هذا المقال نشرته في نوفمبر 2003، وأعيد نشره الآن بمناسبة تصعيد جمال مبارك ليصبح واقعا وفعليا حاكم مصر ولو حمل لقبا ثانيا كنائب أمين عام الحزب الوطني.
أعيد نشره لعله يغضب هذه المرة قطاعا أكبر من أبناء بلدي..
أعيد نشره لعل من يقرأه يعيد بدوره اكتشاف نفخة من روح الله في نفسه، فيتمرد، ويثور، ويرفض الدور الذي ارتضاه له طاغية مصر مفضلا عليه الدور الذي اختاره له رب العزة .. خليفة الله في الأرض.
الحديثُ إليك وعنك فيه من الأوجاع والآلام والأحزان ما تعجز عن الإتيان بمثلها كلُ عذابات الأرض وفوقهن سبْعٌ شداد!
هل يمكنكِ الآن، وبعد خمسة آلاف عام مِنْ من سن الرشد والنضج والتحضر والتمدن، التمييز بين خصومك وبين عُشاقك؟
هل تستطيعين التعرفَ بسهولة ويُسر على من يحمل لك البغضاءَ ويبتسم في وجهك؟
وماذا عن أبنائك الخَطّائين والعُصاة والقساة والغلاظ الذين التفوا حول مُبغضيك وأعدائك وخصومك يسبغون عليهم الحماية، ويبررون لهم السرقة، ويحللون النهب، ويضعون في قرون الشياطين أجنحة ملائكة؟
ستقولين إن كل الذين ناصبوك العداء اندثروا، واختفوا، وعادوا إلى تراب الأرض وبقيتِ أنت متدثرة برداء السماحة والمحبة، وكأن الخلودَ صناعة سماوية منحتك روحها في حالة استثنائية تم حرمانُ الآخرين منها وبقت حكرا خالصا لأم الدنيا!
أغلب الظن أن بهية لم تعد ترى نفسها في المرآة إلا كما فعلت زوجة أبي سندريلا وهي تسأل مرآتها صباح كل يوم إن كانت هناك في الأرض من هي أجمل منها، ولكن مرآتك أنت تكذب عليك منذ اثنين وعشرين عاما، وتعيد الكذب مئات المرات في كل يوم حزين يسدل ظلمه وظلماته عليك دون أن تلوح على وجهك علائم الغضب أو بدايات الثورة، أو فوران التمرد، والثأر لكرامتك.
ما الذي دهاكِ وجعلكِ مسالمة، خانعة، مستكينة، جاثية، صامتة وقد سلّط عليك السيدُ الرئيس نهّابين، ومحتالين، وقتلة، وعتاة المجرمين، واباطرة الفساد يقتطعون من لحمك كما كان يفعل تاجر البندقية؟
كل الشعوب تثور، وتغضب، وتتمرد إلا أنتِ فقد أحاط بك رهطٌ من شياطين الإنس يمارسون بغاء الكلمة، ويحللون الحرام، ويلمعون الاستبداد، ويؤلهون خادمك، ويقدسون عبثياته، ويستخرجون من أكثر التوجيهات سوءً وفوضوية وتخلفا عبقرية مقدسة كأنها خارجة لتوها من قلب التنزيل الحكيم أو تطهرت بكلمات الوحي قبل أن يبيعها لأبنائك سيد القصر الجمهوري بعابدين.
جمرة من حمم الغضب مَسَتّني عندما قرأتُ أن الرئيس حسني مبارك قام بالغاء سفره إلى منتجع دافوس السويسري لأن تأجير الفيلا لمدة ساعتين والتي كان سيستقبل فيها الملوك والرؤساء تكلف خزينة الدولة حوالي نصف مليون جنيه مصري!
قمة الاستهزاء بعقولنا والسخرية من فهمنا للأمور، وازدراء مثقفينا وسياسيينا ومفكرينا واقتصاديينا، ولو استأجر كل مقار الزعماء لساعتين من الوقت لما دفع هذا المبلغ.
إنها مسرحية هزيلة يريد عرض مشهد منها على أعضاء مجلس الشعب الذين يطالبون بكشف حساب للمسؤولين عن سفرياتهم ونفقاتهم ومشترواتهم.
ولم ينس الرئيس ارسال ابنه جمال مبارك بديلا عنه وكأنه سيقيم في خيمة ينصبها له الوفد الليبي أو سيستأجر غرفة في بيت الشباب أو أحد المعسكرات القريبة من المدينة السويسرية الجميلة.
بعدما أوجعت الرئيس الحملة الذكية التي نظمتها صحيفة العربي الناصرية رافضة توريث السلطة، خرج سيدنا وحاكمنا وزعيمنا ليرفض في كلمات قليلة فكرة توريث عرش مصر ذرا للرماد في العيون التي لا ترى في الساحة كلها غير الشاب الذي يمسك كل أوراق اللعبة ومعها مفاتيح الوطن وألسنة مريديه وأقلام كتبة السلطة وتحت قدميه يجلس عشرات الآلاف من الشباب المغيب عن الوعي والمنتسب للحزب الوطني الحاكم وهم على أهبة الاستعداد للقيام بمظاهرات صاخبة في طول الوطن الحزين وعرضه مطالبين بترشيح جمال مبارك رئيسا بعد كلمات مؤثرة سيهز بها أحمد فتحي سرور نواب الكيف والقروض والانتخابات المزورة، ويضع الشعب كله أمام خيار واحد يكمل به السجن المؤبد لأم الدنيا.
سأحدثك يا كنانة الله في الأرض عن الخطر الذي يحيق بك، وعن سنوات عجاف يكملن سنوات نهب لخيراتك وممتلكاتك وكرامتك واستقلاليتك وحريتك فيرى المرء نفقا مظلما طويلا في نهاية نفق مظلم لم تستطع قوة في الأرض إخراجك منه لأكثر من عقدين من الزمان.
