حديث مطوّل عن ملك السعودية في عامه الرابع
عبد الله فوق العرش: قصة مملكة الصحراء والبترول والإسمنت
سلطان القحطاني-ايلاف: سماء مدينة رفحاء الحدودية، شمال السعودية، زرقاء زرقاء، أكثر زرقة مما تكون عليه طوال أشهر السنة. أعمدة أشعة الشمس الحارقة تدّلك أنابيب النفط المتدفقة وشوارع الإسفلت الممتدة في كل مكان، مضفية عليها شيئًا من اللمعان الذي يخدع أعين المسافرين المتدفقين على هذا الطريق الحيوي. تحت الشمس وبينما هذه الرياح تهب في وجهي بعنف، أسير وعيناي تتابعان الرعاة الذين يسوسون أبلهم وماشيتهم في الصحارى المجاورة لهذا الطريق.
في هذه المنطقة وما جاورها لا تزال التقاليد البدوية تفرض سيطرتها على السكان وتنظم طريقة عيشهم كأنها دستور غير مكتوب لا يستطيع أحد مهما كان حجمه أن يتمرد عليه بسهولة. وقريبًا من هذه الأماكن القاحلة سوف يقضي شاب ٌمن الأسرة الحاكمة بعضًا من وقته خلال فترة سنوات شبابه حتى يصبح ملكًا يحكم أكبر مملكة نفطية في العالم. إنه عبد الله بن عبد العزيز الملك السادس في تاريخ هذه البلاد المحافظة التي تحوي ارضها اثنتين من أهم المقدسات بالنسبة إلى المسلمين.
وعلى الرغم من أن علاقته بهذه المدينة لا تعدو كونها فترات متقطعة شهدت شيئاً من شبابه وكثيراً من أسفاره للصيد على الحدود العراقية، إلا أنها تنقل صورة حقيقية عن كيفية نشأة هذا الملك الذي كان مستقبله السياسي غامضًا جدًا في البداية.
في الأسر البدوية يعتبر وجود الأخوة الأشقاء ضرورة أساسية وتعظيم لنفوذ الإنسان أكثر مما لو كان وحيداً.
على غير مبعدة من هذه المدينة توجد هجرة صغيرة أسمها "آل شريم" تعود أصول والدة الملك الحالي، فهدة الشريم إليها. لقد قضت فيها سنوات حتى اتجهت إلى الرياض بعد زواجها من مؤسس الدولة السعودية الثالثة الملك عبد العزيز آل السعود.
الطريق من "رفحا" إلى هجرة "آل شريم" حيث مسقط رأس والدة الملك عبارة عن صحراء جرداء لا يكدر صفوها سوى كتيبة للمشاة تابعة للحرس الوطني، تستحوذ على مساحة طويلة من الأرض القاحلة محاصرة خلف سياج محكم، ولا يبدو إلا في جزء صغير منها بضعة مبانٍ لا يختلف لونها عن لون هذه الصحراء.
من الداخل تبدو الهجرة متواضعة جدًا إذ تحوي في جوفها عددًا من البيوت الصغيرة. هنا بالتحديد كانت الخيام السوداء (بيوت الشَعر) التي يسكنها البدو وتحولت مع ثورة التنمية وطفرة الأموال إلى خيام من الاسمنت.
ولا يربوا عدد البيوت هنا عن 70 بيتاً في ظل وجود عدد من المدارس للذكور والإناث ومركز صحي.
لا تزال هذه الهجرة المتواضعة شديدة الفخر بأن الملك الحالي البالغ من العمر 85 عاماً ينتمي إليها عن طريق النسب من وجهة والدته. وهذا مسجد والدته الذي بناه على نفقته خير دليل على ذلك. مسجد أنيق لكنه صغير الحجم يناسب تماما حجم الهجرة واحتياجات سكانها. إنه يبدو مثل بنيان ضخم ينتصب في رحمها ولا تخطئه العين المجردة.
في مكان بارز من الهجرة يوجد منزل الشيخ فداع الشريم الذي يعتبر واحداً من الأصدقاء المقربين من الملك عبد الله منذ أن كان في أوائل سنين شبابه. في بيته المبني من الاسمنت على طراز العمارة الحديث يجلس هذا الشيخ السبعيني في مجلس ضخم تعلو أحد جدرانه صورة شخصية تجمعه مع ملك البلاد.
