة!. وتمثل هذه الواقعة فضيحة هذا الملف.
ويؤدي مجموع هذه الملاحظات إلى نتيجة واحدة هي أن سلطة الاتهام قد استندت في إدعائها على جرائم ظنية محتملة أومستحيلة أو مختلقة، وتكون بذلك قد اعتمدت وقائع جرائم مفترضة تحققت فيها مواصفات الشك ويفسر الشك لفائدة المتهم (مقتضى المادة1 من ق.م.ج) وبالتالي يترتب عليها التصريح بالبراءة.
المحور الثالث: الإثبات الجنائي غير قائم
7 ـ بمقتضى المادة 286 من ق.م.ج التي تنص على انه "إذا ارتأت المحكمة أن الإثبات غير قائم صرحت بعدم إدانة المتهم وحكمت ببراءته"، فإنه يتعين على المحكمة الإثبات وإلا صرحت بالبراءة. وفي هذه القضية الفضيحة، وحيث إن الإثبات غير قائم، كان يتوجب على المحكمة أن تصرح بالبراءة إلا أنها، للأسف الشديد، انتصرت لقرار الإدانة. ولذلك عند الإطلاع على مقرر الحكم ابتدائيا وحتى استئنافيا، نجده بدون تعليل يفيد الجزم واليقين وفي أحسن الأحوال نجده ناقص التعليل، ونقصان التعليل كالعدم سواء. لماذا؟
أ ـ لأنه استند إلى محاضر الضابطة القضائية، والحال أنها مجرد معلومات (مقتضى المادة 291 من ق.م.ج) هذا إذا كانت سليمة فكيف وكل الأظناء قد طعنوا فيها بالزور.
ب ـ إن استناد ذلك المقرر لمحاضر الضابطة القضائية جاء بلا قرائن. وهذا يسقط حجيتها كليا ونهائيا حسب ما استقر عليه الاجتهاد القضائي المغربي بهذا الخصوص.
ج ـ الاستناد إلى محاضر قاضي التحقيق بالنسبة لبعض الأظناء معلول من جهتين: من جهة لأنه تم التدليس عليهم فضلا على تهديدهم بحيث وصل الأمر إلى حدود حضور محققين أمنيين إما في جلسة التحقيق أو عند باب مكتب قاضي التحقيق! وهذه أمور كشف عنها الأظناء أثناء مناقشة القضية. وللأسف، لم ترتب هيئة الحكم لا ابتدائيا ولا استئنافيا استبعاد تلك المحاضر والاكتفاء باعتماد ما راج أمامها، أما من جهة ثانية فإن حرمان بعض الأظناء من حقهم المشروع في إجراء التحقيق التفصيلي، ينقض القيمة الحجاجية لمحاضر قاضي التحقيق.
د ـ أما ما سمي بقول متهم على متهم كدليل فهو يبين هشاشة الإثبات الجنائي في هذه القضية الفضيحة وذلك لاعتبارين: الأول، لأن ق.م.ج لم يذكره من ضمن وسائل الإثبات. صحيح أن الإثبات حر، ولكن عدم ذكره هناك يدل على أنه ليس دليلا أولويا. ثم إننا أمام قضية جنائية ضخمة كما تزعم النيابة العامة، وبالتالي فالأمر بحاجة إلى أدلة إثبات جنائية دامغة ولا تحتمل التأويل. أما الاعتبار الثاني، فهو أن الاتجاه العام للاجتهاد القضائي المغربي يروم استبعاد هذه الوسيلة من يد القاضي الزجري لعدم استقامتها.
