بعضُ الفــُرَص ِتأتي كأنها دعوةٌ إلىَ التـَوّبة، فإذا تمَّ الإعراضُ عنها أسرعتْ إلىَ من يـُقــَدّرها حقّ قـَدْرِها!
عندما يتوب الطاغيةُ، ويعتذر، ويبكي بـحُرْقـةٍ علىَ ما فـرَّط في حقوقِ أبناءِ وطنـِه، فإنَّ فرصةَ الصــَفـْحِ عنه تـَكـْبـُر إذا كانت جرائمُه تملأ راحة اليد، وتصغر إذا زاد عددُ كـِلابِ قـَصْرِه عن أيام حُكـْمـِه.
لكن دموعَ الطــُغاة عصيـّةٌ علىَ العـَيـّن رغم تمساحيتـِها، وتنهمر إذا تمكنتْ منه جماهيرُ شعبـِه، فقد يستجديه المعذَّبون في الأرض أربعين عاماً فلا يكترث، وإذا وقع بين أيديهم، وتوسل إليهم أربعين دقيقة، فعذابات العقودِ الأربعة يختصرها الغاضبون في تلك الدقائق.
صمتَ السادات في حضور عبد الناصر فأضحى بعد رحيل الزعيم سيـّدَ القصر. وسكت مبارك .. نائبُ الرئيس فرفعته نيران خالد الاسلامبولي إلى قصر العروبة بعدما اختبأ تحت المقاعد بجوار زعيمه القتيل.
وتركـتَ أنت الثكنة العسكرية لتصطحب مبارك في جولاته، وصولاته، وحفلاته، فلما أسقط ميدانُ التحرير طاغيتــَنا الثمانيني، أصبحتَ، سيدي المشير، الرئيسَ، والزعيمَ، والقائدَ العسكريَّ، والشاهدَ الأهمَ في المحكمةِ، وحاملَ أسرار وأختامِ الدولة.
رأى الساداتُ شعبيةَ عبد الناصر رغم المرارةِ والهزيمةِ ويوميات حربِ الاستنزاف فلمْ يتعلمْ أنَّ الشعبَ يأخذ بيد زعيمــِه ليرفعه حتــّى لو سقطا معاً!
وأحصىَ مبارك الذين خرجوا في جنازةِ السادات فوجدهم أسهلَ من جدول الجـَمـْعِ لتلاميذ المرحلةِ الابتدائية، ولم يتعلم!
وجاء دورُ طاغيةِ الطــُغاة لأكبر بلدٍ عربي فحركتْ الملايين قبضاتــِها في الهواءِ، ثم رفعتْ الأحذيةَ فتنـَّحىَ الرئيسُ مخلوعاً، وخــُلع نائبــُه مــُتنحيـّاً، وأهداك المصريون أمانةَ الأمةِ الغاضبة. وكانت النيةُ مــُنعـَقـِدةً علىَ عمل فورماتيرنج لصُحْبـِتــِكَ معه، كما يــُلغي برنامجٌ جيــّد كـُلّ الآثار من الهارديسك.
وقف أمامك ثمانون مليونًاً علىَ استعدادٍ للدفاع عنك، وحمايتــِك شريطةَ أنْ تكتمل ثورةُ يناير بكل مــَطـَالبـِها، لا تنقص واحدة، وهي فرصة لا تأتي إلا لجنرال واحد بين كل مئة جيش، ولا تعود مرة أخرى!
سيدي المشير،
كان خيارُك لا يحتاج لأكثر من دقيقتين لتتخذ قرارَك النهائي فتنحاز إلى الخالع أو المخلوع، إلى المظلوم أو الظالم، إلى التعجيل أو التسويف، إلى الملائكة أو الشياطين، إلى الشعب أو .. الديكتاتور.
الدقيقة الأولى تستدعي خلالها نهايات كل الطــُغاة لتنفخ فيك روحَ الحقِّ والحقيقة، والدقيقة الثانية لتمسح تاريخــَك كلـَّه معه، وتتبرأ من جرائمـِه، وتساعد الشعبَ على الإمساك بهم، ومحاكمتهم محاكمة عادلة، وإعادة أموال المصريين التي نهبها مبارك ورجالـُه!
