عندما كتب محمود درويش قصيدته «السروة انكسرت» التي نشرها في
ديوانه «لا تعتذر عما فعلت» اختار جملة من قصيدة للشاعر اللبناني بسام
حجار عن السروة، ووضعها في مستهل القصيدة. كانت المرة الأولى يختار فيها
محمود درويش ما يشبه «الشاهدة» الشعرية من قصيدة لشاعر عربيّ شاب كان
واحداً من المعجبين به. ولم تكن السروة إلا الرمز الذي جمع بين موت هذين
الشاعرين، الموت المأسوي الذي قصفهما في أوج عطائهما الشعريّ. هذه السروة
وردت كثيراً في شعر بسام حجار، صورة جنائزية وظلاً يحرس الموتى الذين في
المقابر.
رحل الشاعر بسام حجار عن أربعة وخمسين عاماً. لم يمهله المرض
العضال الذي ألّم به ليلملم أوراقه، هو الذي لم يكن إلا شاعراً، حتى في
ترجماته الكثيرة ومقالاته. كان بسام كأنه على سباقٍ مع الموت، شاء أن
يهزمه بعدما أحسّ في طويته، أن الموت يأتي كالسارق، فراح يكتب ويترجم
مواجهاً ذلك الهاجس الذي لم يبارحه منذ ديوانه الأول «مشاغل رجل هادئ
جداً» (1982) حتى كتابه «حكاية الرجل الذي أحبّ الكناري» الذي استحضر فيه
صورة والده الميت. ولم تكن مصادفة أن يكون ديوانه الأخير «تفسير الرخام»
(2006) عملاً احتفائياً بالموت بعدما رثى شقيقته الراحلة بقصيدة هي من
أجمل ما يمكن أن يكتب في المراثي الخفيضة النبرة.
لم يكن بسام حجار
شاعراً فريداً فقط بل هو مثّل صورة الشاعر المثقف، الذي يعرف كيف يوظف
الثقافة في صميم العمل الشعري، فإذا القصيدة أفق تتلاقى فيها الفلسفة
والمعرفة والسياسة والفن... فهذا الشاعر الذي نشأ ماركسياً ثم راح ينفتح
على الفلسفة الميتافيزيقية لا سيما عبر قراءته الفيلسوف الألماني هيدغر
وابن العربي كان ذا بُعد روحي عالٍ، حتى أنه لم ينثنِ عن بث الحياة في
الأشياء التي من حوله، الأشياء النافلة التي تصنع الحياة اليومية، جاعلاً
منها كائنات وظلالاً. وهنا تجلّت شعريته أكثر ما تجلّت في أفقها الايهامي
الطالع من صلب الكينونة.
كان بسام حجار مثقفاً كبيراً، يقرأ بنهم
ويترجم بنهم، وقد يكفي استعراض الروايات والدواوين والنصوص الفلسفية
والسياسية التي عرّبها حتى يتضح حجم هذه الثقافة التي كان يملكها. كان
زاهداً بحياته، لا همّ له سوى الانصراف وراء الابداع، شعراً وترجمة. وكان
فعل الترجمة لديه ابداعياً بامتياز، يصرف له كل مراسه اللغوي والجمالي،
حتى أن نصوصاً كثيرة كانت تستحيل تحت قلمه أجمل من النصوص الأصل، نظراً
الى اعتنائه بها وصوغه إياها في لغة قشيبة وشديدة المتانة.
ينتمي بسام
حجار الى جيل الثمانينات، إن أمكن الأخذ بالأجيال الشعرية، هذا الجيل الذي
نشأ وسط الحرب وكان شاهداً عليها أكثر مما كان فاعلاً فيها. وكان هو في
طليعة شعراء هذا الجيل، ومن أغزرهم وأشدّهم وعياً باللعبة الشعرية. وكان
موقفه من الحرب مثل رفاقه، موقفاً نقدياً، موقف الضحية التي تتألم بصمت
بعدما وجدت نفسها عاجزة عن مواجهة الآلة القاتلة. إلا أن بسام كان ذا طابع
خاص، سواء في قصائد الحب التي كتبها أم في المراثي أم في النصوص التي
تتخطى تخوم النوع. هذا الطابع كان موسوماً بالهمّ التجريبي الذي جعل
القصيدة حيّزاً مشرعاً على الأنواع التي راحت تمتزج بعضها ببعض لتنجم عنها
شعرية الاختلاف. هكذا كان شعر بسام يجمع بما يشبه الكيمياء السحرية، بين
الغنائية والتجريد، بين الأشياء والأفكار، بين التفاصيل والعلامات... ولئن
بدا متأثراً في مطلع مساره بالشاعرين محمد الماغوط وأنسي الحاج، فهو سرعان
ما نأى عنهما، مرسّخاً صوته العذب والجميل الذي تتردد في ثنايا أصداء
الكائن والعالم، أصداء الكينونة والعدم.
ودّع بسام حجار الشعر بديوان
عن الموت هو مبدئياً ديوانه الأخير «تفسير الرخام». وضم ثلاث قصائد يجمع
بينها فضاء واحد هو فضاء الموت، هذا الذي راح الشاعر يعيد اكتشافه شعرياً
ولغوياً، حتى أمست الكتابة وكأنها تمرين على معانقة هذا الموت وليس على
تخطيه أو قتله. إنه الموت الذي يضحي أليفاً من شدة توغل الشاعر في عالمه،
العالم المسكون بالصمت والرهبة، بالسهو والعزلة. الموت ليس في معناه
الميتافيزيقي والصوفي - الدنيوي فحسب، وإنما أيضاً في بعده الشخصي أو
الشيئي والمحسوس. إنه الموت الذي يشبه الحياة ولكن الحياة الأخرى،
المتوهمة والقائمة على تخوم الوجود والغياب.
