خلال أربعين عاما، هل يتغير الانسان، أم تتغير الأمكنة؟ ربما يحدث الأمران معا، لكن الوجدان يظل ينمو، وكذلك عشق المكان. انه الجنوب، الوطن والبوابة الى الوطن.
انه الجنوب منتصرا، لعله التغير الأهم ليس في المكان وحسب بل على صعيد وجود امة كاملة.
أربعون عاما من الزمان فصلت ما بين الرحلتين. كانت المرة الأولى ولما أتجاوز الثالثة عشرة من العمر. هي رحلة مدرسية تدافعنا فيها الى باص المدرسة متحررات من اللباس المدرسي الكحلي والأبيض. يممنا شطر الجنوب اللبناني الذي خبرت طريقه في الزيارات المتواترة مع الوالد لزيارة صديق له.
علي سليمان، الصديق، هو فلاح فلسطيني، قسرا رحل عن أرضه، لغربة تقاس بالأيام لا بالسنوات. عشق الأرض، وأحب رائحة ترابها... يتغزل بها كمعشوقة جميلة. كان صعبا عليه احتمال تحول مصيبة 1948 فرابض في القاسمية بانتظار العودة القريبة. اشترى بستانا وضمن آخر لقاء مبلغ شهري... " هنا أتنسم هوائي وأشتم رائحة ترابي" هكذا كان يقول علي، وكنت أسمع دون وعي أو ادراك .
كان محظورا علينا نحن اللاجئين تجاوز جسر القاسمية بدون اذن مسبق من السلطات المسؤولة. أبي كان محظوظا ببعض رجالات السلطة الذي جمعته بهم صداقة تسهل عليه أمور حياته، على أن أبعدمدى وصلناه لم يتجاوز مدينة صور، لتكتمل جولته هناك بزيارة صديق آخر هو " أحمد النجمي" الذي أحب أقرب مكان يمكنه العيش فيه بانتظار العودة. في ساحة صور، أو ما درجنا على تسميته دوّار صور، كان أبي يردد لازمته: " شايفه يا بنتي هذا الطريق ... لو أسرعنا قليلا سنكون أمام بيتنا في عكا خلال نصف ساعة"... حتى أصبحت في كل مرة أريحه من عناء ترداد تلك اللازمة ولأقول له بأني قد حفظت الأمثولة. لكني كثيرا ما تساءلت في سري: بيتنا في عكا؟ وماذا عن بيتنا في برج البراجنة؟ وكم بيت يمكن أن يكون للانسان في هذا العالم؟ وأصطدم بحكايات أسمعها دوما في لقاءات الكبار في بيتنا رجالا ونساء...
كل يتحدث عن تجربته ومعاناته في رحلة الآلام ما بين الوطن والمنفى.. فدروب جلجلة الفلسطيني تنوعت طولا واتساعا.. لم أكن أتعمد الاستماع، ولم أكن لأصغي بانتباه، لكن كل شيء كان يعمل على حفر تلك الحكايا عميقا في الذاكرة... الوجوه الحزينة، النظرات التائهة... وبالحس الطفولي كنت أدرك أن أمرا عظيما قد حل بهؤلاء الناس، وأن وحشا كاسرا قد دمر كل جمال في حيواتهم...
صغارا تعلمنا استعمال كلمة "شكرا" ولكن لم أكن لأتساءل لماذا يردد الكبار في مثل هذه المواقف كلمة " بالعودة" و" بجمع الشمل" و"بهداة البال"، وهم يضعون فناجين القهوة بعد آخر رشفة منها... ربما لاعتقادي بأن للكبار لغتهم وتعابيرهم ... لاحقا سمعنا من أصدقائنا اللبنانيين استغرابهم لتردادنا هذه التعابير الى درجة الضحك منها، ولم يدركوا ما تنطوي عليه من مرارة، الا أثناء الحرب والتهجير فاقتبسوها ورددوها.
في باص المدرسة الذي وصل بنا الى طرقات اصطفت على جانبيها شجرات الليمون كعسكر بانتظار موكب رسمي، عبقت الطبيعة بعبير زهر الليمون الذي تغلغل في مسامنا.. أغمضت عيني لمزيد من الاستمتاع وأخذت نفسا عميقا أحشد فيه أكبر قدر من عبق زهر الليمون.
هذه المرة تجاوزنا دوار صور، وفي ذات الطريق المؤدي الى بيتنا في عكا.. البيت الذي سمعت جدرانه صرختي، لكني لم أعرفه مكانا...أصوات الهرج والغناء، لم تعد سوى ضرب طبول تقرع في رأسي.. أين تأخذنا الطرقات؟ ومن هؤلاء الرجال الثلاثة المرافقون لنا، والذي عرفت لاحقا انهم من أحد أجهزة السلطة! كنت ساهمة أنظر من النافذة، فطبعي لايميل الى الرقص أو الغناء، الا اذا تعلق الأمر بالأناشيد الوطنيةالتي نكررها كل صباح، ونحن نقف صفوفا مستقيمة نؤديقسم العودة متوجهين بوجوهنا وأيدينا المرفوعة المعاهدة صوب الجنوب وقبل أن تحتوينا الصفوف المدرسية.