وأنت تعرفهم كما تعرف أهلَ النوبةِ الطيبين، فعشرون عاماً مع الرجل الذي لم يكره المصريون مثلـَه أحداً، ولم يبغض المصريين مستبدٌ كما فعل المخلوعُ، هي فترةٌ كافيةٌ ليلتف حبلُ المشنقة حول مَنْ أذاقوا شعبــَنا الويلات، ونهبوا خيراتِـِه، وأفسدوا الحياةَ اليومية، وصنعوا التزويرَ والتزييفَ، وكانوا حُرّاساً مخلصين لكل اللصوص، وهم قـَتـَلة، ومجرمون، وقـُساة، وكاذبون حتى النخاع.
لكنك، سيدي المشير، نقلته إلى منتجع شرم الشيخ، وتركت زكريا عزمي لعدة أشهر حتى يقوم بترتيب عملية نقل السلطة فيصبح الطاغية ورجاله أشباحاً تحكـُم من وراء ستار أو من خلف القضبان، وأغمضتَ العينَ علىَ أم الجرائم وهي أموال شعبنا في الخارج وكان من المفتـَرض أنْ لا يعود أيُّ شخص في المجلس العسكري والحكومة إلى بيته وأولاده وزوجته قبل استرداد الأموال المنهوبة حتى لو اضطررتم لعمل محاكمة ثورية عاجلة تــُختـَم في أيام معدودات، فلا ينتهي شهر فبراير إلا وتكون مصر قد تخلصت نهائيا من مبارك وولديه وزوجته والعصابة برمتها.
رهانُ السلطة لا يحتمل الخيارَ الثالثَ، فموسوليني وقف فوق دبابةٍ وسأل عن القوة العسكرية للبابا، فأعدمه الشعبُ الإيطالي في نهاية الحرب العالمية الثانية. ومنجستو هيلامريم ظن أنَّ الجيشَ يحميه من الشعب، فقتلَ من أبناء أثيوبيا ربع مليون في عشر سنوات، وانتهى به الأمر لاجئا لدى صديقه موجابي في هراري.
لا أدري شيئاً عن كنه رهانك، سيدي المشير، فهو ضد طبائع الأشياء، وعكس مسيرة الثورة، وإخفاء لمعالم جريمة لو استوقفت طفلا من أطفال الشوارع في القاهرة فسيسردها على مسامعك كأنه مؤرخ صغير، ومع ذلك فنحن نقترب من الاحتفال بالعيد الأول لثورة 25 يناير، ولا يزال صندوق الأسرار في جعبتك.
نحن لا نعرف، وليس من حق الشعب أن يعرف، يوما واحدا من يوميات هؤلاء الأوغاد الذين دمروا، وخرّبوا، وسمَّموا، وسرّطـَنوا، وسرقوا، وقتلوا، وزيـَّفوا، وخدعوا، وكادت مصرُ تــُفـْلـِس من نهم الجشع الذي جعلهم يـُقـَسِّمون الوطنَ فيما بينهم، من أراض زراعية، وعقارات، ومصارف، وشواطيء، واحتكار للمواد الغذائية، فكان أثرياء أوروبا والخليج يخجلون من فقرهم مقارنة بحيتان مصر في عهد مبارك.
هل هم حقا في السجون والمعتقلات يأكلون مثلما يأكل السجناء الآخرون، وينامون على (البـُرش)، ويتبوّلون في جردل قذر بجوار باب الزنزانة، ويتغوّطون في مرحاضٍ مفتوح بابه، يتلصص عليه شاويش جــِلـْف، خشن الصوت، يتعجلهم كل دقيقة، ويستحمون مرة واحدة في الأسبوع ولمدة سبع دقائق لا تزيد ولكن ،، تنقص؟
سيدي المشير،
ومر عيد ميلادِك الذي لو انتهجت نهج مانديلا ومهاتير محمد وسوار الذهب وحتى رجب طيب أردوغان لكانت بطاقات التهنئة متراصة تـُوصـِل قصرَ العروبة بشواطيء الثغر، لكن التهنئة من السفاح الطاغية آذتك، ولو كنتَ فرحاً بها، ومع ذلك فحيرتي ليست في التهنئة فقط، إنما في الحوار بينك وبينه!
لا أتخيله، ولا أريد أن يتعرف علي تفاصيله جهازي العصبي الذي لن يتحمل الصدمة!
