سألتني _ رفق الله بك ,و عطف على قلبك _أن أذكر لك الغريب و محنه ، و أصف لك الغربة و عجائبها , و أمرفي اضعاف ذلك باسرار لطيفة و معان شريفة , إما معرضا , و إما مصرحا , و إمامبعدا , و إما مقربا .فكنت على أن أجيبك إلى ذلك .ثم اني وجدت في حالي شاغلا عنك , و حائلا دونك , و مفرقا بيني وبينك . و كيف أخفض الكلام و أرفع , و ما الذي اقول واصنع , و بماذا اصبر , و على ماذا اجزع ؟ و علي العلات التي وصفتها و القوارف التي سترتها أقول :
إن الغريب بحيث ما
حطت ركائبه ذليل
ويد الغريب قصيرة
ولسانه أبدا كليل
والناس ينصربعضهم
بعضا وناصره قليل.
و قال آخر:
و ما جزع من خشية البين أخضلت
دموعي , ولكن الغريب غريب
يا هذا! هذا وصف غريب نأى عن وطن بني بالماء والطين , و بعد عن الاف له عهدهم الخشونة واللين , ولعله عاقرهم الكأس بين الغدران والرياض , واجتلى بعينه محاسن الحدق المراض , ثم إن كان عاقبة ذلك كله الى الذهاب والانقراض , فأين انت عن قريب قد طالت غربته في وطنه , وقل حظه و نصيبه من حبيبه سكنه؟! و أين انت عن غريب لا سبيل له الى الاوطان , ولا طاقة به على الاستيطان ؟! قد علاه الشحوب وهو في كن , وغلبه الحزن حتى صار كأنه شن . إن نطق نطق حزنان منقطعا , وان سكت سكت حيران مرتدعا , وان قرب قرب خاضعا , و إن بعد بعد خاشعا , وإن ظهر ظهر ذليلا , وان توارى توارى عليلا , وإن طلب طلب واليأس غالب عليه , و إن أمسك أمسك والبلاء قاصد إليه , و إن أصبح أصبح حائل اللون وساوس الفكر , و إن أمسى أمسى منتهب السر من هواتك الستر, و إن قال قال هائبا , وإن سكت سكت خائبا , قد أكله الخمول , ومصه الذبول , وحالفه النحول , لا يتمنى الا على بعض بني جنسه , حتى يفضي اليه بكامنات نفسه , و يتعلل برؤية طلعته , و يتذكر لمشاهدته قديم لوعته , فينثر الدموع على صحن خده , طالبا للراحة من كده ’.
و قد قيل : الغريب من جفاه الحبيب . وانا اقول : بل الغريب من واصله الحبيب , بل الغريب من تغافل عنه الرقيب , بل الغريب من حاباه الشريب , بل الغريب من نودي من قريب , بل الغريب من هو في غربته غريب , بل الغريب من ليس له نسيب, بل الغريب من ليس له من الحق نصيب . فإن كان هذا صحيح , فتعال حتى نبكي على حال احدثت هذه النفوة , وأورثت هذه الجفوة:
لعل انحدار الدمع يعقب راحة
من الوجد اويشفي نجي البلابل
يا هذا ! الغريب من غربت شمس جماله , واغترب عت حبيبه و عذاله. واغرب في أقواله و افعاله ,و غرب في ادباره و اقباله , واستغرب في طمره وسرباله . يا هذا : الغريب من نطق وصفهبالمحنة بعد المحنة , ودل عنوانه على الفتنة عقب الفتنة , و بانت حقيقته فيه في الفينة حد الفينة . الغريب من ان حضر كان غائبا , وإن غاب كان حاضرا . الغريب من إن رأيته لم تعرفه , و إن لم تره لم تستعرفه . أما سمعت القائل حين قال :
بما التعلل ؟! لا أهل ولا زمن
ولا نديم , ولا كأس , ولا سكن .
هذا وصف رجل لحقته الغربة , فتمنى اهلا يأنس بهم , و وطن يأوي اليه , و نديم يحل عقد سره معه , و كأس ينتشي منها . و سكن يتوادع عنده . فأما وصف الغريب الذي اكتنفته الاحزان من كل جانب , و اشتملت عليه الاشجان من كل حاضر وغائب , و تحكمت فيه الايام من كل جانب وذاهب, و استغرقته الحسرات على كل فائت وآئب , و شتته الزمان و المكان بين كل ثقة و رائب , و في الجملة , اتت عليه احكام المصائب والنواءب , و حطته بأيادي العواتب عن المراتب, فوصف يخفى دونه القلم ويفنى من ورائه القرطاس , ويشل عن بجسه اللفظ , لأنه وصف الغريب الذي لا اسم له فيذكر , ولا رسم له فيشهر , و لا طي له فينشر , ولا عذر له فيعذر , و لا ذنب له فيغفر , و لا عيب عنده فيستر .
ايها السائل عن الغريب محنته ! الى ههنا بلغ وصفي في هذه الورقات . فان استزدت زدت , و ان اكتفيت اكتفيت , والله أسال لك تسديدا في المبالغة , و ليا تأييدا في الجواب , لنتلاقى على نعمته , ناطقين بحكمته , سابقين الى كلمته .
يا هذا ! الغريب في الجملة من كله حرقة , و بعضه فرقة , وليه اسف , ونهاره لهف , وغذاؤه حزن , عشاؤه شجن , واراؤه ظنن , وجميعه فتن , و مفرقه محن , وسره علن , و خوفه وطن .