حين أسأله عما يتذكره من أبرز ملامح شخصية صديقه الذي أصبح واحداً من أهم الحكام العرب في المنطقة؟ فيجيبني بصوت جهوري يشبه ارتطام صندوق خشبي على أرضية صلبة : " لقد كان صريحاً منذ شبابه. صريحٌ جداً لا يبالي بشيء".
ويبدو أن الملك، الذي أتم اربع سنوات في حكم للبلاد، لم يتخلص من هذه الصفة حتى الآن. إنه لا يزال صريحاً حين يرد بغضب على الرئيس بيل كلنتون الذي طرح فكرة عقد لقاء سعودي إسرائيلي قائلاً له " للصداقة حدود يا فخامة الرئيس". ولا يخرج عن إطار صراحته حين يقول للرئيس السوري بشار الأسد غاضبًا "كان والدك يعد ويوفي أما أنت فلا".
في مجالسه كان يتحدث عن الرئيس الراحل حافظ الأسد بإعجاب كبير."لقد كان رجلاً حكيمًا" هكذا كان يصفه الملك. ولا بد أنه شعر بالخيبة الكبيرة حين وصفه إبن صديقه الذي طالما أحبه ، الرئيس السوري بشار الأسد، بأنه من "أنصاف الرجال" ضمن الحكام العرب الذين لم يدعموا حزب الله وسوريا في نزاع مع إسرائيل وتسبب بأذى كبير للبنان، ذلك البلد الصغير على شرفة البحر المتوسط.
ولا يخرج عن الصراحة حين يهاجم علنًا الرئيس الليبي معمر القذافي في أحد القمم العربية في تلاسن حي نقلته كافة شاشات التلفزة العربية.
وللسبب ذاته فإنه لا يستطيع أن يستقبل الأشخاص الذين لا يكن لهم ارتياحاً شخصياً. لقد رفض استقبال رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي بسبب علاقاته مع إيران بشكل قد يضر مصلحة العراق والمنطقة. أيضاً كان لا يستقبل إلا نادراً أمير دولة قطر الشيخ حمد بسبب خلاف عالق منذ سنوات تم حله مؤخرا. وفي إحدى المرات رفض أن يستقبل الرئيس الفلسطيني محمود عباس في الأردن بعد فشل اتفاق مكة الذي رعاه شخصياً بسبب الأطراف الفلسطينية ذاتها. ( كان غاضباً لأنه رأى كل هؤلاء القياديين في حركتي فتح وحماس وهم تحت أستار الكعبة يقسمون بأنهم لن يتقاتلوا مرة أخرى).
كما أنه رد بجفاء على الزعيم الشيعي العراقي مقتدى الصدر حين حاول الأخير أن يبدي ملاحظة حول طريقة اهتمام السلطات السعودية ببعض المواقع الدينية التاريخية في المدنية المنورة، وهي رواية لم يتم التحقق منها بشكل رسمي لكن أوساطاً سعودية تعتقد أنها حدثت فعلاً أثناء زيارة الصدر إلى المملكة.
إنه يصل إلى حدود صراحة مطلقة حين يبعث برسالة خطية قبيل أحداث الحادي عشر من سبتمبر إلى الرئيس الأميركي جورج بوش، زعيم الدولة العظمى في العالم، مهددًا إياه بأنه سيتخذ طريقًا آخر غير التحالف مع واشنطن إن لم تقم بالضغط على إسرائيل لتحقيق اختراق في العملية السلمية.
لقد كانت تلك رسالة صريحة وغاضبة في آن واحد.
حين كان الملك يتابع القنوات التلفزيونية في إحدى الأيام شاهد منظراً مؤلماً جعله يقرر أن يخاطب بوش بكل هذه القسوة. لقد رأى في أحد القنوات الإخبارية العربية جندياً إسرائيلياً يضع قدمه على رقبة امرأة فلسطينية ضعيفة وهي بالكاد تستطيع التنفس والحركة. بعدها لم يستطع الملك، الذي شعر بجرح في كبرياءه القومي، أن يبدد غيوم الغضب التي لبدت صفحة وجهه وقرر إرسال تلك الرسالة.
كانت الرسالة الأشد صراحة في تاريخ المملكة بعد رسالة والده الملك عبد العزيز إلى الرئيس الأميركي روزفلت حين رفض الأول القبول بفكرة توطين اليهود في القدس. وحالياً يشبه المواطنون ملكهم بأنه "عبد العزيز الثاني" نسبة إلى والده المؤسس.