ويبقى سؤالي الذي تكبر علامة استفهامه فتغطي جسدك المريض والمترهل والممتد من حلايب إلى الاسكندرية: كيف استطاع هذا الرجل تخديرك وتغييبك عن الوعي وتنويمك لسنوات طويلة، وولايات أربع، اختار خلالها أكثر أبنائك فسادا وفشلا ولصوصية وضميرا ميتا ليجعل منهم أسيادك الجدد، ثم لا يكتفي بذلك، بل يرفض تعيين نائب له منذ تولّيه الحكم استعدادا لنقل السلطة إلى ابنه، ويزدريك ويحتقرك عندما يطلب بعض أبنائك رفع قانون الأحكام العرفية الذي كان ولا يزال سوطا لاذعا فوق ظهور أبنائك؟
الكلمة التي أقسم بها رب العزة فقدتْ معناها وتأثيرها وقوتها وسلطتها وسطوتها، فيمر عليها المصريون دون أن تُحرك شعرة واحدة في جسد أحدهم، فتنشر الصحافة وبعض الشرفاء وحملة الأقلام الشجاعة وحماة الضمير الوطني مئات الحكايات الموثقة عن كرامة المصري في قسم الشرطة، وعن التعذيب الذي يمارسه حرّاس أمن الوطن في معظم أقسام الشرطة على مسمع ومرأى من منظمات حقوق الانسان في الداخل والخارج, والرئيس حسني مبارك يعلم علما يقينيا بكل حادثة تعذيب وقتل واغتصاب وحرق وتعليق المواطن في سقف مكتب المأمور من رجليه، ولعله يبتسم، وربما يضحك فرحا وبهجة وغبطة وسرورا، وأزعم أنه قد يُسرّ لآذان بعض مستشاريه ومساعديه قائلا: ألم أقل لكم بأن الطريق الوحيد لصناعة المواطن العبد تمر عبر الفلقة في قسم الشرطة أو زنزانة قذرة ضيقة في معتقل كئيب مظلم.
ما الذي يخيف أبناءك في رجل لا يملك من أمر نفسه شيئا، بل هو في الواقع خادم لديك، يحصل على أجره مقابل عمل يؤديه، فإذا فشل أو طمع أو استبد أو خان الأمانة فمن بين سبعين مليونا من أبنائك ستعثرين بسهولة على من يحل محله، ويشفي أمراضك, ويحافظ على خيراتك، ويحفظ للمواطن كرامته.
في الغربة لك عدة ملايين من أبنائك البررة والمخلصين والعاشقين لك والباكين على أحوالك والمهمومين بطول فترة حبسك يقفون أيضا عاجزين عن تحريك شعرة واحدة فأجهزة أمن الرئيس لا تغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصتها ، ولا يغيب عنها اسم أو وظيفة أو متمرد أو غاضب أو ناقد أو لاعب جديد على ملعب السياسة إلا وضعته تحت المراقبة، أو في كشوف الممنوعين من السفر أو المترقب وصولهم لأي مدخل من مداخل الوطن السجن, وهؤلاء لا يستطيعون اقناعك بالمتمرد على سيدك أو خادمك فقد أحكمت طول فترة بقائه العقدة التي لا حل لها.
ما الذي يجبرك على قبول هذا الرجل لاثنين وعشرين عاما حاكما وسيدا ومُطاعا وآمرا وناهيا وكأنك أصبحت عاقرا لا تنجبين في وادي النيل العظيم بعد آخر الفراعنة؟
لأول مرة في التاريخ المصري يدلف حاكم خلسة إلى النفس المصرية، فيعيد ترتيب أولوياتها وفقا لمزاجياته، ويعبث بالمشاعر، ويخلط الأحاسيس، ويفجر طاقات من اللامبالاة بالوطن فتخرج إلى العلن في مشهد معتم عل شكل سلوكيات لا يصدق من عرف مصر قبل الرئيس حسني مبارك أنها فعلا أم الدنيا.
عالم عجيب من الفهلوة والاحتيال والنصب صنعته رؤية الرئيس لنظام الحكم، فتسارع في ظله خصومك وأعداؤك وكارهوك لينتشروا في كل مكان تحت حماية النظام في محاولة لقتلك أو اغتصابك، فكانت القارعة.. وما أدراك بالقارعة.
من أي مكان أبدأ أجدني عاجزا عن تصديق المشهد، ومع ذلك فلنبدأ من الأسرة الكريمة التي تحكم ولا معقب لحكمها.
أما الوالد فمستبد حتى النخاع، يرى الشعب المصري العريق، صاحب أولى حضارات الأرض، وصانع العباقرة والعلماء قطيعا من خدم الأرض، تربطهم به علاقة السيد بالعبد، لذا يرفض رفضا قاطعا فكرة مساواة المصريين في الحقوق وحتى حلم وصول مصري آخر إلى سدة الحكم، فهو منحة أعطاه إياها الرئيس الراحل أنور السادات، وهي ملكية شخصية يورثها من يشاء.
والرئيس حسني مبارك يدوس على الوطن من ثلاث زوايا، أما الأولى فقوانين طواريء ظالمة يحكم بها العسكريون عادة لفترة قصيرة جدا أو في أوقات الحروب والكوارث حتى يستتب الأمر، أما هذا الرجل فيراها حالة دائمة تسمح له بالامساك بأعناق كل مواطنيه في وقت واحد، ولكن مصر العظيمة لم تثر مرة واحدة ، ولم يحرك قانون الاستبداد مشاعر الغضب أو يستفز الأحرار.
والزاوية الثانية هي الرفض الحاسم والحازم أن يكون قريبا منه رجل ثان كنائب له، يحكم في حال غيابه أو مرضه، ويشاركه المسؤولية والرأي والمشورة، فالرئيس حسني مبارك من فرط احتقاره وازدرائه للمصريين يرى نفسه أرفع وأكمل وأبهى من أن يحل محله شخص آخر ولو ليوم أو بعض اليوم.
وهو لا يتصور أو يتخيل مصريا آخر يسد فراغ غيابه، أو يكتشف بهجة وسطوة السلطة، أو يحمل الزعيم اسما آخر غير مبارك.
فكرة نائب للرئيس مرفوضة لأن كَمّ الاحتقار الذي يحمله الرئيس حسني مبارك للمصريين أكبر من النهر الخالد، وأعمق من البحر الأحمر، وأعصف من رياح الخماسين المحملة بالأتربة والرمال.
لهذا قال الرئيس في حديث صريح للتلفزيون الأمريكي: إن الرئيس السادات محظوظ لأنه عثر علي، أما أنا فلم أجد من بين المصريين من هو قادر على أن يكون الرجل الثاني!
حتى السادة في أحلك عصور العبودية كانوا يمتدحون بين ألفينة والأخرى عبيدهم المطيعين، أما الرئيس حسني مبارك فكأنه تفقد المصريين كلهم في صباح يوم قاهري تظلله سحابة ملوثة، ثم بصق على وجوه كل أبنائك، يا أم الدنيا، مؤكدا لهم أن مصرهم عاجزة عن انجاب شخص يستحق أن يقف بجواره سيدا أو شبه سيد ولو نزع له أظافره وسلطاته.
ثم إن نائب الرئيس تعني بكل بساطة اغتيال حلم الأسرة في أن يتولى مبارك الثاني عرش الوطن المعتقل، ليعيد كتابة تاريخ والده من منظور البطولة وتزييف الحقيقة وتزوير أوراق وطنية ومسح كوارث فترة حكمه من ذاكرة الأمة.
