عندما رد الشيخ علي الدهنين على أطروحة السيد كمال الحيدري فإن ذلك لم يعجب الكثيرين وفي نهاية حديثه حث الناس بمقاطعة السيد كمال والتأجيج ضده وهذه حقيقة لا تناسب و لا تليق بمقام الشيخ علي الدهنين ،
لأنه مهما كان الاختلاف فالرد السليم والحكمة هما أفضل من كل شيء وهذا هو منهج أهل البيت عليهم السلام ،ولكن لا أعلم كيف تسرع بهذه الكلمات؟! .. من حق الشيخ الدهنين الرد ومن حق أي إنسان الرد على أي شخص ، والسيد كمال عندما تحدث عن المرجعية لم يقصد إهانة المراجع وإنما كأطروحة فكرية ، فأنتم طلبة العلم من المفترض بل الواجب أن يكون منكم الرد علمي و ما طرحه الشيخ مع احترامي له ليس بحل وكلنا نؤمن بحرية الرأي والطرح ولا نقبل بأي إساءة لأي إنسان فما بالكم بمراجعنا ولكن ليس معناها أنه ليس لدينا الحق في أن نطرح آرائنا أو ننتقد أفكار مراجعنا لأنهم بشر مثلنا يخطؤون ويصيبون ، وأذكركم بما انتشر عن سماحة آية الله العظمى السيد علي السيستاني عندما وصله أن فلان من الناس أساء إليه بالسب والشتم فكان منه الرد الجميل الذي يشرح الصدور وهو إن كان ما تقولونه صحيح فأسأل الله له بالهداية والصلاح وعبارة أخرى قالها لا تقولوا إخواننا السنة بل قولوا أنفسنا وهكذا تعلمنا من الإمام علي عليه السلام حين قال :(الحكمة ضالة المؤمن) ، لذا عندما يطرح السيد كمال الحيدري عن دور المرجعية ليس بقصد الهدم بل بقصد التجديد ، لذلك قال الإمام علي عليه السلام : (علموا أولادكم فقد خلقوا لجيل غير جيلكم) أي أن التغاير يقع بين جيل الأب وجيل الأبن ، وبهذا يتوجب علينا الاحترام لسائر القيم البشرية لامتلائه بالاعتداد بالدين وروحه العظيمة التي هي الإنسانية نفسها وهكذا نجد الفكر الإسلامي يمنع المسلمين من الانكماش على أنفسهم والاستسلام لما فعلته عوامل الانحطاط في مجتمعهم بل يدفعهم للاتصال بكل العقول والتنقيب على كل المعارف والتقاط الحكمة من كل الجهات والتطلع دائماً إلى كل جديد من شأنه أن يحسن حال الوسط الإسلامي أو يرفع من شأن أفراده أو يساعد على تثبيت رسالته الخالدة .
وإذا كنتم تريدون النقد ليس بهذه الطريقة وليس العبرة في صحة النقد أن يكون العقل الناقد صحيفة بيضاء لم يخط فيها حرف واحد وإنما العبرة أن يعتمد في نقده على ما هو مقبول في نظر العقل أو مسلم به عند الخصم فلك أن تنتقد من يقول بأن الأرض مسطحة وأنت مؤمن بكرويتها على شريطة أن تأتي بالدليل المقنع على بطلان التسطيح وأن تقول للمسيحي إنك تخالف كتابك المقدس لأنك تمد خدك الأيمن لمن ضربك على خدك الأيسر تقول له هذا وإن لم تكن مسيحياً وإن تقول للمسلمين انكم تخالفون أمر القرآن الكريم : واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا وإن لم تكن مسلماً و يكون قولك هذا حجة دامغة ، وأن يعتمد الناقد على الدليل الذي تسالم عليه العقلاء أو آمن به الخصم على الأقل وبهذا المنطق يقف الناقد موقف المحايد وبدونه يعجز عن القيام بمهمة النقد الصحيح وإن بلغ من العلم مابلغ، ثم مامعنى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؟ هل معناه أننا مسؤولون عن غيرنا ولسنا مسؤولين عن أنفسنا ؟ ثم لماذا نحرص كل الحرص على أن يستر بعضنا على بعض ونخاف هذا الخوف من النقد والصراحة ؟ ولو كنا على قليل من الوعي والشجاعة أو على شيء من حب الخير لأنفسنا لرحبنا بالنقد والناقد بل وبحثنا عنه في كل مكان فإن لم نجده أوجدناه وأهلا ومرحبا بمن يهدي إلي عيوبي بقلب طاهر وعقل ساهر ، و الفكر الديني في الإسلام معناه الحرية الكاملة والتفكير المطلق في اعتداد بالمثال الأعلى ومراقبته في كل الشؤون وعدم الخضوع لأحد أو لجماعة تريد أن تعطي لنفسها مكان التمثيل الإلهي في الأرض وتعبيد الخلق باسم الدين لأهوائها والفكر الديني بهذا الاعتبار حاسة نستطيع أن نميز بين الخير والشر ونوافق بها بين الطبيعة والجمال ولذلك فهي من أهم المقاييس التي يجب أن تصحبنا في اختيارنا للأفكار واعتمادنا للنظريات ، والفكر الإسلامي يوجب على معتنقي النظر والتبصر والاعتبار بتقلبات الزمن والبحث المستمر عن اتجاهات الحياة .
