رحيل رجل ومستقبل الامة.
(ذكرى وفاة جمال عبد الناصر) لم يكن مجرد رحيل عادي.. إنما كان ذلك اليوم يوم جرح وحزن عميقين ودعت فيه الجماهير العربية وفي مشهد غير مسبوق قائدها الذي عاش من أجل أمته واستشهد في سبيلها. كما كان الشأن بالنسبة لكل أحرار العالم الذين رأوا فيه نصيرا وناصرا لقضاياهم.
وبالرغم من مرور أكثر من ثلاثة عقود (39 سنة) على رحيله فان جمال عبد الناصر يبقى، بلا منازع، شاغل الناس، ورمز العروبة والوحدة والوطن العربي الواحد، فهو الغائب الحاضر فينا على الدوام.. مازال يثير في نفوس العرب وكل الأحرار في العالم، الأشجان والأحزان والأمل و الرغبة في النصر وما زال يمشي بيننا كأنه على قيد الحياة مما يؤكد أن فكرة القومية والعروبة والوحدة والأمة الواحدة ما زالت حية، وستبقى حية على الدوام.
إن الحديث في ذكرى الرحيل هذه وفي هذه الظروف بالذات التي تمر بها أمتنا اليوم لا يمكن أن يكون مجرد إثارة للآلام و المشاعر بقدر ما هو تعميق للصبر واستدعاء للآمال ودعوة إلى الصمود والاستبسال.. وحث على الفهم والعمل والاستفادة من كل تلك الدروس والمعارك التي خاضها جمال عبد الناصر بمعية جماهير أمته حتى قضى شهيدا في سبيلها.
ولئن كان من الصعب على أي قارئ أو كاتب متخصص باحث في تجربة هذا الرجل أن يلم بكل جوانبها و تفاصيلها وصورها، فإنني ومن موقعي كانسان عربي.. وكعينة من جماهير الأمة التي تربت على مبادئ وقيم هذا القائد الرمز سوف أحاول أن أبين وأستخلص بعض النقاط والدروس التي صار لها من الدلالة اليوم أكثر مما كان لها في الماضي.
1) الثقة بالنفس:
لقد كان امتلاك الثقة بالنفس أو فقدانها احد المحاور الرئيسية التي دار عليها الصراع الإنساني عبر التاريخ كله.. فكان هناك دائما من يعظّم ثقته بنفسه ويفعّل العناصر المكونة لها ويرفع وتيرة أدائها، وهذا في حد ذاته يعد مدخلا إلى الانتصار وامتلاك الشرط الحاكم للنصر.. الذي يعد بدوره مدخلا رئيسيا لتحقيق أي ظاهرة عند هذه النقطة بالذات نستطيع أن نقول أن فقدان الثقة بالنفس هو شرط حاكم للهزيمة أيضا بمعنى أننا سوف نهزم- قطعا- عند النقطة التي نفقد فيها الثقة بأنفسنا وقدرتنا وإيماننا.. مهما كان الشكل الخارجي الذي نبدو عليه أو نحب أن نكون عليه أو الذي أريد لنا أن نكون عليه.. وأننا ننتصر- قطعا- عند النقطة التي يكون امتلاكنا لثقتنا بأنفسنا وقدراتنا قد وصل إلى أوجه. (د. محمد يوسف- كتاب الناصرية ج1) لذلك ليس من باب الصدفة أن نقرأ في تلك المقولة التي جاءت في مقدمة هذا المقال إصرار عبد الناصر على تأكيد هذا المبدأ (مبدأ الثقة بالنفس) الذي هو في الأساس حالة معنوية يصح أن نسميها -الإرادة- تلك الإرادة التي لا يمكن تدميرها بالصواريخ والدبابات ولا تطالها طلقات الرصاص، ومن ثم فمن الممكن أن تخترق أجسادنا رصاصة لكنها لا تخترق في ذات الوقت إيماننا وإرادتنا بل إنها في ذات الوقت تستنهض هذه الإرادة و تعظمها وتستدعي التحدي الفطري في الإنسان، بمعنى آخر أننا وفي كل الأحوال نستطيع أن نحتفظ بإرادتنا بمنأى عن التدمير المادي الذي إذا ما حاق بنا فان إرادتنا هي الشرط الحاكم لتجاوزه.
