رسائل الهجوم الأخير على غزة
بلال الشوبكي
إنه لمن الإجحاف القول: أن الثورات العربية المتلاحقة تصب في مصلحة الغرب وإسرائيل مباشرة، وأنها صيغت لأجل ذلك، لكنّه ليس من الاتّزان والحكمة أيضاً الزعم بأنها ثورات نقية خالصة، وأنها بلغت من الأسباب ما يَسِمُها بالرُّشد، كما أن التشكيك فيما يمكن أن تؤول له الثورات لا يعني تشكيكاً فيما صبا له الثوار، وإنما استدراكاً لما قد تقوم به بعض القوى من تحريكٍ للدُّمى في العديد من الدول العربية. فالقراءة الحذرة للوضع العربي تنطلق من التشكيك في ما يراه الغرب من مستقبل بعد الثورات لا فيما يراه الثوار.
القوى الغربية لا تريد أن ترى الثورات العربية إلا أداة تغيير لا تسير خارج دائرة المباح غربياً، بحيث تجري تغييراً للأنظمة بما يعيد الثقة للشارع العربي ويزيد من الحريات السياسية ويؤسس لمرحلة من الاستقرار الداخلي على المدى المتوسط والطويل بعد تجاوز المرحلة الانتقالية. في ذات الوقت يجب أن لا تصل التغييرات في البلدان العربية وفقاً للرؤية الغربية مرحلةً تصبح فيها السياسات الخارجية على المستوى الاستراتيجي محل نقاش داخلي.
الغرب قد لا ينجح في ذلك، لكنّه استغل وضعاً عربياً مأزوماً على الصعيد الداخلي لتكريس رؤيته، فالدول العربية جميعها وخصوصاً مصر وهي الأهم تعاني حتى اللحظة من مشاكل داخلية جمّة، تجعل الأولوية للداخل حتماً، والشعوب مهيأة لذلك، ففي ظل حالة الانقسام القطري والإثني والديني في الوطن العربي يصبح شعار مصر أولاً والأردن أولاً وسوريا أولاً مستساغاً وربما محبباً لدى الشارع. إضافة لذلك فإن بعض وسائل الإعلام ساهمت في تكريس الرؤية الغربية من خلال التركيز على البعد القطري للثورة وعدم المعالجة الكلية للمشهد، وتجاهل الرؤية القومية للحدث، وتضخيم التخوف من بعض الجماعات غير المرغوبة غربياً بحيث يصعب وصولها للسلطة، والإيحاء بأن المشهد القادم مشهد علماني يحترم الإسلاميين، ومنفتح على الغرب، ويتقن لغة المصالح، وأمنه القومي لا يتعدى حدوده السياسية!
هنا ظهرت إسرائيل، فرغم إشادتها بالثورات العربية مراراً وعلى لسان المحنّك فيها شمعون بيرس، إلا أنها بالتأكيد تخشى من عدم نجاح السيناريو الغربي للمشهد العربي، ولذلك فإن سياستها الأخيرة تسعى للمساعدة في تكريس هذا السيناريو. إعلاميا وسياسياً ابتهجت إسرائيل بالتغيير في الدول العربية موضحةً أن الشرق الأوسط بعد الثورات سيكون أكثر أمناً لإسرائيل. هو تصريح لا أعتقد أن قائله –بيرس- واثق منه لكنّه يريد إيصال فكرة مفادها أن إسرائيل لا تتخوف من العرب وأن التغيير ليس سلباً على إسرائيل إن كان التغيير ديموقراطياً معتمداً على افتراض أكاديمي لعلماء السياسة أن التاريخ لم يشهد حرباً بين ديمقراطيتين، وعليه فإن إسرائيل الديمقراطية لن تجد من يحاربها إن تمتعت شعوب العرب بالديمقراطية.
إسرائيل وكما هي دوماً لا تكتفي بالإعلام سبيلاً لتحقيق مآربها، فالتدخل العسكري هو خيارها الدائم. القول بأن إسرائيل اختلقت الهجوم الأخير على غزة دون أي مبرر حتى للشارع الإسرائيلي لا يحتاج إلى تحليل، فهو واضح يؤكد للمطلع أن إسرائيل لم ترد الهجوم على غزة من أجل غزة، وإنما أرادت لصواريخها على غزة أن تحمل رسائل عدة بمناسبة الثورات العربية، وهي كالآتي:
رسالة إلى الفلسطينيين: إن التغيير في الدول العربية لا يعنيكم بشيء، ما حصل في الدول العربية لا يتجاوز حدودها، وليس له أي أثر على توازن القوى في المنطقة. إن تغيير الأنظمة لا يعني تغيير الرؤى الاستراتيجية للتعامل مع قضيّتكم، فما تغيّر في مصر مثلاً قد يزيح عنكم ما كان يقوم به النظام السابق من تشديد عليكم في غزة، لكنه لن يمنع إسرائيل في أن تقوم بما تريد في سبيل تحقيق أهدافها. هذه هي الرسالة والهدف منها كسر الطموح الفلسطيني الحالم بثورة عربية تنتشله مما هو فيه.