هل خاطبته بالسيد الرئيس ورد عليك بــ ( يا طنطاوي)، أم خاطبك بالسيد المشير ورددت عليه بــ (أبو علاء)؟
هل تمنيت له طول العمر، وأياما سعيدة، وعرضت عليه المساعدة، ودعوت له بالصحة والعافية، وطمأنته بالبراءة؟
هل كان في جناحه بالمستشفى، أم تساوىَ مع الآخرين، واشترى كارت شحن للموبايل بعشرة جنيهات من فودافون أو الاتصالات؟
وقام صاحب العظمة(!) ملك البحرين بزيارته ليشدّ من أزره، ويؤكد له أن مملكته تفتح ذراعيها للصديق العزيز، وأنه سيسعى إلى وقف تلك المحاكمة، فالشعوب لا تحاكـِم أولي الأمر، والظـَهـْرُ لا يعاتب الكرباج، والعبيد إذا ثاروا نلتفّ عليهم بالذكاء والحيلة والدهاء والحنكة وخبرة الأسياد.
سيدي المشير،
لا أدري بماذا يهمس في أذنك المحيطون بك؟
أغلب الظن أن الاسطوانة المشروخة تتكرر، فيؤكدون لك أن شعبيتك في أعلى مستوياتها، وأن الجنين في بطن أمه ينطق اسمك، وأن الجيش كله رهن إشارتك، وأن الأحزاب الكرتونية والورقية وأحزاب الوجبات السريعة فضلا عن القوى الدينية المسيطرة على الشارع والعقول تبايعك أميراً للمؤمنين والعلمانيين، وهؤلاء من يتزوج من أم أحدهم الأرمل، يعتبرونه الأب الحقيقـي، ومن يجلس في قصر عابدين حتى لو كان طباخ الريـّس يخضعون له قبل أن يقطع رقبة أي منهم.
لو أتيت لي بالشمس والقمر شاهديـّن على أنك لا تستطيع أن تــُعـَلـِّم البلطجية والمجرمين والقبضايات وأباطرة الإجرام أن يسيروا بجانب الحائط خافضي رؤوسهم فلن أصدق، فالمجلس العسكري والجيش والأمن القومي وأجهزة المخابرات ووزارة الداخلية يعرفون عدد أسنان أي مجرم ومسجــَّل خطـِر هارب ومطلوب للعدالة، ويعرفون أين ينام، ولو أخفت ديدان الأرض لديها بعضهم لبعض الوقت، وبإمكانك، سيدي المشير، أن تجعل مصر كلها آمنة مطمئنة، وأن لا يـُطــِلّ مجرم أو بلطجي من نافذة أو كـُوّة أو حتى ماسورة مجاري.
فكيف لي أن اصدق عملية استيلاء كتيبة من البلطجية على 2000 وحدة سكنية في مدينة 6 أكتوبر، وهذا لم يحدث في تاريخ عتاة الإجرام من كاراكاس إلى سان خوزيه، ومن جوهانسبرج إلى بوجوتا، ومن ريو دي جانيرو إلى مكسيكو سيتي؟
هل المطلوب مـِنـّا حُسـْن النيــّة حتى لو انتقل ختم ضربنا على أقفيتنا من مخلوع إلى موضوع، ومن مستبد إلى منتدب، ومن ناكث بالعهد إلى مؤجل للوعد.
لو جلستَ، سيدي المشير، مع أحد أحفادك وطلبت منه البحث عن اسمك في المواقع والمنتديات والفيسبوك والتويتر، أي بين عشرة ملايين شاب وفتاة من أم الدنيا، فسيقرأ لك حفيدك ما يجعل كل الأوسمة والنياشين التي تزين كتفيك وصدرك تقفز من موضعها، فشعبيتك تغوص في الصفر بعدما كان بإمكانك أن تجعل كل الأدعية تبتهل إلى العلي القدير، ليلا ونهاراً، أن يحفظك لمصر، وتمسح ذاكرةُ المصريين من أرشيفها أكثر من عشرين عاماً قضيتها أنت ملامساً كتف الطاغية، وصامتاً على دراكيولا المصريين عندما كان وأولاده يـَمُصّون دماءنا، ويقتطع أطباؤهم من أجسام المصريين في المستشفيات ما تحتاجه الأجسادُ المعتلة لحيتان العصر الأسود.