2) عقيدة المقاومة:
إن عقيدة المقاومة لدى الشعب العربي عامة لا بد أن تتعامل مع الصراع العربي الصهيوني باعتباره مركز الدائرة ورأس العوائق على طريق التوحد العربي وتحقيق التنمية وبناء المشروع النهضوي القومي العربي المبتغى.. وطالما أن الإقليمية مازالت تحاصر الشعب بالقوة الباطشة والحيل الخفية بالسجون والمشاريع الواهية تقوده من فشل إلى آخر و من هزيمة إلى أخرى وتستكثر عليه حتى لحظات الانتصار العابرة، وتحول دونه ودون دولته الواحدة بالوعود الكاذبة والبدائل الفاشلة، فان عقيدة المقاومة عند الشعب العربي عامة ولدى شعبنا في فلسطين خاصة لا بد أن تتعمق وتتصاعد أكثر، وفي هذا الظرف بالذات.. فليس ثمة شريعة ولا تشريع ولا قانون في الكون كله يمكن أن يخول لأحد أن يطلب من شعب أن يوقع بالموافقة على وثيقة عبوديته وبيع وطنه وإنهاء كفاحه ووأد ثورته.
التاريخ كله لم يعترف بمثل هذا المنطق..ولا اعترفت به الشعوب، بدءا من ثورة “العبيد” بقيادة “سبارتاكوس” في العصور القديمة إلى عدم اعتراف الشعب العربي في الجزائر باحتلال واحتواء فرنسي دام 132 عاما إلى عدم اعتراف شعب جنوب إفريقيا بالاستعمار الاستيطاني البريطاني الذي ظل جاثما على أرضه أكثر من أربعمائة عام متواصلة حتى أصبح أمرا واقعا، إلى عدم انكسار الفيتنام أمام أكثر من ستمائة ألف جندي أمريكي مدججين بكل أنواع السلاح.. وكسرتهم بمقاومتها واضطرتهم للهروب وليس الانسحاب ذعرا من انتقام المواطنين غير المسلحين، إلى عدم اعتراف أي من دول الحلفاء باحتلال القوات الألمانية لبلادهم وبيوتهم وإذلالهم بكل أنواع الذل والاهانة.. وإصرارهم على تحرير بلادهم فحرروها، ووصولا إلى ما نراه اليوم من نهوض وصمود لطلائع المقاومة في فلسطين ولبنان والعراق الذي كسرت مقاومته الباسلة أنف العدو ومرغته في التراب. لذلك كله ليس أمام جماهير أمتنا من خيار سوى التمسك بخيار المقاومة عقيدة ونهجا حتى تحرير كل الأرض العربية المغتصبة.
3) وحدة الأمة في الضمير و الوجدان العربي:
ليس من المصادفة أن يكون تاريخ نفس اليوم من نفس الشهر( مع اختلاف السنة) ولكن نفس العقد من الزمن الذي شهد رحيل عبد الناصر، هو نفسه التاريخ 28 سبتمبر1961 الذي تصاب فيه الأمة، بلوعة كبرى لا تقل إيلاما عن لوعة فقدانها لقائدها، كانت تلك جريمة الانفصال التي نفذتها فلول الإقليمية الخائنة.. فكانت تلك المؤامرة بمثابة الخنجر الذي طعن به أعوان وعملاء الاستعمار من الانفصاليين، حلم أمتنا وفارسها النبيل الذي ظل ينزف منذ ذلك التاريخ حتى رحل. ولكن بالرغم من كل تلك الآلام العظيمة، وبالرغم من كل تلك الخيانات وبالرغم من كل ذلك التآمر.. وإكراما وإجلالا لكل الذين قاتلوا من أجل الوحدة العربية ومن أجل تحقيقها.. ولللذين استشهدوا منعا لجريمة الانفصال. نقول إن الأمة باقية والحلم باق.. ليس فقط رمزا معنويا في وجداننا العربي، لكنه خيار مستقبلي علمي وموضوعي صحيح لكسر قوى الاستعمار وأعوانه وإفشال مخططاته ومشاريع اغتصابه للأرض والثروة والإمكانيات العربية.
يقول جمال عبد الناصر “إن الأمة العربية لم تعد في حاجة إلى أن تثبت حقيقة الوحدة بين شعبها، لقد تجاوزت الوحدة هذه المرحلة وأصبحت حقيقة الوجود العربي ذاته. يكفي أن الأمة تملك وحدة اللغة التي تصنع الفكر والعقل، ويكفي أن الأمة العربية تملك وحدة التاريخ الذي صنع وحدة الضمير والوجدان، ويكفي أن الأمة العربية تملك وحدة الأمل التي تصنع وحدة المستقبل و المصير”.