وأنتم كما تعلمون إن أسلوب المجادلة بالتي هي أحسن أي «الجدال الإيجابي» لا يستهدف تحقير الطرف الآخر أو الإنتصار عليه، بل يهدف النفوذ إلى عمق أفكاره وروحه، لهذا فإنّ أسلوب المجادلة بالتي هي أحسن يختلف كلياً عن الجدال السلبي أو الباطل.
ولكي يؤثر الطرف المجادل معنوياً على الطرف الآخر، عليه الإستفادة من الأساليب الآتية التي أشار إليها القرآن الكريم بشكل جميل:
1 ـ يجب الإمتناع عن كلّ من ما يثير صفة العناد واللجاجة لدى الطرف الآخر، إذ يقول القرآن الكريم: (ولا تسبّوا الذين يدعون من دون الله) كي لا يصر هؤلاء على عنادهم ويهينوا الخالق جلّ وعلا بتافه كلامهم.
2 ـ يجب مراعاة منتهى الإيضاح في النقاش مع أي شخص أو أي مجموعة، كي يشعر الطرف المقابل بأنّ المتحدّث إليه يبغي حقّاً توضيح الحقائق لا غير، فعندما يتحدث القرآن عن مساوىء الخمر والقمار، فهو لا يتجاهل المنافع الثانوية المادية والإقتصادية التي يمكن أن يحصل عليها البعض منهما، فيقول: (قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما). إنّ هذا الطراز من الحديث يحمل آثاراً إيجابية كبيرة على المستمع.
3 ـ يجب عدم الرّد بالمثل حيال المساوىء والأحقاد التي قد تطفح من الخصم، بل يجب سلوك طريق الرأفة والحبّ والعفو ما استطاع الإنسان إلى ذلك سبيلا، إذ أنّ الرّد بهذا الأُسلوب الودود يؤثر كثيراً في تليين قلوب الأعداء المعاندين، كما يقول القرآن الكريم ويحث على ذلك: (أدفع بالتي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عدواة كأنّه ولي حميم)
والخلاصة، إنّنا عندما ندقق في أسلوب نقاشات الأنبياء عليهم السلام مع الأعداء والظالمين والجبارين، كما يعكسها القرآن الكريم، أو كما تعكسها تلك المناظرات العقائدية بين رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أو أئمّة أهل البيت المعصومين(عليهم السلام) وبين أعدائهم وخصومهم، ننتهي إلى دروس تربوية في هذا المجال تطوي في تضاعيفها أدق الأساليب والوسائل النفسية التي تسهّل لنا النفوذ إلى أعماق الآخرين.
وبهذا الخصوص ينقل العلاّمة المجلسي في (بحار الأنوار) رواية مفصّلة عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يضمنها مناظرة طويلة بين الرّسول الاكرم وبين خمسة مجاميع مخاصمة هي: اليهود والنصارى والدهريين والوثنيين (أتباع عقدية التثنية في التأليه) ومشركي العرب، تنتهي بسبب الأُسلوب الحكيم الجميل والمؤثر الذي استخدمه رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى قبول هؤلاء بالحق وإذعانهم وتسليمهم له، وإنّ هذه المناظرة المربية بإمكانها أن تكون لنا درساً بناءً في مناظراتنا وأساليب جدلنا ومناقشاتنا مع الآخرين .
حسين علي الناصر
التعليقات (0)