لا أدري كيف يعمل ميزان العدل لديك؟
باقي من الزمن أربع سنوات ليبقى على بلوغك المائة عام عشرون أخرى، فكيف قمت بالعملية الحسابية لتنتهي إلى التصويت لحساب فلول النظام، من فوضى وبلطجة واستمرار السرقة والنهب واستدعاء المتخلفين لتولي مناصب القرار السياسي والاجتماعي والتعليمي والإعلامي والسياحي والديني والفني؟
النوبيون يختارون دائما مجرى النيل فهو متجدد وأكثر نظافة ويسير في الاتجاه الطبيعي، وأنت نوبي أصيل، وفي لحظة من لحظات انكشاف السماء على الأرض التي تشبه ليلة القدر، والشياطين مصفدة في معتقل طرة، يسألك التواب الرحيم إن كان قد جاء موعد التوبة، والانحياز إلى الشعب العظيم، والقضاء على شياطين الإنس من رجال وأسرة وعائلة وأقارب مبارك، فتأتي إجابتك بالنفي أو التأجيل أو التسويف أو الصمت على من ستقرأ أمامه يوم القيامة كتاباً منشورا!
الفقرة ( ج) من المادة 14 للشرعة العالمية لحقوق الإنسان تقول عن المتهم:
أن تجرى محاكمته دون تأخير زائد عن المعقول!
لكنك تركته ينتجع في شرم الشيخ كأنه لم يغادر قصر العروبة بعدما نطقت أحذية الملايين بلعنات عليه وعلى عهده، ثم تحت ضغوطات ميدان التحرير والاعتصام تم عرضه على محكمة لو وقف أمامها متهم بسرقة ملابس قديمة من حبل غسيل لاعتبرها إهانة، ومع ذلك فقد تحولت إلى جلسات سرية، ثم تم تأجيلها فالجلاد في القفص يريد أن يستريح، ويستدعي الشهود قبل حــُكم البراءة.
سيدي المشير،
لم يتعرض شعبنا الرائع والثوري والكريم لمهانة أكثر من مشهد محاكمة جزّارعلى ضحايا سقطوا غدراً في ثلاثة أسابيع شريطة أن نهيل التراب على آلاف من ضحاياه في ثلاثة عقود!
هذا الازدراء للمصريين هو دعوة صريحة لعودة الثوار وأهلهم وأبنائهم وكل من كان في صدره ذرة حب لمصر لاعتصام ملاييني لا ينفضّ حتى يلتف حبلُ المشنقة حول أعناقهم جميعاً، فالمسرحية أسخف من كل ما عرضه مخرجون معاقون ذهنيا، والمحكمة بهذه الصورة التي تبصق خلالها على الثورة وشبابها، وعلى غضب المصريين زاعمة أنها تحاسب الزعيم على عدة أيام وتغفر له ثلاثين عاماً لا تستحق أن تـُمـَثــِّل القضاء وميزان العدالة.
هل أحدثك بما لم يتجرأ الأقربون منك على الهمس به؟
إنها غضبة جديدة لن تبقي ولن تذر، ولو أصدرتْ كل القوى الدينية بيانات ترفض الخروج على الحاكم أو أمير المؤمنين، وترى معصية الناس لمشيرهم كالكفر بالله أو أشد، فإن المصريين قد عرفوا كلمة السر للثورة دونما حاجة لهاكرز أو لص خزائن أو .. متسلق على المواسير.
المصريون الآن قادرون على الدعوة لانتفاضة واعتصام وتكملة الثورة في أقل من يوم، وحينئذ ستطول قائمة المطلوبين، بل ربما تتوجه الملايين لمعتقل ومستشفى (طره) لتأخذ بثأر شهدائها قبل أن يـُصْدِر المستشار حـُكــْماً بالبراءة، أو يقوم مـَلـَكُ الموت بزيارة الطاغية ريثما تـُحْضــِر له ممرضة حسناء طعام الإفطار.