يقول لي مسؤول سعودي رفيع حول تلك الرسالة، التي ذهبت إلى بوش، في حين ترتسم عليه أمارات الإعجاب وأنا في مكتبه الهادئ حيث نحتسي كوبين من "النيسكافيه" ذات ظهيرة حارقة من أوائل شهر مايو 2006 :" يا إلهي .. لا بد أنك قد قرأتها .. يا لها من رسالة قوية جدًا ومؤثرة. لقد كادت أن تكون مفترق طرق في تاريخ السياسة السعودية حتى جاءت أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر وغيرت دفة الأحداث".
ولم يشر المسؤول الرفيع صراحة إلى أي دور "إسرائيلي" في هذه الحادثة العالمية لكنه ألمح إلى وجود دور يستهدف تقويض الجهد السعودي عبر وضعه في فوهة المدفع من خلال مواجهة مع أميركا. وكما يقول أحد أركان الحكومة السعودية البارزين، وهو الدكتور غازي القصيبي، وزير العمل الحالي، فإن الإسرائيليين يبدوا أنهم "اشتموا" عبر "أنوفهم الإستخباراتية" وصول هذه الرسالة إلى البيت الأبيض في وقت مبكر وحاولوا مواجهتها بكافة الطرق.
قبل إرسالها كلف الملك عبد الله أحد أقرب معاونيه كي يتكفل بقراءتها أمام عدد من مسؤولي البلاد الكبار. إنه ذراعه ومدفعيته الثقيلة خالد التويجري الذي يتولى منصب رئاسة الديوان الملكي حاليًا. وهو شاب حاصل على درجة الماجستير من أميركا ومولع جدًا بخدمة ملكه، وكان قد أمضى في العمل السياسي 15 عامًا.
ويبدو فعلاً أن كثيرًا من المسؤولين السعوديين لا يزالون مقتنعين بوجود دور إسرائيلي في تلك الحادثة، حتى وإن كان دعمًا لوجستيًا بطريقة أو بأخرى. وحمّل وزير الداخلية الأمير نايف بن عبد العزيز "جهات صهيونية" مسؤولية تلك الحادثة التي كسرت كبرياء الدولة العظمى في العالم.
بعد ذلك بعثها برفقة السفير السعودي لدى واشنطن حينها الأمير بندر بن سلطان الذي فاجأ ساكن البيت الأبيض بكلام لا يحمل الكثير من العسل كما اعتاد من صديقه بندر، الأمير الأسمر الأنيق الذي يستطيع الدخول والخروج أي وقت من أبواب البيت الأبيض والبنتاغون وكافة مفاصل الإدارة الأميركية.
هذه القصة في تفاصيل التفاصيل فيها تبين حجم صراحة الملك التي لا حدود لها. لم يسمع عنها الشيخ فداع إلا من فترة قريبة لكنه بدا معجباً بها وبصديقه. يقول :"إنه هكذا دوماً .. رجل صادق ونبيل".
في تعامله اليومي مع الناس يكره الملك الأشخاص الذين يكذبون. وحين يكتشف هذه الصفة في أحدهم فإن ذلك معناه أن هذا الرجل قد فقد ثقة الملك به إلى الأبد. "إنه يحترم الصادقين جداً" هكذا يقول أحد المقربين منه الذي لم يشأ ذكر أسمه.
وقد استغنى عن عدد من المقربين منه الذين كانوا يتعاملون بفوقية مع الناس قائلا لهم أن "الجميع استغرق الوقت ذاته قبيل الولادة .. إنها تسعة أشهر".
بل أنه كان الوحيد بين الأمراء الذي يسكن في حي يقع شرق العاصمة ولا يعتبر حيا ملكياً بشكل خاص، وذلك على غير مبعدة عن رئاسة الحرس الوطني التي تولاها وأصبحت مؤسسة تحكم البلاد نوعاً ما.
وحين تشاهد الهيئة الخارجية للملك عبد الله بن عبد العزيز تلاحظ إلى أي حد لا يزال متأثراً بنمط عيش ديار أخواله. إنه دوماً ما يجعل عقاله مائلاً إلى الجهة اليمني فوق كوفيته مثلما يفعل كل السكان البدو هنا.
ويبدو متشبعًا بالصحراء والخيول والصيد إلى حد هو الأقصى بين أفراد جيله حين كان شاباً. بعد لحظات ستبدو الأيام الخوالي ماثلة أمام الشيخ السبعيني الذي أمامي وهو يرى نسائم الشباب تهب فجأة في منزله.