رسالة إلى الثوار العرب: إن ما حققتموه من إنجاز بإزالتكم للأنظمة الفاسدة وما أثرتموه من رعب في نفوس حكّامكم حين تداعيتم عليهم كما القصعة على أكلتها، لا يعني أنه سيثير نفس الشعور لدى إسرائيل، فحشوداتكم في الميادين لن تثني إسرائيل عن ضرب غزة، بل ستتعمد إسرائيل ذلك، لتثبت لكم أن التغيير لديكم لا يعني إسرائيل في شيء، سوى أنها ممتنة لتغيير قد يقود لسلام حقيقي مع الأنظمة الديمقراطية!
رسالة إلى السلطة: إن عزوفكم عن المفاوضات ولجوءكم لخيارات أخرى لن يؤتي أكله، بل إنه ليس بمقدوركم بحث خيارات أخرى، حتى لو كان الخيار مجرد مصافحة لهنية يجريها عباس في غزة، فنحن –إسرائيل- من نقرر متى وأين وكيف. وهنا أُعقّب على هذه الرسالة بالقول: إن كانت القيادات الفلسطينية تريد المصالحة حقاً، فهل تقبل أن تكون رهينة لسياسات الأمر الواقع الإسرائيلية، وهل تقف المصالحة عند عقبة إمكانية دخول عباس إلى غزة، أو إمكانية تأمين حماس لموكبه؟ ألا يمكن إنهاء الانقسام إعلامياً كما بدأ؟ كيف نؤمن بإرادة كليهما للإصلاح في ظل (الردح) المتبادل والمتوازي بشكل غريب مع تصريحات الدعوة للمصالحة.
رسالة إلى العالم أجمع: إن ما حصل في الشرق الأوسط من تغيير لم يؤثر على مكانة إسرائيل كقوة أولى في المنطقة، ولن يزيح إسرائيل عن موقعها الريادي، بل إن الثورات العربية ستسقط الكيانات المعادية لإسرائيل، وما أقوم به من حرب على قطاع غزة في ظل صمت الثوار والساسة لا يعبر عن إنشغال الدول العربية بثورتها واستغلالي لذلك، بقدر ما يعني أن العرب قد تشربوا فكرة وجودي بشكل لا يقبل النقاش وأن أولوياتهم لم تعد للخارج.
رسالة إلى حماس: إن مصر الجديدة لن تكون ظهراً يحميكم، مصر الجديدة قد لا تحاربكم كما مبارك، لكنها لن تمنعنا عنكم. هذه الرسالة لا تختلف كثيراً عن الرسالة الموجهة للفلسطينيين ككل، لكن المضاف إليها هو الآتي: إن التغيير المنتظر سيؤثر عليكم سلباً، فقريباً ستفقدون المنابر جميعها في دول الطوق، وأول اختبار لكم، هو تعامل قيادتكم في دمشق مع هجومنا على قطاع غزة.
هذه رسائل إسرائيل، تعبر عن طموحاتها في المنطقة، ليس بالضرورة أن تحقق تلك الطموحات، لكن ما أود أن أختم به سطوري، هو ما أصدره المشير طنطاوي على حسابه في الفيس بوك، قائلاً قبيل الهجوم على غزة: "أصدرت تعليمات بإسقاط أي طائرة تخترق الأجواء المصرية". إن تصريحاً كهذا سيداعب مشاعر العرب لا شكّ، لكنّه يداعب طموح إسرائيل أيضاً، بل هذا جُلّ ما تتمنّاه، فهي ليست بحاجة للأجواء المصرية لضرب غزة، وإن كانت هذه هي المشكلة، فلينعم العرب بعدم دخولها أجواء مصر وليشعروا بالنصر، بينما تدك طائراتهم أرض غزة.
مجلة القدس المصرية
• كاتب ومحلل سياسي فلسطيني- ماليزيا
التعليقات (0)