سيدي المشير،
لو أتيت لي بالمشتري والمريخ شاهديـّن على أنك لا تستطيع معرفة قاتلي الشباب الشهداء، وأن أدلة إثبات مجزرة (الجمل) اختفت تسجيلاتها من كل أجهزة التصوير الأمنية والمخابراتية والعسكرية والموبايلية لآلاف الشباب فلن أصدق حرفاً واحداً منها، فالمجرمون القـَتــَلةُ موجودون بيننا، وتستطيعون قبل انبلاج فجر اليوم التالي أن تأتوا بهم جميعا، ولو أردتم تجميع كل أباطرة الإجرام والبلطجة والاغتصاب والاعتداء على الناس وممتلكاتهم، فمعسكر وحيد في منطقة صحراوية معزولة يمكن أن يستوعبهم قبل أن تستيقظ صباحاً وترتدي بدلة المشير .. القائد الأعلى للقوات المسلحة!
إعادة أموال المصريين وهي بعشرات المليارات مرهونة بشرطين: أن يصدر حــُكم ضد هؤلاء الأوغاد اللصوص، وأن تكون السلطة الحالية في مصر مهتمة باسترداد أموال الشعب المنهوبة، وتقترب الثورة من عيدها الأول، ولم يتحقق وعدٌ واحد، بل انشقت الأرض وخرج منها شياطين في صورة مصريين متطرفين، وطائفيين، وكارهين لبعضهم، وأصحاب سوابق إجرامية.
الوعد الوحيد الذي أوفىَ به طاغيتنا المخلوع هو: إما أنا أو .. الفوضى!
وبمليارات يلعبون بها على الساحة المصرية رغم إغلاق أبواب الزنزانات عليهم، يمكنهم أن يحوّلوا مصر إلى سلخانة، ومذبحة، ومجزرة تصغر بجانبها رواندا، فقد تلقوا تربية من مبارك، وتعلموا القسوة، وظهرت أنيابهم في الاعتداءات المتكررة على شباب آمن وعاشق لمصر.
خليط من اللعبة الطائفية، والتطرف الديني، والاستعانة بقوى خارجية، والتمهيد بفلول النظام، والدعم السخي من أنظمة شقيقة تريد أن تجعل الدستور مكتوباً بشعيرات اللحية، ومــَحْميـّاً بجلباب من ألفوا عليه آباءهم، فصادَروا العقل لحساب النقل، وقرؤوا التاريخ من مؤخرته، ولمــَّعوا سيوفـَهم لقطع رقاب مُخالفيهم.
سيدي المشير،
حــُكم مصر ليس نزهة في القناطر الخيرية، وليس اجتماعا للمجلس العسكري لاتخاذ قرار بشأن تعيينات ومناصب والرد على تهنئة من زعيم دولة، لكنها مهمة شاقة حتى على الأنبياء إن لم تدعمهم السماء برسالة، فكيف هي بين يديك؟
حــُكـْمُ مصر، يا سيدي، يحتاج إلى كاريزما، وعبقرية، وثقافة رفيعة، وإلمام غير عادي بقضايا وهموم المجتمع، وإخلاص لا حدَّ له، وتاريخ طويل من المعارضة ومناهضة الطغيان، ومنافحة الاستبداد، وجهاز عصبي يصل بسهولة إلى مرحلة الغليان مع أول مشهد للظلم تقع عليه عينا الحاكم.
الحاكم العبقري يهتم بما لا يعرضه عليه مستشاروه، وما يخفيه عنه مساعدوه، ويبحث عن النقد ليتعرف على ملامح الوطن بين يديه، ويعطي أذنيه لمناهضيه لعلهم يشيرون إلى أخطائه، وعيوبه، وضعفه.
أما صناعة الخوف فهي الأسهل، لأنها تــُعـَبــِّد الطريق للعبودية والكراهية، لكن هل هناك حاكم يضمن رأسـَه فوق عـُنقــِه إذا زرع الخوفَ في نفوس شعبه؟
سيدي المشير،
الشعب عرف طريقه إلى الغضبِ، والغضبُ يحمل في أحشائه براكين، وزلازل، وأعاصير معجونة بحب الوطن، ومصر قبلت المهانة قبل 25 يناير، وهي ليست مصرَ التي أعيدت إليها الروح بفضل شباب الثورة.
إنَّ الانحرافات التي أفرزها مبارك لا تزال كما هي، ودولة بدون أمن كوطن يجبر أبناءَه علىَ الرحيل عنه، أو البقاء فيه للدفاع فقط عن الأهل والأحباب.