أما الزاوية الثالثة فهي سلطات مطلقة مستمدة من السلطة نصف الالهية التي يتمتع بها سيد القصر الجمهوري بعابدين وتتوزع بالتساوي بين كل ضباط ومأموري أقسام الشرطة في طول مصر وعرضها.
إنها النظرية الأكثر قبولا لدى كل المستبدين والطغاة في ناريخ البشرية، أي اعطاء جرعات من الخوف والفزع والاذلال لجموع الشعب في صور حكايات حقيقية عن التعذيب والتجويع والاغتصاب والحرق وربط أسلاك كهربائية بعورات الرجال وقلع الأظافر، وأقلها الاستدعاء لقسم الشرطة لمسح أي آثار لأحلام الكرامة تكون قد مرت عمدا أو سهوا على خيال مواطن فيظن لبعض الوقت أن له حقوقا في وطنه.
لعلك، يا أم الدنيا، لا تصدقين أن تلك هي العلاقة السائدة بين قاتلك وبين أبنائك، ولكنها الحقيقة المأساوية المُرّة، فكل أبنائك تقريبا، إلا قلة نادرة منهم، يسيرون بجانب الحائط، ويتجنبون وجع الرأس، ويغمضون عيونهم عما يفعله به مغتصبوك.
لم يعد التحريض يجدي نفعا، أو يحرك ذرة غيرة في نفس المصري على وطنه، أو يمنحه شجاعة استثنائية في وقت عصيب، فكل أجهزة الدولة في قبضة الرئيس، كبارها قبل صغارها، ولو اجتمع المشير محمد حسين طنطاوي مع اللواء عمر سلمان وحضر الاجتماع اللواء حبيب العادلي فإن أشباحا خفية تحمي الرئيس سترصد كل حركة وهمسة ونظرة، وستحاول الدخول إلى المنطقة المحظورة في عمق النفس الغاضبة أو المتمردة أو المستاءة لعلها تعثر على أثر لحركة مستقبلية قد تنهي المباركية إلى الأبد.
والرئيس حسني مبارك تحميه أجهزة أمن غربية، وتبلغه إسرائيل عن أي خصوم له، وترصد له أمريكا أي خطر يقترب منه، هذا فضلا عن اثنين وعشرين عاما من الحكم السلطوي المستبد الذي صنع جدارا فاصلا وعازلا يجعل الرئيس في أمن وأمان، ويفصل بينه وبين الشعب، فأصبح كل من يرتبط به مركز قوة .
مع كل هزيمة تخرجين منها وأنت معلمة التفاؤل، وكان هذا دأبك وواحدة من أهم صفاتك، وكان أيضا الدرس الأول بُعيّد القراءة عن انحسار أو هزيمة أو أزمة أو احتلال، ولكن هذه المرة تختلف عن كل المرات الأخرى، فسيّدُك يُصرُّ اصرارا غريبا على تمكين المعاقين ذهنيا، والمسجلين خطرين, وأباطرة الفساد، ولصوص المال العام، وزبانية التعذيب في أقسام الشرطة من رسم كل تفاصيل المشهد الدرامي لك وأنت تحتضرين أمام أعين أبنائك وذلك قبل تسليم ابنه مفاتيح الوطن يعبث به كما يشاء، مع افتراض أنه قد يبقي منه شيء سليم.
اللامبالاة الشعبية هي عنوان العهد القاتم الذي تعيشينه، وشعب مصر العظيم لم يعد قادرا على فرض إرادته ورغبته واختيار الأصلح من بين أبنائك لحكم الوطن الحزين, ولو قصصت عليك ردود أفعال مواطنيك لدى الانتهاء من قراءة مقال عن التجاوزات والجرائم والاهانات والفساد والسرقة ونهب ممتلكات مصرهم لأصابك كمد وهَمٌّ وألم وأسف وحزن يفيض على الأرض الطيبة إلى يوم الحشر.
مثقفون وأكاديميون وسفراء ومفكرون واعلاميون ومسؤولون كبار ومغتربون أحرار يملكون جنسيات أوطانهم الثانية ويفترض أنهم تخلصوا نهائيا من الخوف وملايين من أبنائك يتواكلون على تغيير سماوي لأرضك، وينتظرون نزول ملائكة مسومة تختار من بينهم الأصلح وتصحبه على أجنحتها، ثم تطير به إلى القصر الجمهوري، أو أن يكشر سيد البيت الأبيض عن أنيابه وتحمر عيناه ويلقي كلمة في حديقة البيت الأبيض يطالب فيها سيدك بالحفاظ على كرامة المواطنين، وباجراء انتخابات يتنافس فيها مرشحون مصريون على قدم المساواة مع حاملي اسم مبارك، وبالافراج عن المعتقلين، وبتوقيف فوري لكل انتهاكات حقوق الانسان في أقسام الشرطة وسلخاناتها التي تربّت في أحضان الحُكم، ورضعت من ثدي الحكومة، وحظيت برضا كامل من السيد الرئيس حسني مبارك، فأبناؤك لا يستحقون في نظره معاملة أكرم.
الغضب هو المقدمة الأولى للحرية، والشعوب التي لا تغضب من مغتصبيها، ولا تتمرد على معذبيها، وتنام مساء كل يوم فوق دموعها، ويَدَّعي أبناؤها أنهم لا يملكون من أمرهم شيئا، وأن إرادة السماء فقط هي التي ستنقذهم، لن يُفرج عنها سيدها وستنتقل مِلكيتها من سيد إلى آخر.
كل المستبدين والطغاة يخشون الكلمة الحرة ويمنعونها من الوصول إلى أفراد الشعب، ويطاردون أصحابها، ويعتقلون كاتبيها،إلا في مصر فالسلطة على قدر استبدادها ومطاردتها للكلمة، إلا أنها لا تخشى تأثيرها على أبنائك، فقد نشرت الصحافة في العقدين الفائتين عشرات الالاف من المقالات والتحقيقات والأخبار الموثقة عن كل أنواع الفساد والارهاب والاستبداد والانتهاكات والظلم والقمع والقهر، لكن الحياة تسير سيرا طبيعيا، ويقرأ المصري عن مواطن آخر تلقى طوال الليل وجبات تعذيب في كل موضع من جسده، ثم لفظ أنفاسه الأخيرة على يد ضابط وعدة مخبرين، وقد يبدي تأثره لأقل من نصف دقيقة، ثم ينتقل إلى خبر آخر أو موضوع مختلف تماما، وتنتهي صلته بالمأساة دون أن تمس ولو أقل جوانب مشاعره تأثيرا.