هـ ـ الاعتراف القضائي نوعان: الأول أمام قاضي التحقيق والثاني أمام قضاء الموضوع. والأسئلة التي تطرح نفسها هنا هي: ما الذي يجعل المتهم يعترف أمام قضاء التحقيق ويغير أقواله أمام قضاء الموضوع؟ ولماذا التمييز في الأقوال: لماذا نأخذ فقط ما يخدم الإدانة ونترك ما يرجح البراءة؟ لماذا حينما يصرح المتهم بأنه تعرض للاختطاف والتعذيب لا يعبأ به ولو كانت لديه قرائن، ولماذا حينما تصرح سلطة الاتهام يؤخذ بقولها حتى ولو لم تدل بوسائل الإثبات؟ هذا مع العلم انه في دولة الحق والقانون، تنحاز هيئة الحكم إلى المتهم وتعمل على تبرئة ذمته، لا بل إن سلطة الاتهام نفسها، إذا وجدت بصيص دليل لتبرئة الظنين لا تتوانى في ذلك. وهذا حصل فعلا في علاقة بهذه القضية الفضيحة بحيث إن النيابة العامة ببلجيكا قد التمست عدم المتابعة فيما يتعلق بجرائم القتل المنسوبة لأحد الأظناء.
السؤال الآن: إذا تعارض الاعترافان القضائيان فبأيهما نأخذ؟ في هذه القضية لا يمكن إلا ترجيح ما راج أمام المحكمة، وذلك لاعتبارات متعددة: منها أن التصريح أمام قضاء الموضوع علني ولا يرافقه أي ضغط (كما حصل في تمارة والمعاريف وعند قاضي التحقيق)، ومنها ما تعرض له البعض من الأظناء من حرمان من حقهم المشروع في إجراء التحقيق التفصيلي. وما يزيد الاعتراف أمام قضاء الموضوع رجحانا في هذه القضية أربعة عناصر: غياب أدلة الإثبات ووسائل الاقتناع إجمالا، وشهادة الشهود كانت لفائدة البراءة وفضيحة "ماكرو" تكشف الوجه التلفيقي لهذه القضية ثم ليس هناك وثيقة فكرية وسياسية لدى أي من الأظناء تدل على نزوعه للتطرف والغلو والعنف.
السيد الوزير المحترم: بعد هذا العرض الإجمالي حول هذه القضية الفضيحة، انتقل الآن إلى بسط أوراش إصلاح القضاء كما برزت جلية من خلالها.
هناك اليوم إرادة سياسية رسمية معلنة لإصلاح القضاء. وتقدم هذه القضية الفضيحة في كافة أبعادها السياسية والقانونية والواقعية، نموذجا صارخا للاختلالات والخروقات والانتهاكات والإجراءات المعيبة. ويمكن أن أقدم هنا خمسة مستويات تعتبر أوراشا حقيقية للإصلاح القضائي المنشود.
أولاـ لا يمكن تبييض الانتهاكات الجسيمة الجديدة لحقوق الإنسان تحت ذريعة محاربة ما يسمى بـ"الإرهاب"، لا يمكن السكوت عن خرق إدارة مراقبة التراب الوطني للقانون: فمن جهة أولى هي متهمة باختطاف وتعذيب المواطنين كما تواترت بذلك شكاياتهم، وهذا مناف ومناقض لالتزامات وتعهدات المغرب في مجال احترام حقوق الإنسان. من جهة ثانية، فهي ليست مخولة أصلا لإجراء البحث التمهيدي كما ينص على ذلك القانون. وهذا يعيد مطلب الحكامة الأمنية إلى الواجهة، وهو أحد توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة التي لم تجد طريقها إلى التنفيذ.
ثانيا ـ لا يمكن القبول باقتحام السلطة التنفيذية لمجال وحقل السلطة القضائية كما لا يمكن القبول بعجز قضاء الموضوع ابتدائيا واستئنافيا عن القيام بدوره في تمحيص الأدلة وتدقيق ثبوت الوقائع وفي التحرر من أطروحة محاضر الضابطة القضائية. لقد طرحت هذه القضية الفضيحة مشكلة قضائنا وعدالتنا ألا وهي الاستقلالية. وهذه فرصة تاريخية لتجسيد وتأكيد مطلب استقلالية القضاء وسموها عن باقي السلطات بما فيها السلطة التنفيذية.