من العبث أن أحَــَدثـَك عن جرائم الطاغية المخلوع، وأنا علىَ يقين من أنَّ لديك تفاصيلَ مـُفـْزعة، ومُروّعة، وكارثية عن فواجع الوطن خلال الفترة التي قضيتها بجانب المستبد اللص، فهل ستحتفظ بها إلىَ يوم القيامة، أم سيستيقظ ضميرُك من هول ثـِقــَلها عليه، وتعيد للثورة مصرَنا الحبيبة؟
أنت أمام اختبار العمر كله قبل أن تحتفل الثورة بعيدها الأول، فسـُحـُب الغضب التي تتجمع كلها تنذر بما أخفاه عنك كل الذين يرجون رضاك.
سيدي المشير،
قارئة الفنجان تقول لك بأن طريقك مسدودٌ .. مسدود، وعليك أن تختار للمرة الأخيرة قبل هبوب أم العواصف بين اثنين: الشعب أو مبارك!
من الذي يــُعطي الأوامرَ لضباط الأمن بترك الفتوات والبلطجية يفتكون بالناس، ثم تأتي قوةٌ متواضعة على استحياءِ لتـُحصي الضحايا؟
الجريمةُ مــُقـَيّدة ضد مجهول كما هي جريمة قتل مئات الشباب، وأيضا جريمة انتهاك عِــِرض أمة لثلاثين عاماً تحت سمع وبصر الدنيا ومن فيها، ولا تزال مقيدة ضد مجهول، والسيد المستشار يراها مشكلة صغيرة يمكن تأجيلها مرات و .. مرات!
سيدي المشير،
هموم الأقباط ساذجة، وطيبة، ومتواضعة رغم أنهم شركاء لنا، نحن المسلمين، فهم لا يريدون أكثر من مواطــَنة كاملة، ومساواة عادلة حتى لو كانت في الظلم، ودور العــِبادة لن ينقص بها عددُ المسلمين، بل ستحتضن المسيحيين بعيداً عن أجواء مشبوهة في الشارع والمقهى والفراغ.
يريدون مناصبَ في كل وظائف الدولة، وهو حقٌّ لهم، حتى لو أراد القبطي أن يصبح طالباً في الأزهر، ويتعلم دين إخوانه المسلمين، ويــُبدع في أيّ تخصص، فله ما لنا، وعليه ما علينا.
يريدون انتزاعَ مشاعر الفوقية التي صبغت عقولَ المتدينين الجــُدد، فالقبطي ليس الآخر، وليس من أهل الذمة فكلنا نملك نفس الحق في الوطن، وليس في حماية المــُسلمين، فنحن نجد صعوبة جمـَّة لحماية أنفسنا، فكيف نحمي شركاء الوطن.
يريدون وقفَ الفتاوىَ الغثة، والنتنة، والمتخلفة التي نستوردها لتضرب الوطن في مقتل، وتغتال مبدأ المواطنة.
مطالبُ الأقباط، سيدي المشير، يمكن حلُّ أكثرها بين عشية وضحاها، لتبقى الكلمة الأخيرة للتربية والتعليم والبيت والأحزاب والإعلام،وهذا لا يعني تبرئة جماعات من أقباط الولايات المتحدة، وأخرى من مهووسي الفضائيات يضربون في معاركهم تحت الحزام، وتوجيه الإهانات للإسلام وقرآنه المجيد، ونبيه الكريم، لكن الطالبانيين الجـُدُد يريدون سرقة الحق الإلهي في أبواب الجنة.
سيدي المشير،
هل تستمتع بأعلى منصب في الدولة كما كان يبتهج به من سبقوك؟
إنه منصب أوهن من بيت العنكبوت إذا كان ضد إرادة الشعب، وهو منصب أبدي خالد لو كان ممهوراً بتوقيع أفراد شعبــِك، حتى لو جاء أجـَلـُك، وغاب جسدُك، فستظل روحــُك مُحــَلقة لأجيالٍ قادمة، فماذا ستختار؟
لغةُ الســُلطة خادعة، وكـُرسي العرش ساحر، قد يتبادر إلى ذهنك أنه لا يهتز، وأمامه يأتيك الناسُ من كل فجٍّ عميق فتظن أنهم يــُثنون عليك، لكن الصوتَ الذي لا يتناهى إلىَ سمعــِك يُزلزل في المستقبل أكثر العروش ثباتاً، كعرش الطاووس البهلوي، وعرش الإمبراطور هيلاسلاسي الذي كان يجلس وعن يمينه ويساره أســَدان!
