مواضيع اليوم

رسالة مفتوحة إلى قائد الانقلاب العسكري في مصر

أوسلو في 13 مارس 2006
 
دعني أولا أقبّل يديك الطاهرتين اللتين كانتا ترتعشان ردحاً طويلا من الزمن من هول رجفة غضب تمس جسدّك المتماسك دائما وأنت تراقب عن كثب من ثكنتك العسكرية، ومن خيمتك، ومن منزلك، وخلال متابعتك لأغلظ وأقسى لصوص العصر وأكثرهم فظاظة وبجاحة ووقاحة وهم ينهبون مصرك ومصرنا الطيبة الصابرة تماما كما فعل البغداديون في المتحف القومي عندما داست أحذية اليانكي فوق بلاد الرافدين.
لا أعرف أين أنت الآن، ومع من تتحاور، وكيف قضيت ليلتك، ومن هم زملاؤك الأبطال الذين ينتمون لذلك الجيش الوطني العظيم صاحب أسطورة حرب الاستنزاف والعبور؟
كنت وزملاء الغضب تتحاورون عشرات المرات، وتلتقون في أماكن مختلفة، وتشاهدون ضعفنا، وقلةَ حيلتنا، وتفرقَنا، وأحزابنا الهشةَ، ومعارضينا الوطنيين الذين لم يحركوا شعرة واحدة في ربع قرن، بل لا أبالغ إن قلت بأنهم منحوا هذا الطاغيةَ شرعيةً دستورية في تفرقهم وشجارهم وأولويات العمل الأناني الذي جعلهم أوهن من بيت العنكبوت في معارضتهم لأعفن الأنظمة الفاشية في تاريخنا الحديث.
إن أكثر الحركات المعارضة شعبية وهي ( كفاية ) لا تستطيع أن تجمع ثلاثة آلاف معارض لمدة ساعتين في قلب عاصمة الملايين الذين لا يختلف اثنان منهم على كراهيتهم لمن أوصل بلدهم لذلك العمق من القاع.
لعلك انتظرت مع زملائك سنين عددا، وحمل لك فجر كل يوم أملا كاذبا أننا قادرون على الغضب، وأن روحا مصرية معبئة بالكرامة ومفعمة بنفخة سماوية ستسري فجأة في ملايين من المهانين والمعذَبين والمضطهَدين والجوعى والعاطلين عن العمل والباحثين عن سكن كريم والعارفين بتفاصيل عملية النهب المنظَم لوطنهم الغالي والرافضين للطاغية وابنه والمتألمين للظلم الواقع على عشرات الآلاف من المعتقلين ظلما وبغيا وعدوانا ...
وربما ذهب بك الظن وزملاؤك الأحرار أن تفاصيل المشهد الكارثي المصري ستحرك غريزة الدفاع عن النفس والأهل والأولاد والأحفاد، وتلك الغريزة تولد مع الإنسان، وهي جزء من خلايا الكائن الحي فتتحرك القطة للدفاع عن أولادها، وتنتفض أناث ذوات الأربع إن اقترب خطر من أشبالها، وتحفظ تلك الغريزة للكائن الحي مكانا له في عالم الأحياء وإلا انقرضت واندثرت.
أما نحن، سيدي القائد العسكري، فلم تحرك فينا أي ضربة كرباج غريزة الدفاع عن النفس، وشراسة الغضب من السيد المستبد، وروح الحرية والعزة والكرامة وحب الوطن إلا في ضربة الجزاء باستاد رياضي حيث ضجت أرض الكنانة كلها ببركان من الفرح والتكاتف والتعاضد الذي لو تحقق مثله في رفض قانون الطواريء والفساد والسرقة والنهب وتهريب أموال الوطن وتسليم خيراته لأصدقاء الرئيس وابنه وبيع ما تبقى من أعرق أمم الأرض لكل من هب ودب فضلا عن الظلم والبطالة والغلاء والفوارق الشاسعة بين طبقتي الأسياد والعبيد لكانت مصر ترفل في أسعد أعيادها وهي استقلالية قرارها وطرد ومحاكمة كل من أراد بها سوءا.
أعرف أنك هناك، وأن الأرق يطاردك، وأنك ورهطا من هؤلاء الفتية الذين آمنوا بربهم ووطنهم وحريتهم وكرامتهم تنتظرون فجرا جديدا لن يشرق إلا بكُم، فنحن لا نستطيع أن نجمع عشرة آلاف أو عشرين ألفا أو خمسين ألفا من أكثر المتضررين والغاضبين على الحكم والناقمين على هذا الرجل المتغطرس والمتكبر الذي يعز عليه وتأخذه تلك العزة بالإثم أن يلقي إلينا حتى بفتات كرامتنا، فيفرج عن المعتقلين، ويطالب بوقف سلخ جلودنا في أقسام الشرطة، ويرفع عنا في ولايته الخامسة قانونا ترفضه الشعوب الحرة لأكثر من ثلاثين يوما ويصر هو على حكمنا به لربع قرن.