بهذه الكلمات العميقة حدد عبد الناصر نقطة الانطلاق الصحيحة لمفهوم الوحدة العربية “فالعرب أمة واحدة من حيث هي حصيلة تكوين اجتماعي من الأرض والشعب، وحضارة متميزة هي حصيلة تاريخية متراكمة من تفاعل الشعب و الوطن، حقيقة لم تعد في حاجة إلى إثبات بمعنى أن النضال العربي لا يمكن أن يكون هدفه إلا تحقيق الوحدة العربية التجسيد السياسي لوحدة الوجود القومي ذاته.. من هذا المنطلق بات لزاما وواجبا على كل المناضلين والمقاومين الأحرار من أبناء أمتنا أن يبنوا أداة نضالهم القومي الصحيحة وأن يتسلحوا بالعزم والإرادة والإيمان في مواجهة هذا العدو الغاصب المدعوم امبرياليا، ومن كل قوى الاستعمار القديم الجديد في العالم ولا خيار للقوميين والناصريين منهم على وجه الخصوص إلا أن يكونوا في طليعة هذه القوى، على خط النضال و المواجهة حتى يحرروا أمتهم ويساهموا في بناء مشروعها التحرري القومي الديمقراطي.
4) قضية فلسطين في المشروع التحرري العربي:
أن الحديث في هذه النقطة بالذات يعد على قدر كبير من الأهمية والخطورة في نفس الوقت “فالثورة الفلسطينية” التي واصلت قيادة الكفاح المسلح للشعب العربي في فلسطين (1-1-1965) حيث تفجرت شاراتها الأولى بدعم وتنسيق و تسليح كامل من عبد الناصر مستلهمة من تجارب أمتها، ومستفيدة من كل ذلك الرصيد والزخم النضالي الذي عمّده الشعب في فلسطين منذ ظهور البوادر الأولى للاستيطان الصهيوني، وقدمت في سبيل ذلك الآلاف من الشهداء والآلاف من الجرحى والآلاف من الأسرى والآلاف من المهجرين والآلاف من البيوت المهدمة والآلاف من المزارع المجرفة نجدها اليوم وقد ارتطمت بالسد، سد الإقليمية في داخلها وحصار الإقليمية من خارجها، تفاوض من أجل “جيتو” لبعض من شعب فلسطين على بعض من أرض فلسطين (مشروع الدولة الذنب) وفي المقابل يمارس عليها العدو وعلى كل أبناء الشعب العربي هناك كل أنواع الضغوط والحصار والقتل والأسر والتدمير والتجويع والإذلال وزرع الفتنة والتناحر بين فصائل المقاومة، وليس هذا الحديث انتقاصا ولا انتقادا من انجازات “الثورة الفلسطينية” بل تذكير بما تذكير بما كان نبه إليه الفكر القومي وتأكيدا لصحته حيث حذر مبكرا من التقدم على الطريق المسدود الذي انتهت إليه اليوم منظمة التحرير وأداتها النضالية.
يقول المفكر القومي الكبير د. عصمت سيف الدولة سيف الدولة: “إن تحرير فلسطين يمر عن طريق وحدة الأمة العربية مجسدة في وحدة قواها التحررية ولن تتحقق وحدة الأمة العربية إلا إذا توحدت قواها الثورية فتتحرر فلسطين وكل الأرض العربية المحتلة، إن بدائل الممكن قد استنفذت ولم يعد هناك مجال للتجربة و السفسطة”.
في النهاية يفترض أن أكون قد أجبت على السؤال المعنون لهذا المقال (أي مستقبل لأمتنا.. وأي وطن نريد؟؟)
أو على الأقل قد وضعت الإصبع على موطن الداء الذي يحول دون أن تتحول تلك التضحيات العظيمة التي تقدمها جماهير أمتنا.. إلى فعل عظيم في الواقع.
ختاما ليس لي أبلغ من هذه الكلمات أنهي بها كما جاءت على لسان قائلها تحية إلى كل شهداء أمتنا ودعوة واستنهاضا لكل شرفائها وأحرارها: “لا تستوحش طريق الحق لقلة سالكيه,, الامام علي ابن ابي طالب
التعليقات (0)