في آلاف المعتقلين الأبرياء، لكن أبناء أرض الكنانة في عهد الرئيس حسني مبارك عبثت بقيم الشهامة في نفوسهم سلطة خططت بدقة عميقة لتحل بدلا من مشاعر الكرامة والشجاعة الأدبية والدفاع عن المظلومين والذود عن الوطن نوعا من التبلد الغريب والجديد على هذا الشعب العظيم.
الآن سأحدثك عن السياحة ....
إنها مصدر دخل في ميزانيات دول العالم كله تقريبا، وتعتمد عليه إسبانيا واليونان ومالطا وقبرص وتونس ولبنان... وغيرها
في مصر وجدها الحيتان الجدد فتحا مُبينا للثراء السريع، ولا يهم في بلد العمالة الرخيصة أن يعمل في الفندق مئتا شخص أو يزيد، ولا تزيد أجورهم عن قيمة ايجار عشر غرف، وتقوم المصارف بالتمويل، وتمنح الدولة تسهيلات في الضرائب تصل إلى أنها لا تتحصل على جنيه واحد لمدة عشرة أعوام ثم تنتقل الملكية لشخص آخر، وتخرج الدولة صفر اليدين كأنها وقعت برغبتها في مخالب عصابة من المحتالين.
شركات السياحة العالمية التي تريد تسهيل أمور ركاب طائراتها تقوم بتسليم مظروف لدى الوصول به مبلغ يتم توزيعه في المطار، خاصة شرم الشيخ، وإذا رفض صاحب الشركة السياحية فسيقسم ركاب طائرته أنهم لن يعودوا لمصر أبدا، فالمتاعب المتعمدة والسخيفة والمضايقات تنتظرهم.
تُميّز السياحة بين المصري وغير المصري، فالأخير يدفع أضعاف الأول بدون وجه حق على الرغم من أن تسعة من كل عشرة سائحين غربيين حرموا أنفسهم طوال العام من متع كثيرة من أجل الادخار لرحلة العمر.
السياحة فهلوة، والمشروعات السياحية الكبرى لا تُنَفذّ على أرض الواقع إن لم يشارك أحد الكبار في الدولة المستثمر، أو يسهل له نظير عمولة، أو يبلع في جوفه رشوة سمينة ليغمض عينيه عن التجاوزات.
لم تحدث سرقات لآثار مصر في القرنين الماضيين كما حدثت في عهد الرئيس حسني مبارك، وهو أمر طبيعي باعتبار الدولة كلها حلالا بلالا لأباطرة الثلاث ورقات .. وفتّحْ عينك تاكل مَلْبَن.
الأسعار في المدن السياحية، خاصة شرم الشيخ، أضعاف مثيلتها في أغلى الدول الأوروبية، ولأن الرئيس لا يحب وجع الدماغ فوزير السياحة يقلد سيده، فيجلس مئات من السائحين في غرفهم رافضين تناول الطعام في مطاعم الفنادق في طول المنتجع السياحي وعرضه، فالسياحة للأثرياء فقط، أو الذين قال داود عبد السيد على لسان حوتهم في فيلم البحث عن سيد مرزوق : مشكلتي أنني كلما أنفقت قرشا، جاءني قرشان!
لقد فشلت شركة مصر للسياحة، وساءت سمعة مصر للطيران، وخسرت الدولة مليارات كان من الممكن أن تدخل خزينتها من مجموع المشروعات الكبيرة والضخمة والكثيرة والمعفاة من الضرائب لأن فلسفة الرئيس حسني مبارك في فكرة العمل تتعارض تماما مع كل مباديء الاقتصاد الوطني، فالزعيم يؤجل صداع الرأس إلى وقت لاحق فيظن أن تشغيل كل المصريين في وظائف خدمية سيحل جزءا كبيرا من مشكلة البطالة، وكانت النتيجة الكارثة أن تراجع الانتاج المصري في كل شيء .. من الإبرة إلى الصاروخ.
مصرنا الحبيبة،
أراك تبكين في صمت كأنه حزن على عقوق أبنائك إياك، أو استشراف لمستقبل قريب عندما تنتقل السلطة من سيد إلى سيد، ورقاب أبنائك من مبارك الأول إلى مبارك الثاني.
ماذا يدبرون لك؟
لماذا يحمل لك الرئيس حسني مبارك كل تلك الكراهية والبغضاء وأنت تطيعينه، وتسلميه زمام كل أمورك، ولم يبق إلا أن يقول: ابن لي صرحا لعلي أطلع إلى اله المصريين!
يختار لك أكثر الوجوه الفاشلة شهرة، ويتركها سنوات طويلة تمرح وتلعب وتلهو وتعبث بكل مقدراتك، ثم يمد لها مدا!
يختار من بين أبنائك من تحوم حوله الشبهات، ويزيح جانبا أي ملف يأتيه عن التاريخ غير النظيف للمسؤول، ويشعر بلذة عجيبة كلما رفض الشعب بالفطرة والمتابعة أحد رجاله، فيمعن في العطاء له، ويقربه إليه، ويسانده!
ألم يفعل الرئيس مع المستشار اسماعيل الجوسقي محافظ الاسكندرية السابق، فظل ثلاثة عشر عاما يخرب العاصمة الثانية تحت سمع وبصر الرئيس؟
ألم تصل إلى الرئيس ملفات عن الرجل الثاني في وزارة الزراعة حينما تكدست على مكتبه بالقصر الجمهوري مئات الوثائق والتحقيقات والمقالات والتحذيرات عن الدكتور يوسف والي فكَذَّب الرئيسُ الشعبَ كلَه، وصَدَّقَ نفسه فقط؟
ماذا يفعل الرئيس بملفات أمن الدولة من أجهزة المباحث والمخابرات وغيرها؟
أغلب الظن أن شيئا واحدا فقط يشغل باله، ويملك عليه يومه وليله، إنه أمنه وأمن أسرته وضمان وصول ابنه إلى السلطة.
في نفسي حزن شديد، وأوجاع تختزنها كل شغاف القلب من تقزيم وتصغير أجهزة الأمن الوطنية في أرض الكنانة.
كتبت من قبل مقالا موجها للرئيس تحت عنوان سيدي الرئيس ... إنهم رجالنا وليسوا رجالك وكانت كلماتي غاضبة لتذكر الرئيس حسني مبارك أن كل مصري شريف يتمسك بالدور الوطني لمباحث أمن الدولة وأجهزة الاستخبارات, وأنها باقية بإذن الله، أما الرئيس فينتظره التاريخ على أحر من الجمر ليكتب بنفس الجمر مأساة مصر في عهد أكبر عملية نهب يشهدها الوطن السجين.