يقول الشيخ فداع الذي لا يزال بصحة قوية على الرغم من كونه في السبعين من عمره:"كان أبو متعب (الملك عبد الله) يحب الخيل منذ شبابه ويهوى الصيد بالصقور. إنه لن يستطيع التخلص من عشقه لها أبداً. كان يستهويه كثيرًا الانطلاق لصيد الحباري ولا يهمه الخطر. هو يعشق الصيد جداً".
وحتى الآن لم يتخلص الملك عبد الله من عشقه للخيول إذ يملك إسطبلاً ضخمًا يحتوي على العديد من الخيول العربية الأصيلة باهظة الثمن، إضافة إلى أنه يشرف بنفسه على مسابقة الخيول الرسمية التي تتم في المملكة، ولديه مسابقة خاصة به يشارك فيه جميع المواطنين بخيولهم سنوياً ويحصلون على جوائز إذا حققوا الفوز.
تلك المناسبة يحرص سنويًا على حضورها. ولن تستغرب إذا وجدت أن أغلب الصاعدين إلى منصة الفوز هم إما من أبنائه أو أبناء أخوته لأن حب الخيول يبدو متجذراً كثيراً في الأسرة المالكة السعودية.
في شبابه كان فارسًا حقيقيًا. ذات يوم شاهد راعيًا يقود فرسًا وصفها بأنها شديدة الخطورة لا يستطيع أحد ركوبها. لم يقتنع بذلك عبد الله الشاب الأنيق بل أصر على ترويضها وركوبها. وبعد مضي دقائق من إمساكه بلجام هذه الفرس، كان يمتطيها وهو يغرق في سعادة الانتصار ويرفع إشارة النصر أمام أصدقائه المتعجبين.
يؤكد الشيخ فداع هذه الرواية قائلاً:" لقد كان يملك جرأة شديدة". في شبابه كان الملك عبد الله صيادًا ماهرًا لا يخطئ حين يسدد بندقيته إلى هدف ما. كان يصيب الهدف فورًا حسب ما يقول رفاق شبابه. كان يستخدم العديد من البنادق في الصيد ويمتطي الخيول بفروسية لا مثيل لها.
كان يدخل في سباق مع أخوانه وغالبًا ما كان ينتصر عليهم، إلا أن ذلك قد تغير حالياً بعد تقدمه في السن، إذ أصبح حالياً لا يمتطي الخيول لكنه لم يتخلص من ولعه بها. وقد درب خيوله بنفسه في نهاية المطاف.
يقول الشيخ فداع عن ملكه الشاب:"كان وسيمًا ونشيطاً وعلاقته مع الصحراء أزلية. في مجالسه الخاصة كان يتحدث دوماً عن الصيد والخيول التي يعشقها كثيراً". كان يحبذ الصيد في العراق وفي سوريا بشكل خاص حين كانت العلاقات مع هذين البلدين على ما يرام. من هناك كان يرسل ويستقبل أشعة القومية العربية وهو "العروبي حتى النخاع" كما يصفه مراقبون سياسيون.
حتى بعد الخلاف مع صدام حسين لم يكن صقراً يرفض إعادة العلاقات مع هذا الزعيم وبلاده. لقد ظل على علاقة ود ممتنع مع العراق خلال السنوات الأخيرة من حكم حزب البعث. في إحدى القمم العربية اختطف فلاشات التصوير حين عانق نائب الرئيس العراقي عزة إبراهيم الدوري على الرغم من أن الفتور حينها كان لا يزال مخيماً على العلاقات بين البلدين.
وفي ساعات الفجر الأولى من "عيد الأضحى" غضب الملك غضبًا عارمًا حين علم بأن صدام تم إعدامه في توقيت اعتبره مهيناً بحق العالم الإسلامي ومشاعره الدينية. إنها الساعات الأولى من عيد يصفه المسلمون بأنه "العيد الكبير". وفي هذا العيد من كل عام يقدم المسلمون قرابينهم من الخراف اقتداء بالنبي إبراهيم. وحين يتم إعدام صدام في هذا الوقت بالذات فبالتأكيد أنه لا يوجد مجال للنوايا الحسنة.
ونقطة أخرى أثارت استياء أوساط سعودية رسمية: لقد كان ذلك اليوم بداية العيد بالنسبة إلى الطائفة السنية فلماذا لم يقتل الرئيس العراقي المخلوع في توقيت آخر؟. كما أن الدستور العراقي ينص على عدم قانونية تنفيذ أحكام الإعدام في أيام الأعياد. ولذلك فإن إعدامه في توقيت العيد السني، يعني بأنه عدم اعتراف بالوجود السني، وبأن هذه البلاد قد تحولت إلى جمهورية شيعية تدار عبر الريموت من قبل طهران. وهذا ما لن يقبله السعوديون الذين ذاقوا الأمرين من طموحات إيران ومحاولاتها تصدير ثورتها الإسلامية بالعنف والتخريب.
بعدها اتصل الملك عبد الله بن عبد العزيز بأخيه المقرب الأمير مقرن بن عبد العزيز، رئيس الاستخبارات، وأبن أخيه الأمير بندر بن سلطان الأمين العام لمجلس الأمن الوطني، وطالبهم بإصدار بيان إدانة فوري لهذه الحادثة.
ومنذ ذلك الوقت فقد كثيرًا من ثقته - إن لم تكن كلها- برئيس الوزراء العراقي نوري المالكي. إن انفعالاته السريعة هي جزء لا يتجزأ من طبيعته الإنسانية وصفاء سريرته. وهذا ما يجعله سعيداً وهو يوافق بشكل رسمي على أن تكون "مملكة الإنسانية" هي إحدى الأسماء غير الرسمية لبلاده.
ذات يوم وهو في رحلة صيد إلى العراق وكانت السماء تكاد تغرق الأرض بكثرة مطرها لمح مرافقو الملك في مخيمه من بعيد أن هنالك شخصا آت إليهم لم يتبينوا هويته. أمر الملك بالسماح له بالدخول إلى الخيمة. ولما كان هذا الشخص جائعًا أمر له بالطعام فورًا. كان الرجل يغرق في الحزن على الرغم من أنه يتناول الطعام بنهم شديد. وحين لاحظ الملك ذلك استفسر عن سبب حزنه. أجابه الرجل الغريب " لدي أثنين من أبنائي حكم على أحدهم بالإعدام والآخر بالمؤبد وأنا لا يوجد لدي غيرهما".
طلب منه الملك أن يكمل عشاءه وهو سيتكفل بالباقي. في اليوم التالي شفع لهذا الرجل الذي لا يعرفه أمام الرئيس العراقي السابق صدام حسين ووافق على إطلاقهما.
لقد منح الحرية لأثنين لا يعرف عنهما سوى حزن أباهما المتعب.
الآن قلّت رحلات الصيد التي يقوم بها الملك إن لم تكن انتهت نهائياً. عوضاً عن ذلك أصبح يقضي عدداً من الأسابيع في الشتاء والربيع في منطقة أسمها "روضة خريم" تبعد عن العاصمة ما يزيد على مئة كيلو متر. أصبح يرتاح هناك كثيراً في عمق الصحراء الهادئة التي تضفي عليها السماء الماطرة لوناً أخضراً يغير من جلد الصحراء مؤقتاً.
هناك يأتيه أخوانه الأمراء الكبار وأبناءه وأحفاده وضيوف البلاد أحياناً. يجلسون ويتسامرون في الخيمة حتى التاسعة مساء وبعدها تنتهي الجلسة باكراً. وإذا كان سعيداً فإنه ربما تتأخر الجلسة لساعة أو ساعتين لأنه حينها سيتحدث مع جميع من في الخيمة فرداً فرداً. وهذا بارومتر قياس طقس الملك. إنه يحب الحرص على جدوله اليومي والمداومة على المشي لمسافات طويلة مما يفسر احتفاظه بجسد قوي حتى هذه السن المتقدمة.
والذين يتعاملون مع الملك أو يتابعونه عن كثب خلال أحاديثه التلفزيونية يعرفون مباشرة مدى تلقائيته وصراحته المطلقة. إنه لم يتغير حتى بعد أن أصبح ملكاً. "سر محبة الناس له تكمن في تلقائيته وصراحته" كما يقول الشيخ فداع وهو يرشف قطرات من فنجان أبيض صغير يحتوي على القهوة العربية المرة.
أكثر ما يعشق الملك التحدث عنه في مجالسه الخاصة بعد الخيل ورحلات الصيد كان التاريخ. قديماً كان يقرأ الجرائد والكتب أما الآن فهو يحب تصفح الانترنت في أوقات فراغه القليلة.
ومع كل هذا الصخب كان يتذكر من وقت لآخر والدته التي يتحدث عنها بعاطفة. يروي مقربون أن هذا الملك الصلب لم يستطع أن يحبس دمعته ذات يوم حين كان أحدهم يحدثه عن والدته التي خرجت من الشمال في رحلة مضنية عبر الصحاري والوهاد إلى الرياض العاصمة.
"كان يتذكر أمه دوماً ويقول أنه سيضع باسمها مشاريع خيرية. إنه وفي لوالديه" حسب ما يقول الشيخ فداع الشريم. وحين أسأله عن ذكرياته عن والدة الملك التي بالكاد تذكرها التقارير الصحافية في البلاد يجيب قائلاً بحماس :"كانت ذات حكمة وعدل.أعجب بها الملك عبد العزيز قبل أن يراها وأحسن وفادتها".
وحسب المصادر التاريخية فقد ولدت "فهدة الشريم" في أواخر القرن الثامن العشر على وجه الترجيح اعتمادًا على زواجها من سعود بن عبد العزيز بن متعب الرشيد الذي يذكر حسين حسني، وهو أحد المؤرخين العرب، أنه في عام 1910م حين كان في سن الثانية عشرة من عمره، بينما تشير معلومات أخرى يتناقلها كبار السن أنه تزوجها وهو في الخامسة عشر من عمره.
ولا توجد إشارة تدل على مكان ميلادها غير أنه يمكننا القول إن ولادتها كانت في المنطقة التي كانت تحل فيها عشيرتها ( اليحيى من عبدة من شمر).
ووالدها هو العاصي بن شريم أحد فرسان شمر وشيوخها ، ورث مشيخة عشيرته اليحيى عن أسرته ، ووصف بأنه كان " فارسا مغوارا لمع اسمه في وسط نجد وشمالها ، تهابه العشائر وغزاتها وتضرب له ألف حساب" حسب ما ذكرته الدكتورة دلال الحربي في كتابها "نساء شهيرات من نجد".
وكان لفهدة من الإخوة أربعة هم مطني وسلطان وغازي ، وأخت واحدة هي شيمة. وأسهمت المكانة الرفيعة التي كانت تتمتع بها أسرتها في زواج سعود بن عبد العزيز بن رشيد بها .
والأمير سعود بن عبد العزيز بن متعب الرشيد هو عاشر أمراء إمارة آل رشيد. تولى الحكم و عمره 10 سنوات بمساعدة أخواله آل سبهان الذين دعموا حكمه حتى بلغ عمره العشرين سنة. وفي العام 1920 إغتيل بوساطة ابن عمه عبد الله بن طلال شقيق الأمير محمد بن طلال الأمير الثاني عشر في إمارة آل رشيد.
بعد مقتله تزوج الملك عبد العزيز آل سعود إحدى ارملاته وهي فهده بنت عاصي الشريم الشمري وأصبحت بذلك ثامن زوجات الملك عبد العزيز وأم عبد الله بن عبد العزيز الملك الحالي للسعودية.
وكانت فهدة أولى زوجات الأمير سعود. ومن المرجح أن زواجها منه كان وهي في سن صغيرة نظرًا لصغر سن سعود نفسه في تلك الفترة الذي تذكر الرواية الشفهية أنه تزوج وهو في الخامسة عشرة من عمره ، وأن مولد ابنه مشعل من فهدة كان في عام 1331/1913م كان في السابعة عشرة من عمره وله ولدان فقط .
وبعد مقتل سعود في عام 1919 تسارعت أحداث حائل فكان سقوطها على يد الملك عبد العزيز في 21اكتوبر 1921 م وتزوج الملك عبد العزيز بفهدة عام 1922 .
وترى الباحثة أن من الأسباب الأخرى التي دفعت الملك عبد العزيز إلى الزواج بها ما كان لأبيها من مكانة رفيعة وقد توثقت العلاقة بين الملك عبد العزيز والعاصي بن شريم منذ سقوط حائل ، فأصبح الأخير من أبرز المساندين للملك عيد العزيز ، وشارك معه في بعض الأعمال الحربية ومن بينها وقعة السبلة في عام 1929.
وأنجبت فهدة للملك عبد العزيز الأمير عبد الله وشقيقتيه صيتة ونوف.
