طُويت صفحة الانتخابات التشريعية ودخل المغرب مرحلة سياسية جديدة، لعل أبرز ملامحها وصول إسلاميي العدالة والتنمية إلى "الحكم" بعد أن كان مطلوبا منهم مجرد ملء الفراغ، الذي تخشاه وزارة الداخلية، و التواجد ضمن هامش ضيق يكاد يسمح بحركة سياسية تستطيع التأثير على مربع العمليات حيث يُطبخ القرار على نار هادئة.
فعاصفة التغيرات المفاجأة، التي ضربت البلدان المجاورة واقتحمت الجغرافية الوطنية، خلطت أوراق المخزن وجعلته يقبل هذه المرة ، و على مضد، قواعد اللعبة الديمقراطية التي منحت لحزب العدالة والتنمية هامشا اوسع من ذي قبل، كان كافيا لتمكين الحزب الاسلامي من الصعود الى المرتبة الاولى في السباق الانتخابي.
الآن وقد أفرزت محطة 25 نونبر واقعا مختلفا عما أرادته القوى الخفية و الجهات، التي لا تقبل الديمقراطية إلا حين تمنحها هذه الاخيرة المعبر الآمن للوصول إلى السلطة، ستنطلق أصوات ، لامحالة، للتشكيك في النتائج التي تمخضت عن الأصوات المعبرة عن الإرادة الشعبية.
صحيح أن خروقات كثيرة قد تكون اعترت مسار الحملة الانتخابية، والتي لم تكن لتغيب عن ممارسة مرشحين اعتادوا على المنافسة غير الشريفة في سبيل استمالة الناخبين، إلا أن لا شيء يشي بوجود عمليات تزوير واسعة تطعن في مصداقية النتائج المعلنة، فالمراقبون على اختلاف ألسنتهم أكدوا على نزاهة وشفافية المحطة الانتخابية.
وإذا كانت الرسائل تختلف من مكان لأخر، فغالبية الذين تابعوا نتائج الانتخابات في سيدي افني لا بد وأنهم فوجئوا وهم يقرؤون محتوى الرسالة القوية والايجابية، التي بعث بها المواطنون، والتي لا شك وأنها خلفت في طريقها صدمة أكثر قوة في أوساط بعض ممن كانوا يتوقعون عكس ما حسمته الصناديق الشفافة.
فبعد اللغط الذي صاحب الحملة الانتخابية وما تخللها من خروقات واضحة لبعض المرشحين الذين حاولوا، دون جدوى، التأثير على مسار الانتخابات عبر شراء الذمم، فالرأي العام، على عكس كل التوقعات، ظل وفيا لتضحيات قياداته و متشبثا بخط نضالي رسمه قبل 3 سنوات من الآن بالدم والدموع، حين انتفضت الساكنة عن بكرة أبيها للدفاع عن كرامتها و مواجهة حملة قمع شرسة قادتها قوى الجنرال العنيكري وباقي التشكيلات التي تفننت في زرع الرعب في قلب المدينة الهادئة.
أكيد أن الانتصار الذي حققه المواطنون في اقتراع 25 نونبر 2011 كان سيمر دون أن يسترعي أي انتباه يذكر لو أنه خلى من مرشح ينتمي الى الحركة الاحتجاجية، التي سبقت بكثير من الوقت الهزات الارتدادية التي يعرفها المغرب اليوم، إلا أن الحضور النوعي الذي شكله دخول محمد عصام، أحد القيادات البارزة في السكرتارية المحلية افني آيت بعمران، و الذي دفع سنة ونصف من عمره كفاتورة مقابل مواقفه خلال أحداث السبت الاسود، أعاد شيئا من أمل مفقود و جعل المواطنين يلتفتون، من جديد، إلى مسار تاريخي مشترك ارتضوه طريقا للخلاص من دائرة التهميش و الانعتاق من جبروت المخزن.
ولهذا فرسالة 25 نونبر 2011 هي في الحقيقة إعادة بعث لأمل فقده الكثيرون بعد أن فشلت تجربة "اركانة" الكارثية في امتحان الممارسة الديمقراطية التي سرعان ما تبخرت على نار الغرور، الذي استحكم في نفوس حفنة تفتقر الى النضج السياسي الكافي، الذي أوهم البعض بالاعتقاد بأنهم قادرون، طوال الوقت، على ذر الرماد في عيون الجميع.
المفاجآت، التي لم تتوقف إلا لتبدأ، كانت تحمل في طياتها مزيجا من الفرح والاستغراب في آن واحد، فالذين تسللوا الى داخل الحركة الاحتجاجية، والذين اعتقدنا، في لحظة حماس زائد، أنهم تخلصوا من الاثار السلبية لماضيهم المتعفن واغتسلوا من "الجنابة" التي ظلت ترافقهم على إثر عمليات "الاغتصاب الجماعي" لثقة المواطنين، سرعان ما استعادوا الوقاحة نفسها ليلتحقوا، مجددا، بركب المفسدين الذين لم يدخروا لا اموالهم ولا افواههم، طيلة ايام الحملة الانتخابية، من أجل إطفاء نور المصباح الذي أضاء سيدي افني بالكامل.