بعد سير لا أستطيع تقديره، وقف أحد الرجال الثلاثة وصرخ بنا" هسس"! صمت ثقيل ساد الموقف. فقط صوت محرك الباص لم يمتثل للأمر.. بعد لحظة صمت وليتأكد من صمتنا أضاف الرجل:" الآن قد اقتربنا من الحدود الفلسطينية، سترون الآن أن لا حدود فاصلة بين فلسطين ولبنان سوى سلك شائك. فهذا الشارع ذاته يخترق الأرض الفلسطينية ، البساتين نصفها في لبنان ونصفها الآخر في فلسطين، حتى البيوت فهي مقسمة بين البلدين، وسترون الآن العاملين في بساتين الحمضيات من اليهود، ولكنهم ليسوا بفلاحين، قد يكونون طلاب جامعات ومدارس أو موظفين، لكنهم شعب نشيط لا يضيع أوقاته كيفما كان".
لمع في رأسي تساؤل عبر سريعا ولم يستوقفني، هل كانت كلماته الأخيرة مدحا لهم أم ذما لنا! أعرف فقط أن كلماته كانت الحركة التي غيرت ايقاع الأجواء في الباص.. ساد وجوم للحظات ودون اتفاق أو تشاور انطلقت الحناجر بالنشيد الصباحي" أيار لن ننساك .. أو يكمل التحرير.." والذي لا أعرف من كتب كلماته أو كيف تم تحفيظه لنا. ومع توغلنا أكثر في الطريق الذي ينتهي في فلسطين، وبحس غير مفهوم تغير الايقاع الى النشيد الحزين" ويلي على أوطاني"، شعرت بانطواء أكثر.. وابتعاد أكثر عما حولي... كنت أبحث بعيني وجوارحي بين الأشجار عن هؤلاء الآخرين. قفزت أمامي الصور والحكايا التي كنت أسمعها.. عن مجزرة دير ياسين .. وآلاف المجازر التي لم تنل شهرة تلك المجزرة..
هذه الحكايا التي كنت أسمعها، وسأجد نفسي الآن أمام "أبطال" تلك الحكايا.. في فترة البحث تلك أخذت أرسم في مخيلتي صور من سألقاهم يقطفون ثمار أشجاري" غرسنا.. فأكلوا" .. ربما كان أحد هذه البساتين يخص " علي سليمان". رسمت مخيلتي صورة لهم تتناسب مع تلك الحكايا...أشكال بشرية غطاها شعر كثيف.. القرون المعقوفة نبتت على رؤؤسهم.. وأنياب طويلة تجاوزت شفاههم السفلى.. بأيديهم ما يشبه البلطات، أو شيئا اقتبسته من بعض صور المجلات أو الأفلام.. هكذا رسمتهم مخيلتي الطفولية، رسما يتناغم مع مع ما حفظته ذاكرتي الطرية عما فعلوه بأناس لا أعرفهم، لكني أدرك أن شيئا ما يجمعني بهم.
بدأت الأشجار تدنو منا أكثر.. أصبحنا أكثر قربا.. أصبحت مشاهدة هذه المخلوقات ممكنة.. بدأنا بمشاهدتهم.. سرعان ما توقفوا عن العمل ينظرون الينا وقد افترت ابتساماتهم عن تلك الأنياب الطويلة.. يا الهي ! كيف جاءت الصورة مطابقة تماما لما رسمته في مخيلتي.. هل هذه الصور حقيقية أم أنني أتخيل شيئا ليس موجودا حقيقة! عاشت تلك الصورة في مخيلتي فترة من الزمن دون الشك بأن ما شاهدته كان حقيقة وواقعا!
أربعون عاما من الزمان غافلتني، انفاتت مني تاركة خطوطها وآثارها على وجهي. تشويهات الزمن التي لا يسلم منها الا من بكّر في الرحيل. عدت مرة أخرى الى ذات الطريق المؤدي الى الى بيتنا في عكا، وقد تجاوزت دوار مدينة صور. هذه المرة دون اذن من أي سلطة، أقود سيارتي نحو الحدود.. كانت هذه المرة رحلة فضولية لزيارة الأرض التي تنفست الحرية.
ركنت ذاكرتي في احدى حنايها، حكايا الوالد، وعلي سليمان وسفر الرحيل.. الذي تأسست عليه حكايا سفر العودة.. قفزت الى مخيلتي حكايا العائدين الذين ساروا على هذا الدرب، حاملين مهر وطن ورثوا صليبه، وأداء لأمانة أثقل الآباء كاهلهم بحملها.. آلاف الرجال مشوا هذا الطريق، فلا هم بلغوا الوطن ولا هم عادوا الى بيوتهم..رحلوا وخلف كل واحد حكاية ومأساة.