وهذه لحظة مفصلية لتؤسسوا لعهد لا تتطاول فيه السلطة التنفيذية على اختصاصات القضاء. فلنجعل من هذه القضية الفضيحة انطلاق زمن رد الاعتبار للقضاء كسلطة مستقلة وسامية عن باقي السلطات إذا أردنا فعلا أن ننتمي إلى نادي "دولة الحق والقانون." إن قضاءنا بحاجة إلى معالجة استعجالية لتأمين استقلاليته وكفالة نزاهته وعدالته بالنتيجة، لأن جوهر الإصلاح القضائي هو الاستقلالية سواء عن السلطة التنفيذية أو عن الأجهزة الأمنية أو عن التأثيرات السياسية أو عن تأثيرات اللوبيات الاقتصادية والمالية ومركبات النفوذ المختلفة. حين نكفل استقلالية القضاء وسيادته على باقي السلطات، حينها يمكن أن نطمع في عدالة حقيقية أيا كان نوع القضايا المعروضة أمامها بما في ذلك قضايا الرأي والسياسة.
ثالثا - النيابة العامة والضابطة القضائية ورشان من أوراش الإصلاح القضائي الأساسية. فلقد ثبت تاريخيا أن محاضر الضابطة القضائية تكون دائما موضوع جدل بين هيئة الدفاع وممثل النيابة العامة. كما أن الدور الرقابي للنيابة العامة على عمل الضابطة القضائية يظل منعدما أو محدودا وخاصة في قضايا الرأي والسياسة. وفي هذه القضية/الفضيحة، كشفت هيئة الدفاع العورات الكثيرة التي طالت تلك المحاضر وأبرزت ما شابها من تزوير واختلال وتناقض.
أما دور سلطة الاتهام (النيابة العامة)، فقد تمثل في تزكية ما ورد في محاضر الضابطة القضائية على الرغم من كونها مجرد معلومات، وبالتالي لا حجية لها بذاتها.
لقد عاش القضاء الجنائي محنة قاسية مع مداخلة ممثل النيابة العامة في المرحلة الاستئنافية، وهي المحنة التي تبين بجلاء أنه بيننا وبين إصلاح القضاء مسافة إرادة لا فقط مسافة مساطر وإجراءات. ففيما كنا نرغب في نقاش جنائي راق يجعل من هذه المتابعة (وبرغم طابعها السياسي) تمرينا في المحاكمة العادلة يدور حول مناقشة الحجج والأدلة والبينات التي اعتمدت في الاتهام، استعاضت النيابة العامة عن ذلك بخطاب الحكي، ولجأت إلى العنف اللفظي للتغطية على ضعف بضاعتها الاستدلالية إذ ليس في جعبتها أدلة بل لديها قرار إدانة ومع سبق الإصرار.
إن خطاب النيابة العامة هذا ينتمي إلى مدرسة "عدالة القوة". وفي هذه المدرسة، لا يهم الشكل (كما قال وزير الداخلية السابق)، وفي هذه المدرسة لسنا بحاجة إلى الأدلة والحجج والبينات ويكفي أن جهات قالت وجهزت محاضر. وبناء على هذا المنطق، وضدا على أسس المناقشة الجنائية الحقة، صوبت النيابة العامة مدفعيتها الثقيلة تجاهنا واستعملت وسائل استدلالية غير تقليدية، فأصبحنا بنظرها نمثل خطرا شبيها بما يمثله "الحوثيون" باليمن و"شباب الجهاد" بالصومال دون أن ننسى توزيعها المتواصل لصفات الظلاميين والإرهابيين طيلة مداخلتها المقطوعة الصلة بمنطوق القانون وبمنطقه. فما معنى القول بأن هذا جيش والمحاضر بزورها تتحدث عن خلية؟ ما معنى أن أتباع هذا التنظيم يعدون بالآلاف والحال أن عدد المعتقلين على ذمة هذه القضية لم يتجاوز خمسة وثلاثين (35) لا يتعارفون في أغلبيتهم فيما بينهم ولا أدلة على روابط تنظيمية أو سياسية تربط فيما بينهم!