الغريب من إن دعا لم يجب , و إذا هاب لم يهب . الغريب من (( إذا )) استوحش استوحش منه : استوحش لأنه يرى ثوب الأمانة ممزقا , واستوحش منه لانه يجد لما بقلبه من الغليل محرقا . الغريب من فجعته محكمة , و لوعته مضرمة . الغريب من لبسته خرقة , واكلته سلقة , و هجعته خفقة .
دع هذا كله ! الغريبمن أخبر عن الله بأنباء الغيب داعيا اليه . بل الغريب من تهالك في ذكر الله متوكلا عليه , بل الغريب من توجه الى الله قاليا لكل من سواه . بل الغريب من وهب نفسه لله متعارضا لجدواه .
يا هذا ! أنت الغريب في معناك .
أيها السائل عن الغريب ! اعمل واحدة ولا اقل منها , واذا اردت ذكر الحق فانس ما سواه , واذا اردت قربه فابعد عن كل ما عداه , واذا اردت المكانة فدع ما تهواه لماتراه , و اذا اردت الدعاء اليه فميز ما لك مما عليك في دعواه . طاعاتك كلها مدخولة , فلذلك هي ليست مقبولة . هممك كلها فاسدة , فلذلك ليست هي صاعدة . أعمالك كلها زائفة , فلذلك ليست نافعة . أحوالك كلها مكروهة , فلذلك ليست هي مرفوعة . ويلك ! الى متى تنخدع , و عندك انك خادع ؟ و الى متى تظن انك رابح , وانت خاسر ؟ والى متى تدعي وانت منفي ؟ والى متى تحتاج , وانت مكفيظ و الى متى تبدي القلق , وانت غني ؟ والى متى تهبط , وانت علي ؟ ما اعجب أمر تراه بعينيك , الهاك عن امر لا تراه بعقلك . الحمار ايضا يرى بعينيه ولا يرى بغيرها . أفانت كالحمارفتعذر ؟ فإن لم تكن حمارا فلم تتشبه به ؟ و ان كنت فلم تتدعي فضلا عليه ؟ واذا لم تكن حمارا بظاهر خلقك وصبغتك , فلا تكنه ايضا بباطن نيتك و جليتك . قد والله فسدت فسادا لا ارجوك معه لفلاح , و لذلك ما ادري باي لسان احاورك , وباي خلق اجاورك , و في اي حقيقة اشاورك , وباي شئ اداورك ؟ سرك كفران , و لفظك بهتان , وسرورك طغيان , و حزنك عصيان , و غناك مرح وبطر , وفقرك ترح وضجر , وشبعط كظة وتخمة , جوعك قنوط وتهمة , و غزوك رياء وسمعة , و حجك حيلة وخدعة , واحوالك كلها بهرج و زيف , و انت لا تحاسب نفسك عليها : هلم , و لا : بلم وكيف .ا..ه.
من أسعد من كان بصدره وديعة اللله بالايمان فحفظها حتى لا يسلبها مه احد ! أتدري ما هذه الوديعة ؟
هي والله وديعة رفيعة هي التي سبقت لك منه وانت بدد تراب لم تجمعك بعد الصورة , ولم يقع عليك اسم , ولم تعرف لك عين , ولم يدل عليك خبر , ولا يحويك مكان , و لم يصفك عيان , ولم يحطك بيان , ولم يات عليك أوان . أنت فيملكوت غيب الله ثابت في علم الله , عطل من كل شئ الا من مشيئة الله . ترشح لمعرفته , و تلحظ في صفوته , و تؤهل لدعوته . فما أسعدك ايها العبد ! فهذه العناية القديمة من ربك الكريم الذي نظر لك قبل ان تنظرلنفسك , وايك بما لم تهتدي اليه همتك , حتى اذا نشر مطويك و رتق مفتقك , و جمع مفترقك , وقوم منادك , و سوى معوجك وفتح عينك , و طرح شعاعها على ملكوته التي جعلها قبالة بصرك , و عرفك نفسك , و دعاك باسمك , و شهرك بحكمته فيك , و اظهر قدرته عليك , و عجبك وعجب غيرك منك , و لاطفك و لطف لك , و بين لك مكانتك اذا اطعت , و مهانتك اذا عصيت . وثبت على شهواتك فتناولتها , و على لذاتك فانهمكت فيها , و على معاصيك ((لمن هذا حديثه معك )) فركبت سنامها , و لم تفكر فيما خلفها وامامها . ولما قيل لك : اتق الله ! أخذتك العزة بالاثم , و بؤت فيما فيك من نعم الله عليك تهر على ناصحك , و تهزأ بالمشفق عليك , و تحاجه بالجهالة . انك عندي لمن المسرفين , بل من المجرمين , بل من الظالمين , بل من الفاسقين , بل من المطرودين , بل ممن قد تعرض لأن يسلبه الله ما اعطاه , و يجعل النار مأواه , حتى يصير عبرة لمن وراه . ا . ه .
يا هذا ! أحجر أنت ؟ فما اقسى قلبك ! و ما أذهبك فيما يغضب عليك الله ! أبينك و بين نفسك ترة او كيد ؟ هل يفعل الانسان العاقل بعدوه ما تفعله انت بروحك ؟ لا ينفعك وعظ وان كان شافيا , ولا ينجح فيك نصح و ان كان كافيا ! اللهم تفضل علينا بعفوك ان لم نستحق رضاك يا ذا الجلال والاكرام .
التعليقات (0)