وإن كنت أحترم موقف الداعين للمقاطعة، الذي عبر عنه المنتمين الحقيقيين لحركة 20 فبراير ، والتي، وبالمناسبة، لا تملك حضورا فعليا ومؤثرا في سيدي افني ، إلا أن ما أثار استغرابي، حقيقة، هو هذا الالتحاق المفاجئ، ــ مع سبق الاصرار والترصدــ !، لبعض "المناضلين" بتيار المقاطعة، فالكم الهائل من الحقد والضغينة، الذي كان يتراكم في قلوبهم جعلهم يتحركون بسرعة و في الاتجاه المعاكس، بمجرد أن قرر المرشح، الذي سبق وأن وافقوا على دعمه، الانسحاب من سباق التنافس، بعد أن رأوا في سلاح المقاطعة وسيلة لإضعاف حظوظ مرشح العدالة والتنمية، و الذي كان إلى جانبهم في أكثر من محطة على طريق الدفاع عن القضايا المحلية والوطنية.
إن رسالة سيدي افني غير المشفرة، والتي لا تقبل التأويل، موجهة إلى الداخل بالأساس، فالرأي العام المحلي أثبت للجميع انه يتمتع بما يكفي من الحنكة والحكمة لتفادي فخ التعميم أو تصديق الادعاءات المكشوفة التي راهن عليها بعض الفاشلين لدفع الناس إلى سحب الثقة بالمرة. فمن سوء حظهم أن آمالهم خابت، ومقابل ذلك، فقد تحول موعد 25 نونبر إلى يوم تاريخي للدراسة والتأمل و محطة لقاء جديدة مع صوت الأمل في التغيير.
فمن كان يتوهم أن الشارع مزقته الطرق الملتوية "للممثلين" ، بات، اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، مقتنعا بأن الحركة، التي عبدت مسار الانتفاضة في سيدي افني والمغرب عامة ، لم تكن شوكتها لتقوى أصلا بدون ساكنة تميل إلى صوت الوحدة والتضامن بل، وفوق ذلك كله، فقد اثبتت بالفعل أنها تملك وسائل الدفاع عن رصيدها النضالي و تتحصن خلف مناعتها التاريخية المقاوِمة لكل محاولات الاختراق والتمزيق.
خروج المئات من المواطنين إلى الشارع للتعبير عن فرحتهم، حتى قبل الاعلان عن النتائج، هو أسمى تعبير عن الثقة المتجددة و الممنوحة بسخاء، في الوقت الذي فقد فيه منتخبون كثر موقعهم الرمزي والسياسي بعد أن انخرطوا في حركة ارتجاجية بمجرد جلوسهم على كراسي التسيير العابرة.
لقد دقت ساعة زحف المواطنين باتجاه محطات إصلاح أخرى، وعلى من يهمهم أمر البلاد والعباد أن لا يضيعوا فرصة المصالحة التاريخية مع الشأن السياسي، ولعل إحدى أهم الاولويات التي تقود إلى ذلك هو المبادرة إلى غسل عار بعض الممارسات السيئة التي تخللت الحملة الانتخابية عبر معاقبة كل من ساهم في تشويه الصورة المشرقة للممارسة الديمقراطية.
لقد كنا نتابع، طيلة أيام الحملة، حلقات متكررة و مؤسفة من مسلسل الخروقات الذي جسده ابطال الفساد و الافساد بصحبة منتخبين، سبقوا لهم أن رفعوا الشعارات ضد المفسدين، في مسعى لسرقة اصوات الناخبين، بالمقابل كان إعجابنا أكبر تجاه مواقف قوية للمواطنين الذين ما فتئوا يرفضون الانسياق وراء خطابات سخيفة ومعزولة.
لهذا فأملنا أن تتحرك مسطرة القضاء لوضع حد لهذا المسلسل المرعب، لأن المطلوب، في هذه اللحظة التاريخية بالذات، هو ترجمة الاقوال إلى افعال وطرد كل من تسلل إلى مبنى البرلمان من باب إفساد الامة.
إن الدرس الذي انطلق من مدرسة سيدي افني يجب أن يقرأه الرابحون والخاسرون على حد سواء ، فالمواطنون الذي بعثوا رسالتهم بتاريخ 25 نونبر 2011 ، عبر صناديق الاقتراع، وخرجوا بعد ذلك للاحتفاء بوصولها، قد لا يترددون في الخروج، في أية لحظة، للتعبير عن شيء أخر، فانصتوا واسمعوا يغفر لي ولكم الله!
التعليقات (0)