ألا ترون معي، السيد الوزير المحترم، أن أمر إصلاح الضابطة القضائية والنيابة العامة أمر جدي ولا يحتمل التأجيل من أجل عدالة حقيقية. إن ما نريده هو أن تستخلصوا ما يلزم استخلاصه بهذا الخصوص لأن بلادنا، في نهاية المطاف، بحاجة إلى نيابة عامة قوية أمينة تكون ضميرا حقيقيا للمجتمع وساهرا أمينا على تطبيق القانون.
رابعا - إن الفلسفة التي بني عليها نظام قضاء التحقيق هي الإسهام في بيان الحقيقة حتى يسهل على قضاء الموضوع تكوين قناعته. وبهذا المنطق، يتعين على قاضي التحقيق أن يتحرر من أطروحة محاضر الضابطة القضائية وأن يعطي كل الجهد لأدلة الإثبات فيسائلها ويمحصها وأن يتخذ جميع المقررات ويأمر بجميع التدابير (كاستدعاء الشهود وإجراء الخبرة والتحقق من المحجوز ومدى مراعاة الضوابط فيه... إلخ) التي يراها مناسبة للكشف عن الحقيقة وبيانها، ما لم يمنعها القانون.
في هذه القضية/الفضيحة، كان دور قاضي التحقيق هو استخراج ما ورد في محاضر الضابطة القضائية وإعادة صياغته، فلا هو محص الأدلة ولا هو دقق في ثبوت الوقائع.
وكما كان دوره بلا قيمة مضافة، فقد ظل جامدا تجاه حرماننا من حقنا المشروع في إجراء التحقيق التفصيلي وتمسك باعتبارات أقل ما يقال عنها إنها مس بحقوق الدفاع وجرح لمقتضى أساسي من مقتضيات المحاكمة العادلة ألا وهو حق المتهم في اطلاعه على المنسوب له من وقائع وكذا على أدلة الإثبات القائمة ضده.
وهذا يطرح السؤال فعلا حول جدوى مؤسسة قضاء التحقيق وحول قيمتها المضافة ومدى استقلاليتها في هذه القضية. إن الدعوة هنا دعوة لإحاطة مؤسسة قضاء التحقيق بكل الضمانات القانونية الكفيلة بتحصينها من تأثير الأجهزة الأمنية أو السياسية أو غيرها في تكييف قراراتها.
خامسا - حول الفلسفة العقابية والسياسة الجنائية
هل العقاب مقصود لذاته أم لغيره؟ وهل الهدف هو إيقاع العقاب أم كبح الجريمة؟ يجيب مونتيسكيو في كتابه القيم روح القوانين: "الغرض من قانون العقوبات هو كبح الإجرام لا الانتقام من المجرم". في هذه القضية/الفضيحة من حقنا أن نتساءل: ما هو الهدف الحقيقي من اعتقالنا؟ وما هو التهديد الجدي الذي نمثله بالنسبة لأمن بلادنا؟ وماذا كسب المغرب بهذا الترتيب الأمني البئيس؟ إن هذا الملف يطرح السؤال بعمق حول فلسفتنا العقابية وسياستنا الجنائية والأهداف المتوخاة منها: إنه ارتداد بسياستنا الجنائية إلى عهد الثأر والانتقام الذي تجاوزته الإنسانية منذ زمان.
إن مجرد غياب القصد الجنائي في هذه القضية/الفضيحة وعجز سلطة الاتهام على الإدلاء ولو بوثيقة فكرية وسياسية واحدة تؤكد نزوعنا نحو التطرف والغلو، إن كل ذلك كاف تماما لعدم متابعتنا.
إن غالبية الدول العربية والإسلامية دشنت حوارات مع قوى وتنظيمات كانت متهمة بالتطرف والعنف، وانتهت تلك الحوارات إلى إطلاق سراح الجميع كما هو حال التجربة الليبية والسعودية وكما يجري حاليا في التجربة الموريتانية، لأن أنظمة تلك الدول اقتنعت، ولو بعد حين، أن الحوار هو الأسلوب الإنساني المدني والحضاري في تدبير الاجتماع السياسي واختلافاته وتوتراته وتحدياته.