دعني أجمل لكَ بعض النصائح رغم معرفتي اليقينية بأن العسكر لا ينصتون إلا لقعقعة السلاح،فأحذية أصحاب اليونيفورم إذا انغرست في البساط الأحمر لقصر الرئاسة تلتصق به حتى يأتي جنرالات آخرون أو يسبقهم .. ملك الموت.
1 قدم اعتذارا علنيا وصريحا ومؤثرا لشعبنا المصري على سنوات صمتك على جرائم مبارك، وعلى الشهور التسعة الماضية التي لم تنصف خلالها الثورة.
2 نظف مصر من كل البلطجية وأصحاب السوابق والإجرام، وأشدد عليهم، واعزلهم في معسكرات تعليمية وتثقيفية لثلاث سنوات.
3 صارح شعبك بأن محاكمة مبارك شكلية، وأن القاضي لا يملك من أمر حكمه إلا المطرقة ورفع الجلسات أو الانسحاب، أما الجلاد الراقد أمامه فنجاتــُه من حبل المشنقة فيه احتقار شديد للثورة ولشبابها ولشعبنا المصري.
4 خذ على عاتقك مهمة استرداد كل قرش قام الأوغاد .. أولاد الكلب بتهريبه خارج مصر، فأن تتم سرقة عشرات المليارات من بلد فقير فإن الإعدام سبعين مرة فقط لمبارك ورجاله يبدو كأنه حــُكم البراءة لتاجر مخدرات.
5 انتخابات مجلس الشعب بنظام الدوائر جريمة بكل المقاييس، وثورة مضادة، وحجز الحصانة البرلمانية لقوى الغباء والتخلف والأمية والوصولية والتزلف والنفاق والكيف والقروض .
في جعبتي، سيدي المشير، آلاف الأفكار التي لا تترك صغيرة أو كبيرة في إصلاح مصرنا إلا وبسطتها أمام العقل، ولا أريد أن تطول رسالتي فتصبح مجلدات، ولا أريد اختصارها في عدة فقرات فما يجيش به فؤادي لا تحتمله قلوب مصنوعة من حديد.
سيدي المشير،
الرئاسة التي أنت فرح بها قد تكون مصيدة من القدر، فاهرب من القصر إلى أحضان شعبك، وهو سيعيدك، ربما، لو حققت مطالب ثورته.
أشفق عليك من جبال من الكراهية والبغضاء والرفض والتهكم تطارد اسمك، وإذا لم تفك قيود نظام الطاغية اللعين عن معصميك فإنني أخشى أن يضم الثوار ملفات مبارك إلى أكثر من عقدين كنت أنت ثالث أو رابع رجاله، وحينئذ لن يكون لك مخرج من الاثنين معاً: حساب الدنيا .. وكتاب الآخرة.
لا تصدق شياطين يهمسون في أذنك، ويوحون إليك بأن كرسي العرش يستجديك أن تجلس عليه، ففيه شوك وعذاب ووخز ضمير قبل حساب عسير من الشعب.
سيدي المشير،
العسكر لا يقرؤون، فالتاريخ المزيف يضعه أمامهم مساعدون ومستشارون من نسل الشياطين، فلا تصدقهم، فقد قالوا من قبل للعقيد بأنه رسول الصحراء وإمام المسلمين.
أكتفي بهذا القدر رغم أن في داخلي ما تعجز عن حمله كل جبال الأرض هَـمّاً، وحزنا، وأسفا، وغضباً، وأترك لك الكلمة الفصل، فالعرش كحلاوة الشهد لمن يــُعطي أذنيه لوسوسة المستشارين والمنافقين والإعلاميين والوصوليين وجبناء كل عهد، لكنه قد يحرق من يجلس عليه، فيظن أولا أنَّ دفء الحُكم يسري في جسده، قبل أن يكتشف أنها شواظ من نار.
سيدي المشير،
من قال لك بأنك ستحكم مصر رغم أنف أهلها، فابصق في وجهه فهو لا يعرف كيفية استخدام مقياس الغضب لدى الشعب.
تلك رسالة حب إلى مصر، فهل تعنيك في شيء؟
محمد عبد المجيد
طائر الشمال
أوسلو في 05 نوفمبر 2011
التعليقات (0)