كنت أعلم أن جيشنا الوطني برغم أجهزة استخبارات الرئيس حسني مبارك التي تراقبكم في السر والعلن، وتنقل إليه همساتكم، وتعد عليكم نبضات قلوبكم، وتصغي لحفيف أي ورقة تتصفحها أيديكم، سيفتح كوة صغيرة يطل منها أبطال أحرار كانوا يتوجعون، ويتألمون، ويكتمون حزنا على مصر وأبنائها وأهلهم، فيرون بوضوح وجلاء أبشع مشهد صفري موجع في تاريخ وادي النيل منذ بناة الأهرام.
هل تعلم وزملاؤك أننا انتظرناكم طويلا، وحاول المخلصون والشرفاء والشجعان ما وسعهم الجهد، فمنهم من كتب، ومنهم من تظاهر، ومنهم من كشف عورات هذا النظام البائس العفن، ومنهم من سعى لتنظيم أو جماعة أو رفع شعارات مناهضة للتوريث والتجديد والفساد، ومنهم من ينام الآن في زنزانة باردة ومظلمة وكئيبة يدفع ثمن رفضه الخنوع والخضوع، لكننا فشلنا، وعجزنا، وتفرقنا، واختلفنا، وسقط الكثيرون في الطريق وهم يفاوضون اللصوص، ويمسكون العصا من الوسط، ويطمعون في وسام النضال ورضا النظام معا، وتختلط عليهم الجنة والنار، ويتعطرون برائحة تزكم الأنوف، ويطلبون منا أن ننتظر ملائكة مُسوّمة من السماء تنزل على قصر العروبة وتطلب من أقسى ساديي العصر أن يسلم الوطن لأهله، والأرض لأصحابها، وخيرات أم الدنيا لشعبها الصابر.
سيدي الرئيس وقائد الانقلاب العسكري القادم،
هل تعرف أن أبناء شعبك يرتعدون خوفا من ذلك اليونيفورم العسكري الذي يتعارض في أذهانهم مع الحرية والكرامة والتطور، وأن انقلابا عسكريا يعني عودة الأحذية الثقيلة لتفرط في استقلال الوطن بدلا من تحريره، فالعسكر يفتحون المعتقلات لمزيد من الضيوف وليس للافراج عن المظلومين.
والعسكر يكرهون القلم والكاتب والابداع والقانون ومؤسسات الحكم المدني ولجان حقوق الانسان ...
لكنني لا أملك إلا أن أعترف بأن عجزنا وقلة حيلتنا ويأسنا وبؤسنا وجبننا وتفرقنا وتشرذمنا ولسعة السوط على ظهورنا أجبرتنا على انتظار الأمل الوحيد الذي قد يصيب وقد يخيب، ولكن يشفع لنا إيمان صادق بجيشنا الوطني العظيم، وبأنك وزملاء الغضب أبناء هذا الشعب، هزمتكم نكسة يونيو، ورفعتم رؤوسكم في حرب الاستنزاف والعبور.
عندما تتحركون بقوة الإيمان بربكم ووطنكم وحبكم لأبناء هذا الشعب العاجز عن الغضب، فستجدوننا رهن الاشارة، وسيخرج الملايين في كل شوارع تلك الأرض التي تخضبت بأنتن أنواع الظلم والفساد والاستبداد والنهب يؤيدونكم، ويُقَبلّون العلمَ المصري، ويقطعون الطريق على من أراد أن تأتي الدبابة الأمريكية فنستبدل الذي هو أدنى بالذي هو شر.
بلى، تلك دعوة صريحة لجيشنا الوطني الخارج من رحم الأرض الطيبة، والذي نعرف أن ولاءه لمصر وأهله وأبناء شعبه وليس لهؤلاء اللصوص المستبدين المفرطين في استقلاله والعاقدين العزم على تحويله في غضون سنوات إلى ملكية خاصة لأسرة مبارك وأجيال من بعده ومن صُلبه.
إنها تأييد مسبق لكم قبل أن تعلنوا البيان رقم واحد.
أكاد أشعر بقشعريرة نشوة كأني خارج من أظلم قبو تحت الأرض إلى معرض للزهور تهب عليه نسمة ربيع رقيقة وتتسلل إلى أذني كلمات سيد درويش .. قم يا مصري ، مصري دايما بتناديك.
أكاد أسمع كرامة المصريين تصيح في وجهي غاضبة لأنني قسوت عليها سنين طويلة، وشككّت في وجودها، واستفزت كتاباتي أصحابَها.
أكاد أسمع هتافات الملايين تشكر العناية السماوية، لا لأن ضربة الجزاء الكروية أعادت لنا كرامتنا، ولكن لأن وطننا كله عاد إلينا.
أكاد أرى رؤي العين والقلب الرئيس حسني مبارك وأسرته وزبانيته ولصوصه المقربين يطرقون خجلا وهم يتوجهون لمحكمة الشعب ليسمع القاصي والداني تفاصيل أبشع جرائم العصر.
سيدي القائد،
هل تسمح لي أن أرسل لك تهنئة قبل أن تتحرك وقواتك وزملاؤك الأحرار الأبطال، بل قبل أن تذيع البيان رقم واحد، فقد انتظرتك طويلا .. طويلا .. طويلا .




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات