ليس سهلا ان تترك بصمتك على وجه الحياة..وليس مألوفا ان يصحو العالم على أسف وحزن لوفاة شخص أبى ان يترك العالم دون ان يمس بعلمه حياة الناس..منذ نيوتن لم يكن للتفاحة الا لونها الاخاذ ونكهتها الشذية حتى جاء ستيف جوبز ليحولها الى رمز لامكانية ان نتلمس النجوم بضغطة زر..ولكن هذا العالم..وهذه الناس..وهذا الالم والتعاطف..ليس بالقدرة الكافية لاقناع البعض بان رحمة الله تسع الجميع..
نصيحة محب..هو العنوان الذي اتخذه صديقي المجهول ليعنون رسالته التي وجدتها تقبع في بريدي وهي محملة بالكثير من عبارات الاشفاق والحرص والدعاء بالهداية والابتعاد عن المسالك الوعرة ومزالق الشيطان..والمزالق هنا كانت هذه المرة هي الوقوع في فخ التأسف على وفاة العالم التقني الراحل ستيف جوبز وذكر مآثره..ورغم تأكيد المحب الكريم بان الرسالة شخصية وقد اختصني بها دون العباد تكرما منه وتفضلا وتذكيرا وتبصرة ..ولكن عدم كتابتي اي حرف حول محاسن الراحل قد تثير الشكوك في انها رسالة موحدة ومرسلة الى العديد الذين تتاح عناوينهم على الفضاء الالكتروني والذي –بالصدفة- كان للراحل مدار "اللعن" بعض الاسهام في ان نستطيع امتطائه بهذه السلاسة واليسر..
الرسالة تبدأ بالاسف والتعجب على حال المسلمين اليوم" من ضعف هذه العقيدة العظيمة لديهم واهتزازها في أتفه المواقف"حيث انه " في كل مرة يهلك فيها كافر اشتهر بشيء ما, خرج من جهلة المسلمين من يترحم عليه ويستغفر له معددا مناقبه الدنيوية"
فعلى الرغم من ان السيد الكاتب يقر بان تلك"المناقب" قد افرزت" ثورة في عالم التقنية,وإبداع بالمنتج, وجودة في الخدمة, وروعة بالمحتوى, وتجديد مستمر"وان ستيف جوبز" يقف خلف إدارة كل ذلك"معتبرا ان ذلك قد يكون مبررا لكل " هذه الإثارة الحاصلة من موته أو القول بأنه قدم في الدنيا تقنية ونفع بعلم وغير ذلك"الا انه لا يستطيع الامتناع عن العجب بأن" يأتي من المسلمين من يتجاوز حد العقيدة ويجعل ميزان الناس بأعمالهم الدنيوية لا بمعتقدهم ومآلهم الأخروي, فيترحم على هذا الرجل "الكافر" معتبرا ان ذلك" من انتشار الجهل بدين الله وتحكيم العاطفة الجياشة"..
وهنا يجب الاعتراف بمقدار الجهد الذي بذله السيد الكاتب في ايراد الدلائل التي تشير الى ان" عقيدتنا معشر المسلمين "هي ان" لا استغفار لهم ولا دعاء بالرحمة, فهذا محرم بالكتاب والسنة والإجماع."كما انه من الانصاف الاقرار بتمكنه من الدلائل التي تقطع الطريق على كل متشكك حتى من يستدل بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث البغي من بني إسرائيل التي سقت كلبا فغفر الله لها ..وذلك من خلال الرد بان الحديث ذكر بحق من كانت" كانت بغيا من بني إسرائيل, أي زانية, ولم يقل أنها مشركة كافرة"وبالتأكيد لم يكن لها يد في اختراع الآي فون او الآي باد ..وان " العمل الصالح لا يقبل من الكافر"وانه" لا يجوز لمؤمن أن يستغفر ويطلب الرحمة لمن مات على كفره"..
وهذا الجهد وذلك التمكن قد يكون مبررا للتغافل عن"سهو"السيد الكاتب عن ان هناك فرق قد لا يخفى على الكثيرين ممن هم اقل علما من فضيلته ما بين الترحم وبين الاشادة والاعلاء للمساهمات القيمة في مجال العلم او الفن او الادب التي قد تكون للراحلين ممن هم لا يشاركونا في المعتقد ولكنهم رغم ذلك لم يبخلوا علينا بعلمهم وادبهم ولم يطلبوا منا-ولم يبدوا ادنى اهتمام- بان نصبأ بدين الاسلام وندخل في معتقداتهم افواجا مقابل ان نتمتع بالخدمات الجليلة التي وفروها لنا..