ورفضنا عمليات الركل التي يستغني بها عن لواءات الشرطة ومباحث أمن الدولة والمخابرات المدنية والعسكرية عندما يبلغون قمة العطاء، والنضج الوطني، ويتعرفون على قيمة التسامح، ويعرفون أكثر من اللازم, ويستطيعون الوصول إلى المعلومة من فم أكثر الذئاب شراسة، بل بإمكان أي منهم أن يقدم في يوم وليلة للرئيس ملفا كاملا عن ثروة ابنه علاء مبارك.
كيف بالله يتم الاستغناء عن لواء في الجيش أو الشرطة أو مباحث أمن الدولة أو المخابرات لعامة أو الحربية في سن الخمسين بعد أن يكون قد قضى ثلاثين عاما تدرج خلالها من طالب مرورا بكل الرتب مع خبرات وتضحية بوقت أسرته، وغياب ليال طويلة بعيدا عن أولاده، ومتابعات لهموم الوطن، وخصومات مع أعدائه، لتبدأ أهم وأخصب مراحل حياته، أي العطاء المتكامل والعقلاني والموضوعي والقائم على سن الرشد الوظيفي، فإذا به يتلقى أوامر بالاستغناء عن خدماته, والتي تأتي غالبا بطريقة مهينة أو استعلائية أو فوقية وكأن الدولة تتعمد إثارة غضبه وحفيظته حتى يكون لقمة سائغة في فم الحيتان الجدد، ومستشارا قانونيا في مكتب واحد كان إلى عهد قريب يرتعد خوفا لو خرج ملفه للمدعي الاشتراكي أو المحامي العام.
وهنا لن يمثل في المستقبل خطرا على السلطة، ولن يشترك في عمل مناهض لها، وستكون نقطة ضعفه هي نقطة قوته في السابق.
إن احالة أي لواء إلى المعاش المبكر قبل أن يبلغ الستين من العمر ضربة قاصمة لكفاءات وطنية، ولو أراد الرئيس تغيير الدماء فحوله من رجاله الفاشلين من بلغوا من العمر عتيا.
إننا نتعاطف بمودة وقناعة مع كل لواءات الشرطة ومباحث أمن الدولة والمخابرات العامة والحربية والجيش الذين تلقوا أوامر بالبقاء في منازلهم، وانتهاء فترات خدماتهم، فالوطن لا يلقي بأبنائه بعد التضحية، ومعظم هؤلاء أشرف من كل المحنطين في مناصبهم والذين يحتمون بالسيد الرئيس وربما يظللهم الرئيس القادم جمال مبارك بحمايته أيضا.
هل تريدين، يا أم الدنيا، الاستماع لحكايات يوم القيامة المصري، وهو يوم كعشرين عاما مما يعدون؟
هل تعرفين أنك مدينة بعدة مئات من المليارات لا يعرف عددها إلا الله، فبيانات رئيس الحكومة هي تجميع لأكاذيب وأباطيل وفانتازيا حكومية لو نزلت لأرض الواقع فلن تجد لها سندا أو وثيقة أو شاهدا ولو نصف زور؟
هل تعرفين يا مصرنا الحبيبة أن العملة المصرية هي الوحيدة في العالم التي انهارت
بغير كوارث طبيعية أو حروب أو أزمة اقتصادية كما حدث في دول شرق آسيا منذ ستة أعوام، والسبب الذي يعرفه القاصي والداني هو عزة نفس الرئيس التي تأخذه بالأثم فيختار لك لصوصا أو مهربين أو متخلفين أو ذوي كفاءات بسيطة ومتواضعة ليقوموا على إقتصادك، ويبعد الخبراء والعباقرة والمخلصين والشرفاء كأنهم حشرات ينبغي أن لا تقترب من المالية والتجارة والتموين والسياحة والاقتصاد.
أما ما تم تهريبه إلى خارج الوطن فهو أيضا من علوم الغيب وأسرار الدولة وقد تكون مئة مليار أو عدة مئات من المليارات، وليس هذا هو الأهم، لكن المبدأ اللأخلاقي في توسيع ثغرات نهب المال العام خلال فترة حكم الرئيس حسني مبارك جعلت استباحة الوطن تبدو كأنها همس بالموافقة والرضى من أعلى جهة انتقاما منك دون وجه حق.
ليس في مصر توزيع للسلطات، فالرئيس هو القاضي والحاكم والخصم والجلاد، وهو الآمر والناهي وواضع الدستور والقائد الأعلى للقوات المسلحة ورئيس كل أجهزة الدولة العسكرية والأمنية والاعلامية والثقافية والسياحية والفكرية والتعليمية، ويقبض في يديه السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، أما من حوله من رئيس للوزراء إلى كل أعضاء الحكومة فهم، كما ذكرنا من قبل عشرات المرات، أصفار لا تساوي شيئا، أو أحجار على رقعة شطرنج يحركها اصبع الرئيس أو يلقي بها جانبا متى شاء وكيفما أراد.
هذا الرجل، يا أم الدنيا، يملك سلطات زعماء وأنبياء وقديسين وأنصاف آلهة ويستطيع أن يُسعدك أو يتعسك، ويمكنه لو أراد أن يعيد إليك شبابك، ويجدد فيك بفضل عباقرة أبنائك الصحة والعافية، ويحافظ على أموالك وخيراتك وكرامة مواطنيه، ويمنع الظلم، ويطلب في خطاب علني وقف امتهان كرامة المواطن في أقسام الشرطة، ويحمي مغتربيك في كل مكان، ويأمر بالافراج الفوري عن آلاف المعتقلين الذين لم تثبت في حقهم تهم لجرائم ارتكبوها، ويضع في كل الوظائف القيادية علماء وأكاديميين وخبراء تمر ملفاتهم أولا على المخابرات ومباحث أمن الدولة للتأكد من أن تاريخهم يخلو تماما من التجاوزات والفساد وتجارة الكيف والرشوة والمحسوبية والتهريب، ويعترف بأن قداسة العدل لا تتحقق إلا بتبادل السلطة، ويكتفي بالسنوات الاثنين والعشرين التي جثم فيها فوق صدرك، وينزع أحلام استمرار حكمه وحكم أسرته في ابنه، ويعلن على رعاياك الثروة الحقيقية لابنه علاء مبارك، وينهي إلى غير رجعة نظام الاختيار القائم على الرأي الواحد، ويفتح تحقيقات علنية مع كل الذين أثيرت حولهم شبهات، ويقود حركة تغيير قومي شاملة لتحديث الادارة، ويضع الاعلام والسياحة والثقافة في أيد أمينة، ويطلق مشروعات قومية للقضاء على الفساد والأمية والبلهارسيا والكبد الوبائي، ويستعين بخبراء مصريين ودوليين للقضاء على البطالة، ويعيد الأراضي المنهوبة إلى الدولة، ويفتح باب التحقيقات مع كل التجاوزات بدءا من الشهر العقاري مرورا بالأوقاف وليس انتهاء برجاله وفي المقدمة يوسف والي وكمال الشاذلي وممدوح البتاجي وصفوت الشريف وغيرهم...
