رسالة الادب:
في بداية عام 1984 وعلى اثير موجات راديو بي بي سي،انتقدت مارغريت تاتشر وبشدة ما جاء في رواية 1984 لجورج اورويل(1903-1950) التي كتبها عام 1948 وتوقع ظهور عالم رهيب من خلال سيادة الانظمة الشمولية في الغرب واستلاب انسانية الانسان وتحويله الى ماكنة خاضعة للنظام الابوي الحاكم! وقد كان تأثير الحركات الفاشية والشيوعية في اوروبا باديا على كتاباته الروائية الناقدة وبشدة وبخاصة روايته الشهيرة الاخرى: مزرعة الحيوان!... واعلنت تاتشر ما مضمونه ان الديمقراطية والحرية اصبحت متجذرة في عقل الغربي ووجدانه وان المجتمعات الغربية لا تسمح ابدا بعودة الديكتاتوريات الشمولية مرة اخرى، ولم يقف الامر عندها بل شاركها في الاعلان والرأي كل من ريغان وعدد من الزعماء الغربيون وبعض وسائل الاعلام! بالرغم من انها رواية خيالية لكاتب توفي منذ عقود طويلة،وحينها تسائلت هل للادب مثل ذلك التأثير والسطوة بحيث ينشغل مسؤولون كبار عن مسؤولياتهم المعاصرة في الرد على رواية قديمة ويساهم بالنقد والتحليل ايضا المثقفين ووسائل الاعلام المختلفة؟!...من اين اتى ذلك السحر المؤثر للادب بمختلف فروعه بحيث ينعكس ذلك على حكومات وشعوب الى درجة عالية من التأثير يفوق ما لدى احزاب المعارضة ومنظمات المجتمع المدني من قدرات وامكانيات؟!...
الادب هو جزء من الثقافة ،وهو مرآة الشعوب التعبيرية عن كل ما يختلج في الذاكرة والصدور من احاسيس ومشاعر وآلام ،وهي تعبر وبصدق عن حركيتها المستمرة في الحياة وتساهم في تأسيس عالما مثاليا يقوم على اسمى العلاقات واكثرها قوة وجمالا.
والرواية كجزء من الادب،قد ساهمت بشكل كبير في تغيير المجتمعات في العالم من خلال التأثير الفعال في عقول وقلوب المتلقين،ولم تكن رواية 1984 فريدة من نوعها،بل سبقتها عدد كبير من الروايات مثل رواية كوخ العم توم التي ساهمت في تأجيج الحرب الاهلية الامريكية لغرض تحرير العبيد،وايضا رواية عناقيد الغضب لشتاينبك التي غيرت بعض القوانين في داخل امريكا وغيرها روايات اخرى عديدة ساهمت في التأثير في المجتمعات الحديثة،كما ساهمت الفنون التشكيلية والشعر والنثر في تأجيج النفوس وابدعت في تصوير الحالة كما هو الحال في الحرب الاهلية الاسبانية.
ولم يقف الامر عند الروايات بل ساهمت المقالة بنفس التأثير، وكم رأينا من حالات سقوط العديد من السياسيين واصحاب النفوذ والتأثير من جراء مقال نشر ضدهم!.
وفي التاريخ العربي القديم والحديث امثلة عديدة على تأثير الادب في حياة الناس كما في بقية شعوب الارض الاخرى،فقد كان للقصيدة دورها المؤثر في الحروب والنزاعات واحلال السلام ونشر وتثبيت العقائد والثقافات او محاربتها ولنا في العصر الجاهلي وما تلاه،نماذج عديدة ذكرت في متون كتب التاريخ والادب! مما يدل على ارتفاع المستوى الثقافي للشعوب آنذاك او التأثر بالشعر والادب من خلال تبعيتها لاصحاب الفكر والحل والعقد!.
وايضا في العصر الحديث كانت قصائد الشعراء مؤثرة الى درجة تسقط وزارة او تجبر وزيرا على الاستقالة كما حدث مع الجواهري وغيره،فقد كان بالرغم من حالات الصراع بين اهل الثقافة والسياسة الا ان حالات الاحترام وعدم التعدي على الاخر كانت موجودة بشكل يفوق عصرنا الحالي!.
عصر الرواية!:
قيل عن هذا العصر بأنه عصر الرواية العربية!...وقد يكون الامر صحيحا بالفعل بسبب صدور كم هائل من الروايات والقصص القصيرة سنويا خاصة وان هذا الفن الادبي الجميل هو حديث النشأة والانتشار بالمقارنة مع الشعر والنثر،وقد تنشغل بعض وسائل الاعلام بجزء صغير مما يصدر،ولكن يبقى الجزء الاكبر المتأثر هو عدد قليل من الطبقات المثقفة وبخاصة من جانب المنشغلين بالاداب ! اما الغالبية الساحقة سواء اكانوا حكوماتا او شعوبا فهي منعزلة في عالم آخر بعيد ليس له علاقة لا من قريب ولا بعيد بالاداب وبخاصة الرواية ولا تتأثر بها سلبا او ايجابا الا في حالات الاثارة الاعلامية المؤقتة والتي تصدر ضد رواية معينة او كاتبا ما من خلال الدعاوى القضائية او التكفير! والاكثر اثارة في الموضوع والدال على انعدام مستوى الوعي الثقافي هو ان بعض حالات تلك الزوابع الاعلامية والقضائية تصدر ضد كتب ومن بينها روايات صدرت منذ فترة زمنية طويلة كما حدث مع الف ليلة وليلة او بعض رواية نجيب محفوظ(اولاد حارتنا) او رواية حيدر حيدر(وليمة لاعشاب البحر) وغيرها وهي حالة سلبية من التأثر كما نرى،مما يعني انعدام التأثير المتبادل بين العامة وقياداتها من جهة وبين طبقة الكتاب من جهة اخرى وضياع الجهد المبذول من قبل الادباء لغرض طرح الافكار والرؤى التي تساعدهم في تغيير المجتمعات نحو الافضل كما حصل لبقية دول العالم!.
لقد كان تأثير الفنون الادبية ظاهرا في السابق اكثر مما هو عليه الحال في عصرنا الحالي والمسمى بعصر الثورة التكنولوجية الحديثة! وبالرغم من ارتفاع مستويات التعليم وكثرة المتعلمين وانحدار عدد الاميين،الا ان التأثير ذو البعدين الايجابي والسلبي شبه معدوم والامر قد يكون طبيعيا مع الانظمة الحاكمة الفاقدة لادنى مقومات الثقافة والتحضر،ولكن الحال يبدو غريبا حقا مع القواعد الشعبية التي كانت تتأثر سابقا لادنى حدث سياسي او ثقافي بالرغم من شيوع التخلف والفقر والجهل! اما الان فأن الامور الاكثر اثارة هي النزاعات الدينية والمذهبية او المؤثرات الجنسية!.
لقد كان الشائع قبل عقود قليلة هو لماذا الكتابة اذا انعدمت تأثيراتها في المجتمع؟!...ثم تطور الامر الى لماذا القراءة اذا كانت لا تنفع او تؤثر؟!.
وقد يأتي يوم ونقول هو لماذا نعيش اصلا ؟! اذا كان الاستعباد الجسدي والمعنوي قد تغلغل فينا وسلب كل معاني الثقافة الرفيعة بحيث اصبح متجذرا الى درجة قيد عقولنا وحطم نفوسنا وأوصلها الى هذه الدرجة المرعبة والتي اصبحت الاستهانة بالنفس شيئا طبيعيا يتنافس الجميع لحيازته!.
التعليقات (0)