بعضُ الأماكن تقوم بزيارتِها قبل أنْ تشاهدها بوقتٍ طويل، فإذا وطأتها قدماك فكأنك عُدتَ إلىَ حبيبتِك بعد غيابٍ خارج الزمن المتعارَف عليه!
وبعضُ الأماكن تُهرول هاربةً من ذاكرتِك فور مغادرتِك إياها، فالزيارةُ مرة واحدة أو نصف مَرّة كافيةٌ لتُحْدِث ارتباكا في داخلـِك، فإذا مَرَّت بذهنِك بعد رحيلِك عنها فكأنها فيروساتٌ تهاجمك محاوِلة افتراسك أو تعكير صفو سكينتك وسلامك.
وبعضُ الأماكن تستنشق فيها عبق الثورة، ويتحول عرقُ الثوار إلى مِسْكٍ يخترق أنفـَك، ثم ينعش روحَ التمرد فيك كأنه سِحْرٌ يتجلى مُهيّمِناً علىَ حالة عدم الرضا عن الصامتين، والخانعين، ولاعقي أحذية الطغاة.
ميدان التحرير أرقى أشكال المقاومة، وأنظف صور الدفاع عن الكرامة، وإذا كان للمؤمنين بكل دين قـِبْلتهم، فإن الينايريين لهم قـِبْلة إذا زمجر مَنْ فيها تبللت سراويلُ كل الحالمين بعودة مريض شرم الشيخ لينهب مالم تمكنه ثلاثة عقود من الاستيلاء عليه، ويُعيد عصر الإذعان للطاغية، ومانشيتات حيتان النفاق التي تُصَنِّم، وتُوَثِّن، وتُعَمْلِق، زعيماً كان من ذوي الاحتياجات الخاصة فألَّهناه، ونبَيّناه، دونما حاجة لرسالة سماوية!
المعتصمون في ميدان التحرير ليسوا أكثر من عشاق لمصر، يتغزلون فيها تحت شمس حارقة، ويضرب بعضُهم عن الطعام فيقترب من الموت لتلمس الحياةُ الحرة الكريمة أبناءَ بلده، ويلعبون مع الكبار فيهزمونهم في كل مرة، فإذا بالحَكَمِ يُعيد المباراة، شوطاً بعد شوطٍ، ويمتدح في صلابتِهم، لكنه ينحاز لخصومهم!
عندما يحل الظلام، ويخيّم السوادُ علىَ سماء أرض الكنانة، تصعد روح الطاغية المخلوع، وتـُحَلِّق علىَ ارتفاعات منخفضة لتشدّ أزرَ القوىَ المضادة للثورة، وتُقْسِم لهم أنَّ فخامَته بخير، وأنْ لا أحد يستطيع أنْ يحاكمه، وأنه لا توجد قوة بامكانها أن تتسلل لالتقاط صورة له، أو حتى تستأذن ذوي الشأن للسماح لها بالتقاط صور لنجليه في معتقل أو قصر طرة ( وهل هناك فارق؟)، وهما يأكلان، أو يتمازحان، أو يتوجهان إلى دورة المياه!
القضاء المصري الذي أعاد للسفاح اعتبارَه فاعتبر الغاءَ اسمه من علىَ مؤسسات الدولة أمراً غير مقبول، سيقوم بتأجيل المحاكمة أملاً في أن يُسرع مَلـَكُ الموت الخُطىَ فيقبض روحَه قبل أنْ ينادي الحاجبُ: محكمة!
الدكتور عصام شرف حصل على شرعيته من ميدان التحرير رغم خطف حسين عبد الغني الميكرفون من يده عدة مرات، فلم يسمع مطالبَ الثوار وظن أنها تغييرُ بعض الوزراء، فضحك مبارك في منتجعه، وارتدَّ صدىَ قهقهته في جنبات مصر كلها ليفهم البلطجية أن كبيرَهم لا يزال قادرا على اعطاء التوجيهات ولو كان من على فراش مشيّد في برج يُطل على أملاك حسين سالم.
المعتصمون في ميدان التحرير ليسوا مرفهين، أو باحثين عن المتاعب، لكنهم أوفياء للخامس والعشرين من يناير، ومخلصون للحادي عشر من فبراير، ومن كان في بصره إيمان بعدالة السماء ثم نظر إلى الأعلىَ فسيشاهد أكثر من ثمانمئة من الملائكة الشباب يبتسمون، ويحلّقون بالقرب من خيام أقامها الأطهرون من شباب الثورة الذين يرفضون النوم في بيوتهم قبل الاقتصاص لزملائهم.
المعتصمون في ميدان التحرير هم روح مصر الطاهرة، ومطالبهم يعرفها القاصي والداني، ويعلمها القضاة ورجال الأمن والجيش ورئيس وزراء شرعية الثورة، لكن مبارك سيظل يقاوم المصريين، ويبث كراهيته، ويوزع المهام على كلابه، وينتقم لمشهد لم يتعرض له طاغية في أي عصر من العصور عندما رفع المصريون أحذيتهم في وجهه.
طوال عشرين عاما وأنا أحلم بحضور الجلسة الافتتاحية لمحكمة الشعب، وأختلس النظر إلى مبارك في قفصه وهو مطأطيء الرأس، وعلى وجهه غبرة الذل والمسكنة حتى أنني كتبت مقالا تحت عنوان ( وقائع محاكمة الرئيس حسني مبارك) منذ سبع سنوات أو أكثر، ولكن يبدو أن الجميع في انتظار زيارة عزرائيل الميمونة لمريض شر م الشيخ، وحينئذ سيسدل الستار على أسرار لو تفوّه بها مبارك فكأننا نرى تسونامي نسمة هواء رقيقة!
المعتصمون في ميدان التحرير ليسوا بمفردهم، لكن شهداء الثورة من شباب غادروا غدْراً أحبابَهم، وجامعاتهم، وأعمالهم، وآباءهم، وأمهاتهم، واخوانهم، وأخواتهم يمدونهم بما يحتاجونه حتى تتحقق مطالبهم .. أعني مطالب الشعب المصري بعد حُكم ثلاثة عقود في قبضة أعتى غلاة القسوة والغلظة والفساد والكذب واللصوصية.
من أراد أن يزور الأماكن المقدسة، الاسلامية أو المسيحية، فستكتمل شعائره بالتطهر ثورياً في ميدان التحرير.
إذا أردت أن تتأكد من حبك لمصر فاحجز لنفسك مكاناً في ميدان التحرير!
لو اخترقت شوارعَ القاهرة جنازةٌ عسكرية لعدو المصريين وكارههم الأول فسنصُمّ آذانـَنا من هول نحيب مئات الشهداء الذين قتلهم مبارك فأكرمه لاحقوه!
ياشباب الثورة الأمجاد: قلبي وعقلي وكياني وقلمي معكم، فأنا استمد تفاؤلي في مستقبل مصر المشرق من شجاعتكم، ووعيكم، وثوريتكم، وغضبكم، وعشقكم الخالص لأم الدنيا.
وسلام الله على مصر.
محمد عبد المجيد
رئيس تحرير مجلة طائر الشمال
أوسلو في 22 يوليو 2011
Taeralshmal@gmail.com
التعليقات (0)