إنه يملك كل تلك الأشياء وأضعافا مضاعفة، لكنه، يا أم الدنيا، يبغضك، ويحتقر المصريين، ويرفض تحقيق أي اصلاح في المالية أو العدل أو كرامة المواطن أو الاعلام أو السياحة أو الصناعة أو العملة الوطنية أو حتى لذر الرماد في العيون فيطلق مشروعات قومية كبرى.
إنه يحب أن يراك مريضة، صفراء الوجه, زرقاء الجسد, مترهلة، منهكة من اغتصاب اللصوص وعتاة الاجرام، مسالمة ومستسلمة لقدرها الذي يمثله هو وأسرته.
لعلك تسمعين آهات ونواح وبكاء ونحيب المصريين وهم يلطمون الوجوه على حظهم العاثر، ويصرخون من الغلاء، وينتظرون يوما مشرقا وجميلا يطل عليهم بعد طول عذاب وآلام ومعاناة، لكن هذا اليوم لا يأتي، بل قد تمر عدة عقود أخرى قبل أن يأتيك الرجل الذي تنتظرينه, زعيما ومُخلّصا ومنقذا ينتشلك, ويخفف عنك، ويمسح دموعك، ويعاتبك عتابا شديدا على صمتك كل تلك الأعوام.
هل تصل إليك أخبار أبنائك الذين يختارون الغرق في مياه البحر الأبيض، أو الهروب إلى أي جحيم لعله يكون أرحم من حياة الموت تحت ظل العهد الحالي، أو استجداء السلطة الشعبية المتخلفة في ليبيا عساها تسمح لأصحاب أقدم حضارات الأرض أن يعملوا أجرّاء في جماهيرية تتجه بسرعة حثيثة لتصبح بفضل حاكمها المجنون مركزا للتسول ، أو ينتظرون فرصة العمل في العراق مع عدة ملايين من العاطلين، أو التوجه ناحية العدو الصهيوني فربما يجدون في أحضان الموساد ما لم يمنحهم إياه الوطن السجن، أو الحلم بالثراء بفضل تهريب العملة العراقية الجديدة فهي تحمل الحلم الأمريكي حتى لو قام ببيعها مهربون عراقيون يحملون في أجسادهم الاثنين معا: روح جورج بوش الابن ورائحة حفرة الرئيس الأسير صدام حسين.
مصرنا الحبيبة،
هل صحيح ما تنبأ بها خبراء الاقتصاد من أن عام ألفين وستة سيحمل معه كارثة لا تبقي ولا تذر عندما تلتهم فوائد الديون تسعة أعشار ما يتبقى من الدخل القومي بعد النفقات؟
نصف المياه تسرقها تركيا قبل وصولها إلى الأراضي السورية، ومع ذلك فدمشق تزرع القمح وتقوم بتصديره إلى مصر .. هبة النيل، وصاحبة الأرض الزراعية التى بنى فوقها أثرياء العهد المباركي منازل خرسانية مخالفين قوانين نائمة بفضل الرشوة والفساد.
هل تريدين معرفة المزيد عن أسباب لطم المصريين خدودهم في كل يوم مئة مرة؟
هل تصدقين، يا أم الدنيا، أن أرضك الخضراء تقف عاجزة عن انتاج القطن.. ثروتك القومية، فيستورده أبناؤك من اليونان؟
هل تعرفين ما الذي حدث عندما فشلت فشلا ذريعا ومفزعا وساقطا السياسة الزراعية ليوسف والي؟
تمسك به الرئيس حسني مبارك أكثر، وقربه إليه، وجعله فوق القانون فهو لا يذهب للمحكمة ويرسل سكرتيرا خاصا يُسلّم القاضي بعض الأوراق، فالأسياد في عهد الرئيس حسني مبارك لا يختلطون بالعبيد!
إنها اللذة الحرام التي يشعر بها الرئيس عندما يُقرّب إليه الفاشلين، لذا لم يكن مستغربا أن يتوجه أحد المحافظين إلى الصحفيين في لقاء علني ويقول بكل وقاحة: هاجموني كما تريدون, فكلما زاد الهجوم ضمنت استمراري في منصبي لفترات أطول!
السيد المحافظ فهم اللعبة، وعرف أن النجاح يعني في غالب الأحوال مصيرا مجهولا، وأن العمل الجدي والمخلص والشريف والنزيه من أجل مصر مثل الدكتورة نادية مكرم عبيد، والدكتور اسماعيل سلام، واللواء أحمد رشدي، والدكتور ماهر مهران، والدكتور مصطفى السعيد، والدكتور أحمد الجويلي، والمشير أبو غزالة، وغيرهم الكثير لا يرضي الرئيس حسني مبارك، فالفشل وحده وكراهية الجماهير ونقد المتخصصين واهدار المال العام كلها عناوين مهمة لاستمرار المسؤول في منصبه.
في مصر لا يتم تنفيذ أحكام القانون إلا قليلا، ويمكن للقاضي أن يصدر حكما بالبراءة، فيخرج البريء من الباب الخلفي إلى السجن أو الحبس مرة أخرى لأن السلطة التنفيذية تحتقر السلطة القضائية، وتعترف بها فقط إذا صدرت الأحكام متناغمة مع رغبات الزعيم.
حتى وزارة الداخلية رفضت تنفيذ أحكام القضاء الاداري بقبول أربعين طالبا في كلية
الشرطة، ونحن لا نصدق الرئيس عندما يقول بأنه لا يتدخل في أحكام القضاء.
هل بلغك، يا مصرنا الحبيبة، أن الرئيس القادم جمال مبارك هو صاحب فكرة تحرير الجنيه المصري أو تعويمه لعله ينال رضا سيد البيت الأبيض؟
بعدها بلغت الأسعار عنان السماء السابعة، وسمع من فيها صرخات المصريين، ووصلت إلى أسماع سيد القصر الجمهوري لكنه كان مشغولا، فرجاله يوحون إليه أن أحاديثه الصحفية تتناقلها كل وكالات الأنباء، وأن عبقريته في التوسط بين الفلسطينيين والاسرائيليين تجعله رجل سلام من الطراز الممتاز، وأن نصائحه للعراقيين والأمريكيين كأنها تنبؤات من وحي الوحي، وأن دور مصر مبارك لا يقل أهمية عن الدور الأمريكي أو الصيني أو الإتحاد الأوروبي.