وإنني هنا لأتساءل، ماذا يستفيد المغرب من اعتقال مجموعة من المواطنين في هذا الملف السياسي وفي غيره من ما سمي بملفات "الإرهاب"! والإبقاء عليهم في السجون وخاصة أن هناك إقرارا رسميا بوجود خروقات وانتهاكات في إعداد وتدبير تلك الملفات؟ سؤال نتركه لعقلاء المغرب في ضوء التقارير التي تتحدث عن مخاطر ذلك. إننا بحاجة إلى تصويب فلسفتنا العقابية وسياستنا الجنائية لتتجاوز صدمة أحداث 16 ماي الدموية. لا يجوز أن يستمر المغرب تحت وطأة تداعيات تلك الأحداث ليستمر الأبرياء في تأدية ثمن سياسة جنائية عمياء وخرقاء، وليسهل تبرير انتهاك القانون وتباطؤ الإصلاحات! تحت ذريعة الأمن الوقائي!
السيد الوزير المحترم،
هنا ورش كبير من أوراش إصلاح القضاء وهو إعادة صياغة الفلسفة العقابية والسياسة الجنائية وخاصة أن المشرع قد حمل وزير العدل مهمة الإشراف على تنفيذ السياسة الجنائية.
لقد كشف مصدر من المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان أن عدم توفر المغرب على سياسة جنائية واضحة المعالم جعل من إبداء الرأي في قضايا حساسة تتعلق بالحريات العامة وحقوق الإنسان أمرا معقدا.
السيد الوزير المحترم،
الآن، ما هي انتظاراتي من هذه الرسالة المفتوحة؟
لي انتظار واحد وأساسي: هو أن تقولوا لنا رأيكم في هذه الأمور، وماذا تعتزمون القيام به لتصحيح صورة العدل ببلادنا حتى يجوز لنا أن نقول: العدل بخير إذن كل شيء بخير، وهل بهذه الطريقة التي تم بها تدبير هذه القضية/الفضيحة وغيرها من قضايا مماثلة، نعطي المثال عن الإصلاح القضائي المنتظر؟
وهل يشرف المغرب، في ضوء تعاقداته المدنية والمجتمعية، ولو بعلاتها، وفي إطار التزاماته الدولية حقوقيا وسياسيا، أن يستمر قضاؤنا وعدالتنا على هذه الحالة؟ لقد اعتبر تقرير "50 سنة من التنمية البشرية وآفاق سنة 2025" الصادر في 2006 في ص 236 منه أن القضاء هو أحد بؤر المستقبل الذي ظل فيه التأخير بارزا أكثر من غيره من المجالات الأخرى في النصف الأخير من القرن الماضي. وأقر التقرير في ص 252 منه بـ"أن المغرب إذا لم يبادر منذ الآن (لاحظوا أي منذ سنة 2006) إلى العمل على تجاوز مواطن عجزه وعوائقه مع تحويل بؤر المستقبل إلى رافعات حقيقية للتنمية، فإنه سيكون في مواجهة سيناريو تراجعي" انتهى.
السيد الوزير المحترم: إن هناك إجماعا مغربيا على أن أصلاح القضاء يقع في صلب التحديات التي يتعين رفعها، فلكم أن تختاروا مكانكم في تاريخ بلدكم وشعبكم وأمتكم. وإصلاح القضاء ليس أمنية تقال، بل هو أيضا فعل يمارس وها هي الفرصة أمامكم لتصنعوا لبنة من لبناته الأساسية.
(إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل، إن الله نعما يعظكم به، إن الله كان سميعا بصيرا) النساء:58
صدق الله العظيم.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
محمد المرواني
تم بحمده وتوفيقه بالسجن المحلي بسلا
في 25 شوال1431 الموافق 4 أكتوبر 2010
عن موقع : حزب الأمة
التعليقات (0)