كما اننا نجرؤ على القول ان السيد الكاتب قد اغفل بعض الشواهد التي قد لا تتفق مع ما اورده على انه من اركان الايمان ..واهمها ان القرآن امر المسلمين ان يكون منصفين حتى مع المخالفين..كما في قوله تعالى : ( وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) ..
كما انه من الممكن ان يستدل على جواز طلب الرحمة والمغفرة للمختلف بما اخرجه البخاري ومسلم من قول الرسول صلى الله عليه وسلم : (( اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون )) ..واكرامه لسفانة بنت حاتم الطائي لأن (أباها كان يحب مكارم الأخلاق، والله يحب مكارم الأخلاق)..
وهناك كثير من شواهد الاشادة والاعجاب بمآثر المخالفين ورد ت عن النبي وبمواضع كثيرة قد يكون كافيا ايراد استحسانه (صلى الله عليه وسلم)لابيات امية ابن ابي الصلت حتى قال:إن كاد أمية ليُسلم.. واشادته لكافر اخر حين قال : ( لم أسمع وصف عربي أحببتُ أن أقابله أكثر من عنترة ) لبيان ان هذه الممارسة مما لا تعد مما يخرج المرء عن طريق الحق..
ومن المفيد هنا ذكر ان مدح السيدة عائشة رضي الله عنها عبد الله بن جدعان بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم ووصفها اياه انه كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين لم يقابل بالانكار من قبل الرسول..
وهناك الكثير من الحالات التي قابل بها الرسول الاكرم بعض افعال الكفار بالاحترام والتوقير كما في حالة مطعم بن عدي الذي مات وهو كافر ولكن ذلك لم يمنع ان يعترف له بسابق مواقفه الإنسانية وحمايته للرسول عليه السلام، عندما قال عليه السلام عن أسرى بدر: «لو أن المطعم بن عدي حي فكلمني في هؤلاء النتنى لأطلقتهم له»..
وان كان البعض مطمئنا الى صلابة النص الذي يتحدث عن" ان أبو موسى الأشعري رضي الله عنه دخل على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فَعَرَض عليه حساب العراق ، فأعجبه ذلك فقال : ادع كاتبك يقرؤه عليّ ، فقال : إنه لا يدخل المسجد ، قال : ولم ، قال : لأنه نصراني ، فَضَرَبَه عُمر رضي الله عنه بالدّرة ، فلو أصابته لأوجعته ، ثم قال : لا تُعِزّوهم بعد أن أذَلّهم الله ، ولا تأمنوهم بعد أن خَوّنهم الله ، ولا تُصَدِّقوهم بعد أن أكذبهم الله ".
فان هناك من الحديث ما يؤكد بان الرسول الكريم لم يجد اي غضاضة في مدحهم ..فكما روى مسلم عن المستورد القرشي عند عمرو بن العاص سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : تقوم الساعة والروم أكثر الناس . فقال له عمرو : أبْصِر ما تقول ! قال : أقول ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : لئن قلت ذلك إن فيهم لخصالاً أربعا : إنهم لأحْلم الناس عند فتنة ، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة ، وأوْشَكهم كَـرّة بعد فـرّة ، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف ، وخامسة حسنة جميلة ، وأمنعهم من ظلم الملوك
ومن هذا يكون ان اعتراف المسلم للآخر المختلف عقائديا بالتفوق والنبوغ والفضل ومدحه بما هو اهلا له –ومن وجهة نظر اسلامية- لا يخدش في ولاء المسلم لدينه ومعتقداته ولا يترتب على ذلك اي ممارسة منهي عنها..كما ان انتقادنا لما قد يصدر من اقوال او ممارسات عن المسلم لا يعني البراءة منه ،" كما قال عليه الصلاة والسلام لأبي ذر الغفاري أحد السابقين إلى الإسلام«إنك امرء فيك جاهلية». فهذا القدح لا يعني التخلي عن الولاء الواجب نحوه"..