لم يتزوجها الملك عبد العزيز الذي يمكن أن يوصف بأنه "بسمارك الجزيرة العربية" على الطريقة المعتادة بين عشاق الصحراء وشبابها. "لقد تزوجها بعد أن سمع عنها وعن سيرتها الحسنة وحين رآها أعجب بها" هكذا يقول "الشيخ فداع". ويضيف بفخر " عبد العزيز لم يكن بشراً .. بل آت من السماء. إنه حكيم جداً بشكل لا يتصور".
وطوال فترة حياتها كانت تحظى باحترام إخوان ولدها غير الأشقاء وخصوصاً الملكين الراحلين سعود وفيصل الذين كانا يداومان على زيارتها بشكل أسبوعي للسلام عليها.
وبعد ذلك سوف تكون له قصتان مختلفتان مع هذين الملكين تحديدًا. فحين حاول الملك سعود تعيين أبنائه في مناصب مهمة في الدولة مما أثار قلق أخوته من طبيعة سير وراثة الحكم مستقبلاً وقف عبد الله بصلابة مع أخوانه ضد هذا المخطط. وبرز نصيرًا قويًا للملك فيصل الذي كان يشبه من ناحية عدم وجود أخوة أشقاء له.
يُروى حول طريقة زواج "فهدة الشريم" أن الملك عبد العزيز واجه في إحدى المعارك فارسًا صنديدًا هو "مطني الشريم" – خال الملك عبد الله- وأعجب به وتمنى أن يكون أحد أنسبائه في يوم من الأيام. وهذا ما حدث بعدها.
الشيخ فداع الشريم الذي لم أخرج من منزله إلى في أواخر ساعات المساء يشبه الملك عبد الله بشكل كبير سواء أكان ذلك في طريقة الحديث أو ووضعية تحريك أصابعه يديه عند الحديث أو حتى حين أركز نظري على سطح يديه المتجعدتين.
يقول أبناؤه أنه في شبابه كان يشبه الملك كثيراً.
في أحد أركان منزله الأكبر من نوعه في الهجرة توجد صورة له مع الملك في لقطة تصور حجم العلاقة بينهما. يظهر فيها الشيخ فداع بجوار صديقه في مزرعته في روضة خريم، وهو ملتصق بالملك فيما الملك عبد الله يقبض على أحد أزرار ثوبه مداعباً إياه بابتسامة واضحة المعالم.
ليس من السهولة أن تجد أحدًا يتحدث بصراحة عن الملك. لطالما كان هذا أمرًا حساسًا وهو ما يفسر تحفظ الشيخ فداع الواضح. إلا أنها ليست نهاية المطاف فحتمًا هناك أشخاص يطيب لهم أن يتحدثوا.
يقول مقربون إن الملك عبد الله كان يحتذي كثيرًا بخطوات أخيه الملك خالد بن عبد العزيز صاحب فترة الحكم القصيرة جداً في تاريخ الدولة بعد مفارقته الحياة بسبب قلبه الذي لم يمهله طويلاً. كان ملكاً شعبياً بامتياز لم يستطع أحد حينها أن ينافسه في حجم الشعبية. وكان الملك خالد يبادله الحب نفسه ويحرص على أن يكون أخاه عبد الله رفيقه في أغلب رحلات صيده.
لم ينسَ الملك عبد الله تلك العلاقة الأخوية فاستبدل إحدى الجامعات المخصصة باسمه وحولها لتكون بإسم "جامعة الملك خالد" في أبها عاصمة إقليم عسير جنوباً. ولم يتوقف عند هذا الحد بل دعم أميرًا شابًا من أنجال الملك خالد، الأمير فيصل، وعينه نائبًا لأمير هذا الإقليم ثم رقاه ليكون أميرًا لإقليم عسير في نهاية المطاف.
إلا أن خبيرًا مطلعًا يقول إن ثمة فرقًا كبيرًا بين الملكين في ما يتعلق بنظام الإدارة والحكم، فخالد كان زاهداً في الحكم وشؤونه وطالما عهد بتلك الأمور الحساسة إلى ولي عهده الأمير الذكي فهد، بينما عبد الله يخبئ داخل بساطته وتلقائيته وعباءته الهفهافة سياسياً "داهية".
وفضلاً عن علاقته مع الملك خالد فقد كان يحرص منذ الطفولة على مرافقة الأمير بدر بن عبد العزيز الذي كان صديقه المقرب خلال فترات الشباب، ومزاح الشباب الذي لم يكن يخلو من العنف.