لم يهجُ الشاعر الموت ولم
يمتدحه ولم يكتب قصيدة «القبر» على غرار القصائد التي كتبها شعراء غربيون
كثر، ولم يكتب أيضاً مراثي أو مرثيات ولا أناشيد جنائزية... كتب الشاعر
الموت وكتب عنه في آن واحد، ويحضر الموت في قصائده، حقيقة وذكرى، فكرة
وتجربة، واقعاً وأسطورة. والأشخاص - الأموات يغرقون في متاهة لعبة الضمائر
التي يجيدها بسام حجار وفي لعبة الأنا - الآخر والشخص - الظل، حتى ليستحيل
التمييز في أحيان بين الميت والميت، بين الميت والحي.
ولم يكن مستغرباً
أن تنتحل قصيدة «تفسير الرخام» ما يشبه الطابع الشخصي - مثل الكثير من
قصائد حجار، لتقول اللاشخصي أو الشخصي ممزوجاً بالميتافيزيقي والفلسفي
والحلمي وسواهما. تحضر السنة «الخمسون» وكأنها نافذة أو شرفة يطل الشاعر
عبرها «ساهياً» كما يقول ولا مبالياً بجلبة «الحياة» التي يصنعها الناس
والشارع والحوانيت والتلاميذ ورجال الشرطة... إنها الاطلالة على الحياة من
فوق، حيث ينفصل الشاعر الخمسيني عن العالم في الأسفل انفصالاً دنيوياً لا
صوفياً أو ربما صوفياً ولكن بلا دين. لا يبالي الشاعر حتى بما كان ينبغي
له أن يحيا من أيام، أو أن يحياها «الظل» الذي كانه - كما يعبر - أو ذاك
الذي كان يصحبه طوال أعوام. كأن «الظل» بحسب بسام حجار هو ماضي الكائن
ومستقبله، فهو لن يلبث أن يتحدث عن «ذكريات الشخص الذي وددت أن أكونه».
لا
أدري لماذا أتذكر هذه القصيدة التي كتبها بسام حجار عند بلوغه الخمسين. هل
كان يخامره شعور أنه سيموت في جوار الخمسين؟ لعل مواجهة الموت تبدو شخصية
وشخصية جداً، وإن حضر طيف الأخت الراحلة أو طيف الأب الراحل أيضاً. فالطيف
هو «طيف منزلي» وقد يكون توأم النوم، نوم الشاعر الذي يخاطب نفسه. والشاعر
لن يبالي بالموت إذا حدث «أمس أم اليوم أو اليوم الذي يلي». بل هو لا
يبالي بنفسه إن بقي حياً لأيام أو لأعوام أخرى. من يعش الموت ويسبقه لا
يعد يخشاه: «إنها حال الشاعر الذي بات ينظر الى الموت وكأنه وراءه. وهو
يدرك أن «الحجر» سيشفى منه، الحجر الذي يصفه بـ «موطنه» و «دارته
البعيدة». الحجر سيشفى من الشاعر عوض أن يشفى الشاعر منه. الحجر الأملس
«جماد الطمأنينة»، الذي يفسر روح الشاعر. ولن يبالي الشاعر بهذا «الحجر»
أيضاً الذي هو القبر أو الرخام. و «هناك» يكون الصمت حجراً أو «من معاني
الحجر الأخرى». هذا الصمت هو نفسه صمت الحجر الأملس، الشاهد على الموت
مقدار ما هو شاهد على الروح حين يعمد الى تفسير هذه الروح بصمت.
كأن
بسام حجار رثى نفسه أو كتب عن موته متخيلاً نفسه على سرير الموت. كتب أنه
سيكون في حال من «السهو الذي يسري تحت الجلد/كالقشعريرة/كغيبوبة البياض/
كنعاس المنهوكين...». هذا السهو يبلغ أوجه عندما يقول: «سأكون ساهياً
عني». هكذا يتجلى السهو وكأنه حال بين حالين، بين الغياب والحضور، أو حال
في حالين، غياباً وحضوراً. وهذه الحال المزدوجة هي التي تجعل «المزهرية»
جسداً وكذلك البيت: «هذه المزهية التي حفظت روحي» يقول الشاعر الذي كان
وصف ضمير الجماعة (نحن) بـ «أرواح البيوت المطمئنة». هذه الظاهرة، ظاهرة
إحياء الجماد بصفته أثاثاً منزلياً أو أشياء حميمة وصوراً عرفها كثيراً
شعر بسام حجار، حتى ليمكن وصف بعض مراحله بالمرحلة المنزلية حين يكون
المنزل أشبه بالعالم الحي الذي يضم كائنات حية أخرى.
ربما شاء بسام
حجار أن يكون ديوانه الأخير تحية وداع، ليس للشعر، فهو راقد في قلبه، بل
للعالم، هذا العالم عاش فيه كالغريب وغادره باكراً كالغريب.
التعليقات (0)