لو انتحر كل أبنائك حزنا وغَمّاً فلن تهتز شعرة واحدة في سيد القصر، ألا يعرف، ويفرح، ويسعد، ويرضى بمئات الحالات التي وقع فيها رعاياه ضحايا رجال أمن قساة وغلاظ في أقسام الشرطة؟
هل شاهدتِ جلسة لمجلس الشعب؟
قطعا لا يمثل هؤلاء إلا جزءا يسيرا من شعبنا المصري، ونجاح أكثرهم من نواب الكيف والبلطجة والاحتيال والقروض والأمية يجعلنا نتشكك في دستورية هذا المجلس.
النقاشات فيه عبث، وفوضى، وأفكار هلامية، ومصالح خاصة، وتمرير قوانين لصالح السلطة أو رجال الأعمال، والعلاقة مع أحمد فتحي سرور لا تلائم اطلاقا المهام الملقاة على عاتق هؤلاء النواب.
هل تعرفين، يا أم الدنيا، أن الفوضى التي صنعها نظام حكم الرئيس حسني مبارك امتدت إلى كل شبر على أرضك الطاهرة، حتى أن تلك الأرض تسيل عليها دماء ستة آلاف قتيل وخمسين ألف جريح من جراء حوادث المرور؟
سأدلف بك الآن خلسة إلى مكان لن تصدقي عينيك الجميلتين وهي ترى في رابعة النهار مكانا لن يفلت من العاملين فيه يوم القيامة إلا بضعة أفراد يعدون على أصابع اليدين، أما الآخرون إذا رأتهم جهنم سمعوا لها تغيظا وزفيرا.
إنه جمرك الاسكندرية حيث ترقص الشياطين مع العاملين، وهنا بؤرة الفساد، وتهريب البضائع، والرشوة لا تختلف عن التحية والسلام، ويستطيع أي شخص أن يشحن كونتاين به مخدرات أو متفجرات أو ممنوعات أو أدوية غير صالحة للاستعمال الآدمي أو دجاج مسمم، ولن تستغرق الرشة ساعتين أو أكثر، ويحصل كلُ مرتش على نصيبه، ثم تخرج المخدرات أو المتفجرات أو الممنوعات رافعة رأسها عاليا، وتخرج لسانها لكل الشرفاء وعاشقي مصر، ولعلها تهمس في أذن كل معترض قائلة: ولكن الرئيس ورجاله وكل الوزراء والسلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية تعلم علم اليقين ما يدور في هذا المكان القبيح.
قال لي صديق أدخل كونتاين عن طريق جمرك الاسكندرية بأن الموظف المسؤول عن الكشف على المخدرات يكتفي بعشرين جنيها فقط، ثم يختم لك بالموافقة دون أن يتحرك من موقعه شبرا واحدا!
أعود مرة أخرى للتأكيد على أن الرئيس يعلم مسبقا بأن هذا المكان مدخل للجريمة والتهريب والارهاب، ومنه يتزود ربع مليون مدمن مخدرات من شباب الوطن الحزين، لكن سيادته مشغول، وربما يحضر حفلا هذا المساء ليستمع لأغنيات تمجد في انجازاته ومكتسباته، ثم يعود إلى البيت ويقرأ مقالات لعشرات من حملة القلم في مصر وهم يمتدحون في عبقريته.
ثم ينام الرئيس نوما هادئا عميقا، فصباح اليوم التالي سيفتتح مشروعا يحمل اسم مبارك، وسيجد هناك رئيس الوزراء والوزراء وكبار رجال الدولة, وسيترك وزير الدفاع جيش مصر الوطني العظيم ليقف خلف الرئيس مبتسما في خجل شديد، وستتوقف الدولة كلها، وتسمع بين لحظة وأخرى رنين الموبايل للسادة الوزراء وكل منهم يؤكد لمدير مكتبه أنه في اجتماع هام مع السيد الرئيس الذي يتفقدهم كما كان سليمان عليه السلام يتفقد الطير ويقول ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين.
لولا بقايا من تراحم بين المصريين، وتحويلات أبنائهم في الخارج مباشرة للأهل، ورحمة ربي لما شهدت مصر يوما واحدا أمنا وسلاما، فالغلاء دراما مأساوية يعيشها ثلاثة أرباع الشعب المصري وهم تحت خط الفقر، ولو جيء بخبير اقتصادي عالمي وقضى شهرا يراقب ربة بيت مصرية وهي تتعامل مع دخل الأسرة الشهري فتنفق منه على الطعام والشراب والأدوية والدروس الخصوصية ومصروفات المدارس والجامعة وايجار السكن والماء والكهرباء والتليفون والمواصلات ومصروفات جيب للأولاد وملابس صيفية وشتوية وسجائر للزوج مع بعض الزيارات الخاطفة لمستشفى خاص أو طبيب عيون أو معمل تحاليل أو مبلغ للمدرسة نظير خدمات لا تقدم أبدا، وبعد ذلك تَدّخِْر اللاشيء للمجهول القاتم أو زواج البنت الكبرى، فربما يقدم الخبير الاقتصادي استقالته ويعيد دراسة الاقتصاد على أسس جديدة منطلقا من عبقرية ربة البيت المصرية.
ومع ذلك فالمواطن المصري يأكل من المعونات، ويدفع الديون وفوائد الديون، وتذهب حصيلة خزانة الدولة إلى حيتان صنعها عهد الرئيس حسني مبارك.
أما القطاع الخاص فيستحوذ على 70% من الناتج المحلي الاجمالي ويسدد 19% من الضرائب، وتتفضل الدولة باقتطاع أجساد الفقراء لتسديد الباقي!
هل تناهت إلى سمعك، يا أم الدنيا، حكايات عالم سماسرة الطب وإجراء جراحات فاشلة وأخطاء الأطباء التي تفشت مع الفساد؟
هل تعرفين شيئا عن عالم الدواء، ومافيا الصيدليات، وأسعاره المفزعة لقلب وجيب أي مواطن، وانتهاء الصلاحية التي لا يكترث بها أكثر الصيادلة في العهد الحالي الذي صنعه الرئيس حسني مبارك؟
أعود إلى أهم قضايا ومشاكل وكوارث الوطن الحزين والتي كلما غادرتها لبعض الوقت طاردتني وأعادتني مرة أخرى، فليست هناك أي مشاكل مهما كبرت، ولو كانت المجاعة أو الزلزال السلوكي المدمر أو هزيمة النفس أو تهريب كل أموال الدولة....
إنها مشكلة كرامة المواطن المصري التي يتعامل معها الرئيس كما يتعامل مع الحشرات والديدان والجيفة!