كما ان الميزان هنا للبصمة التي يتركها الفرد على وجه التاريخ ومدى تأثيره على المحيط والعالم وليس لأغراض شرعية..وعلى هذا الاساس قد يكون المرء "كافرا"ولكنه يمتلك من الخصال والقيم الانسانية ما ليس في مسلم آخر..وقد يكون له من المواقف والايادي البيضاء على المسلمين ما لا نجد مثيلها عند بعض الراسخون في العلم..فمثلا مسلمي اوربا الغربية يمارسون شعائرهم الدينية بحرية تفوق كثيرا ما يتمتع به اقرانهم في بلاد العلم والايمان..ورئيسا"كافرا"مثل شافيز كانت مواقفه اكثر اقترابا للمسلمين الفلسطينيين من الحكام العرب الاقحاح..كما ان انجلينا جولي مثلا اكثر قربا للفقراء-ومنهم المسلمين- من اسامة بن لا دن او الزرقاوي..
كما ان من المهم تثبيت ان الدخول في معمعة الكفر والايمان في هذه الحالة بالذات قد يدخلنا في اشكالية حلية استخدام ما تمخض عنه ذهن"الكافر" من وسائل تحقق رفاهية البشر او تريحهم او تقلل من الجهد المبذول من قبلهم او قد تنقذ حياتهم..خصوصا واننا نتحصل على هذه التقنيات بالطلب والتوسل وبذل المال عن يد ونحن صاغرون ولا تصل الى ايدينا عن طريق الغزو والمغنم ..
فليس من المجهول ان دار الاسلام تعتمد على "الكفار"في كل ما يصبحون عليه او يمسون.. فالأذان لا يرفع ..ولا القرآن يطبع..الا بما تجود به بلاد الفرنجة الكفار..ولا نستطيع ان نقف للصلاة الا بادويتهم ....ونحن لا نستمع الى الخطب التي تلعنهم الا من خلال الاجهزة التي يرسلونها الينا مرزومة ومغلفة مع كتيب صغير لطريقة الاستخدام.. ومن المؤكد ان علمائنا الاجلاء لا يرضون ان يزرقوا بالوريد او..بالوريد الا اذا كانت الابرة مما انتجته مصانع اعداء الدين والملة..وحتى السلاح الذي يغتال به المجاهدين مناوئيهم..بل والسكين التي يقطعون بها الرقاب قربة الى الله تعالى ..فلا تستل الا بعد الاطمئنان الى انها من صنع "الكفار"..
فمن نافل القول اننا لم نكن لنسمع بستيف جوبز الا بسبب تغلغل ما تفتقت عنه عبقريته من منتجات كان لها المساس المباشر باسلوب حياتنا المعاصرة ..كما لا يخفى مدى الانتشار الكثيف لما وصفها السيد الكاتب بـ"التوافه"في مكان اخر من رسالته الكريمة التي استفزت كل هذا الكلام والتي لم يكن لها ان تصل الى وجهتها الا بفضل ما اخترعه"الكفار" وبذلوا فيه جهودا ومالا ووقتا قد لا يسفحه الكثير من "الصالحين"..
ولكي لا نقع في فخ الاطالة..ولكي لا نكون في موضع مقابلة كرم السيد الكاتب وجميل فضله بالنقد والانكار..نجرؤ على القول ان النظر الى وفاة شخص انهك متابعيه دهشة واعجابا بما قدمت يداه من زاوية كونه لا يستحق الاشادة والتقريض لكونه مختلف ثقافيا قد لا تكون الصورة المثالية التي يرغب المسلمون في تسويقها الى العالم..ولا تدل الا على نوع مرضي من العنصرية لا نرى انها تمثل حالة عامة في المجتمع..والاهم ان هذه الاقوال هي مما يضر ولا ينفع..وان كان من الممكن ان تجد لها بعض الصدى في زوايا منتديات الكراهية والانغلاق المعتمة..فانها لا تعدو ان تكون غثاء تذروه رياح الحس الانساني السليم ولا تقوى ان تخدش نقاء سيرة بنيت بحفر الصخر بالاظافر..وفي ميزان المنطق..يبقى اسم العالم والاديب مدونا في سجل الايام مقرونا بما قدمه لخير الانسان..ذلك الخير الذي يبقى الى الابد جذوة من نور في ضمير العالم ..بينما يذهب زبد الطاعنين الشامتين الشاتمين جفاء..
التعليقات (0)