أثار أقدام أطفال ال آ ربي جي.. تحفر عميقا في دروب الجنوب وفي الذاكرة.. والآن أطفال الحجارة يواصلون المسيرة.. ارث عجزت عنه أمة ضحكت من جهلها الأمم.. فحمل الارث أطفال يولدون في رحم الموت ولا يملكون غير مسامير صلبهم.. أطفال سرقت منهم الطفولة قبل أن يبرعموا.. وقطف شبابهم قبل ينضج..
يا الهي! كيف تحفظ الذاكرة كل هذه الحكايا؟ وكم من الأوراق والأسفار تحتاج لكتابتها؟ حقا ان الفلسطيني لو دلق ذاكرته لأغرق البحر! هذه الذاكرة التي تقف حارسا لحلمنا الفلسطيني وهي ارثنا المقدس..
على الحد الفاصل عفوا، أقصد الحد الملاصق وقفت أرنو الى مكان كان وما زال لي. لم يفصلني عنه سوى سلك شائك.. هنا، أصبحت النسمات أكثر رقة وعذوبة.. والاخضرار أكثر اثارة.. امتدادات التلال نحو البعيد عالم خرافي .. وله سحر مختلف، ضحكت في سري ضحكا يشبه البكاء.. سيظل المكان مختلفا، وسأظل أخترع للأشياء صفات خرافية تنبع من عمق التباساتي.. فصرخت من عمق أوجاعي وتيهي.. يا الهي لماذا تركتنا؟ ولماذا نسيتنا معلقين على على الصليب؟ قد أفهم من يسرق مصرفا .. أو دكانا.. أو.. أو.. لكن أن يسرق وطن بأرضه وسمائه، ببحره وهوائه؟ هل عملية اختراق لحتمية التاريخ، أم أن التاريخ نسف منطقه وغيّر مجراه؟؟
كان هناك أناس طيبون، يحبون الزعتر والياسمين، يحنون على أرضهم فتعطيهم خبز يومهم، يغنون للزرع ويحدون للقطاف، البيوت المبعثرة وسط البيارات والبساتين بنيت بأيديهم حجرا حجرا ومدماكا فوق مدماك مجبولة بالعرق والأغاني والضحكات وفرح الصبايا. مع ولادة كل طفل تغرس شجرة تحمل اسمه وليكبرا معا يسقيها ماء فتظلل عليه، يتسلقهافتمد له أذرعها أرجوحة وتعطيه ثمارها.. خلف كل شجرة حكاية حب وتاريخ..
كان مولد الطفل عيدا يزرع الفرح في القرية، يتوافد المهنئون من القرى المجاورة بالذبائح والأهازيج والهدايا.. للمولد أغانيه وزغاريده، لمعمودية الطفل طقوسها، ولطهوره احتفالاته الخاصة.. وتكبر العائلة بالضيف الجديد.. كانوا أيضا يحبون الأطفال الذين لهم ملكوت السماء. مع كل برع ورد في حاكورة البيت يد صبية ترعاه وتهدهده، ليحكي حكاية حب عذري لابن الجيران.
تراءت لي صورة حياة لم أعرفها لكني سمعت تفاصيلها.. وأنا على مرتفع أرنو الى مكان كان وما زال لي، لم يفصلني عنه سوى سلك شائك.. أصبحت النسمات أكثر عذوبة.. والاخضرار أكثر اثارة.. امتدادات التلال نحو البعيدجمال أسطوري مختلف.. ضحكت في سري ضحكا يشبه البكاء.. سيظل المكان مختلفا وسأظل أخترع للأشياء صفات خرافية تنبع من عمق التباساتي.. صرخت من عمق أوجاعي وضياعي .. يا ربي والهي لماذا تركتنا؟
اليوم، انتهت البيوت والحواكير، اقتلعت كما اقتلع أصحابها.. وزرع المكان ببيوت جاهزة ومستوردة، لا تناغم بينها وبين ال ت الطيور التي طالما عششت في اشجار البيارات...
الناس الذين شغلوا هذه البيوت المستوردة، هم أيضا مستوردون من كل مكان في الأرض.. هنا يتم التكاثر بالاستيراد الجاهز.. لا بفرح المواليد الجديدة..
البشرات الشقراء والسوداء والسمراء.. القامات الفارعة والقامات القصيرة، كلها تحمل ملامح وجوه زائرين عابرين.. الأرض تعرف كيف تلفظ الغرباء وكيف تحتضن محبيها.. الأرض تعرف كيف تحب وكيف تكره، وتعرف دوس الأقدام فوق ترابها.. انتهى زمن حملة المناجل والمعاول والياسمين.. انه زمن القابضين على بنادقهم وبلطاتهم، لأنهم يعيشون بشعور السارق الطارىء على المكان.
التعليقات (0)