هل تعرفين، يا مصرنا الحبيبة، عدد الذين اعترفوا تحت وقع التعذيب بأنهم ارتكبوا جرائم، ثم ظهر الجاني الحقيقي بعد وقت طال أم قصر؟
حكمت المحكمة بالسجن على قتلة سائق طوخ الأربعة، فلما تبين بعد وقت طويل القاتل الحقيقي تم الافراج عنهم دون كلمة اعتذار واحدة، فالأسياد لا يعتذرون للعبيد!
اعترف الأربعة بأنهم تعرضوا لتعذيب من مأمور وضباط قسم الشرطة التي هي في خدمة الشعب لم يخطر على بال بشر، فاختاروا السجن متهمين أبرياء عن الاستمرار بين براثن ذئاب سلخانة الشرطة.
الفنانة حبيبة قضت في السجن خمس سنوات بتهمة قتل زوجها، وكانت قد اعترفت بقتله تحت وطئة تعذيب رجال الأمن الذين يعرف كل واحد منهم في طول مصر وعرضها أن ضوءا أخضر من سيد البلد كلها يمنحهم حرية العبث بأجساد وكرامة المواطنين.
وتم الافراج عنها بعد ظهور القاتل الحقيقي واستكثرت عليها الدولة كلمة اعتذار أو تعويض أو حتى عتاب خفيف من صاحب السلطات الثلاث لضباط الشرطة بأن لا يبالغوا في التعذيب والحط من كرامة رعاياه.
قضايا التعذيب المرفوعة في عهد الرئيس حسني مبارك وصلت إلى 1124 وهي تمثل 10% من العدد الحقيقي الذي قد يتجاوز خمس عشرة ألف حالة تعذيب وانتهاك للأعراض واغتصاب وكسر عظام وحرق أجساد وقلع أظافر والتهديد باغتصاب الأم أو الأخت، وفي بعض الحالات ادخال العصا في فتحة شرج المواطن المصري وسط ضحكات الضباط والمخبرين.
في هذا الجو الموبوء والعفن والنتن يحق للمرء أن يعترف بقتل أبيه وأمه حتى لو كانا في البيت ينامان في سكينة وأمان وسلام.
المواطن راضي مصطفى أحمد نصار من المحلة الكبرى قامت مباحث تنفيذ الأحكام في أكتوبر 2003 باصطحابه إلى قسم الخليفة بالقاهرة, وقام المأمور والضباط بالواجب الوطني الكامل بتوجيهات عليا وذلك بالتعامل مع المصريين كالحشرات أو أقل. وبعد ساعات من التعذيب اضطر ملك الموت لاصطحاب المسكين إلى الملكوت الأعلى، فصعود الروح أرحم من أظافر وأحذية ضباط الشرطة في العهد الميمون.
في هذه اللحظة بالذات أو قبلها أو بعدها والتي ينتقم فيها الرئيس حسني مبارك من أم الدنيا، وينزل على أبنائها غضبه وسخطه وتوجيهاته الملزمة بتعليمهم آداب العبودية، يكون الإعلام والصحافة القومية ومئات المثقفين والصحفيين والمفكرين والأكاديميين والاعلاميين والسفراء والمسؤولين الكبار في حالة بهجة وفرحة وكأنهم في عرس من ليالي ألف ليلة وليلة، فهم يقدمون للرئيس التهنئة على الانجازات، والشكر على حرية الصحافة، والدعاء إلى الله أن يحفظه للوطن، والتمنيات له بطول العمر.
حبيبتي أم الدنيا،
لو علم الرئيس أنك قادرة على الغضب والتمرد والدفاع عن كرامة أبنائك والحفاظ على ثروات وخيرات ومستقبل الوطن لما اختار من مسؤوليك إلا الأفضل والأصلح والأشرف.
لو علّمتيه يوما واحدا أن مهمة الحاكم هي خدمة الشعب في مقابل امتيازات وسلطات وجاه ومال، لما ظن لبرهة واحدة أنك في خدمته، وأن رعاياه عبيد، وأن كرامتهم تحت حذائه، وأن سلخانات الشرطة والاعتقالات العشوائية والسجون وتهريب الأموال والآثار والثروات هي ثمن ندفعه جميعا لأننا جبناء، صامتون، ساكتون، منتظرون في بلادة ولا مبالاة والوطن كله يُسجن ويُسحل ويُنهب أمام ناظرينا.
أعلن جمال مبارك الرئيس القادم عن تعيين الشاب أحمد عز الملياردير رئيس لجنة الحفاظ على الأرض الزراعية اضافة إلى عشرات المناصب الأخرى التي بتولاها، فإذا عرفنا أنه رئيس لجنة الخطة والموازنة في مجلس الشعب, ورئيس جمعية المستثمرين, ورئيس أمانة العضوية في الحزب الوطني, وعضو مجلس رجال الأعمال المصري الأمريكي، ومحتكر صناعة الحديد، وبهذا فهو عمليا رقيب على وزارة المالية ومصلحتي الضرائب والمبيعات والجمرك.
سابقة في التاريخ لم تحدث من قبل، ولأنه صديق للأسرة الكريمة مالكة مصر وشعبها، فالصورة تكون أكثر وضوحا وجلاء.
مصرنا الحبيبة، هل تريدين معرفة جروح وأوجاع وآلام أبنائك الأقباط.. شركائنا في الوطن؟
إنهم يتعرضون لظلم شديد، واهمال من الرئيس، وازدراء لمطالبهم العادلة، واحتقار لأبسط حقوقهم الانسانية والمواطنية في تولي أي منصب، وتمييز ضدهم في المحاكم والقضايا، وتقليل من شأنهم في الفهم الاسلامي المتطرف الحديث الذي تربى في أحضان النظام وجماعات الهوس الطالبانية في مصر، وتحميلهم مسؤولية كل حوادث الفتن الطائفية التي بدأها بلطجية الفهم الديني السقيم من الجماعات الاسلامية وانحاز للظالم الأمن والقضاء النزيه!.
هل أحدثك عن أبنائك.. شركاء الوطن من النوبيين الطيبيين العاشقين لنيلك، والحافظين أسراره، والمتمسكين بترابك رغم اهمال الدولة لهم في كل العصور؟
في نفسي أنهار حزن لو فاضت لما كان لشخص أن يأوي إلى الجبل ليعصمه من فيضانها وهيجانها. حزين عليك حزنا جَمّا، فأبناؤك يضحكون، ويرتعون، ويخنعون، ويخافون من حاكمهم.. أعني خادمهم الذي لا يزال يؤمن أن المصريين كلهم في خدمته وخدمة أسرته وابنه الرئيس القادم لا قدر الله. مصرنا الحبيبة..استحلفك بالله أن تغضبي مرة واحدة فقط، فهل تفعلين؟
محمد عبد المجيد
رئيس تحرير مجلة طائر الشمال
أوسلو النرويج
Taeralshmal@gmail.com
التعليقات (0)