رفاق الملك كثيرون لكنهم لا يحبون الحديث عن المعلومات الكثيرة عن شبابه وطفولته.
إلا أن الحديث الذي يحلو لهم مثل ما يحلو لملكهم هو المتعلق بوالدته فهده الشريم. لقد كانت امرأة استثنائية حصدت تعليماً ذاتياً أكثر مما يمكن أن يتحصل عليه أقرانها. كانت تقرأ القرآن منذ الطفولة وختمت القرآن كاملاً حين كانت في مدينة حائل شمال البلاد التي تعتبر المنطقة المناهضة للملك عبد العزيز.
وفي منتصف النهار كانت تتفرغ لقراءة الحديث ومراجعة سور القرآن. وقدر الإمكان كانت تقوم بالأعمال الخيرية ومساعدة المحتاجين وإغداق الهبات عليهم.
يقول "محمد السلطان العاصي الشريم" أبن خال الملك " لقد كانت تعطي الكثير للمحتاجين وتحرص على متابعتهم".
إنه قصير القامة يحتفظ بنظارة سوداء تغطي عينيه في حين لا يزال يتمتع بذاكرة صافية.
لم يدرس مع الملك عبد الله لكن درس مع أخو الملك غير الشقيق "مشعل بن سعود الرشيد" الذي وفرت له والدته معلماً يدرسه في القصر، وطلبت منه أن يدرس "محمد السلطان" معه وابتاعت له "دفتراً جميلاً" كما يقول بابتسامة ملؤها الحنين إلى الماضي.
هذا الرجل، الذي تداعب أصابعه مسبحةً زرقاء بين يديه، كان رفيقاً للملك منذ أن كان في السادسة من عمره.
وليس من السهولة حالياً إجباره على الحديث لأنه منقطع عن الجميع ويكتفي بالصلاة وسماع الراديو، وخصوصاً إذاعة مونتي كارلو كما يقول أبناؤه.
كان يظهر مع الملك عبد الله على الخيل في سن الطفولة برفقة أخيه "مشعل الرشيد" وعبده "فيروز" الذي كان يساعد عبد الله الصغير على امتطاء الخيل. " كان عمري حينها 11 عاماً ولا توجد إلا ثلاثة سيارات صغيرة في المنطقة عند الملك عبد العزيز" حسب ما يقول.
(وهذا الأخ غير الشقيق الوحيد للملك عبد الله بن عبد العزيز هو الأمير مشعل السعود العبد العزيز المتعب العبد الله العلي الرشيد. ولا يوجد من نسله حالياً سوى بنت وحيدة من زوجته الأميرة جوزاء الفيصل الحمود العبيد العلي الرشيد. ومن المرجح أن وفاته كانت في منتصف القرن العشرين حسب ما تقول روايات شفهية لم يتم توثيقها حتى الآن).
كيف يتذكر رحيل "فهدة الشريم" وموقف أبنها الوحيد من زوجها الثاني عبد العزيز آل سعود؟.. يجيب قائلاً :"ماتت عن مرض عضال وحاول أحد الأطباء الألمان علاجها لكن دون جدوى. لقد كانت مشيئة الله. ماتت في الرياض وكان عبد الله حينها في الرابعة عشر من عمره تقريباً. كان عبد الله رجلاً حقيقياً حين تلقى خبر الوفاة. لم يتصل بأحد أو يسكن عند أحد، بل واجه الموقف بصلابة".
وتوفيت في الرياض عام 1934.
في علاقته مع أبناءه يبدو حريصاً على جعلهم يتعودون على مبدأ الاعتماد على النفس. إنهم أبناء ملك لكن ذلك لا يعني بالضرورة أنهم سيملكون الكثير من الأموال لهذا السبب فقط. حين أخفقت أبنته علياء في إحدى المواد، وقد كانت صغيرة وقتها، حرمها من الحصول على الدراجة الهوائية التي كانت موعودة بها رغم أن ثمنها لا يتعدى مئات الدولارات البسيطة حسب ما روته لإحدى الصحف المحلية. إنها مسألة مبدأ بالنسبة إليه لا أقل ولا أكثر.
أما علاقته مع أخوته فهي جيدة ومتوازنة رغم الاختلافات في وجهات النظر التي حدثت في فترات متفرقة من التاريخ السياسي للبلاد الذي شارك في صنعه مع أخوته الأمراء الكبار. على عكس ما تشير التقارير الغربية بين فترة وأخرى من وجود توتر بينه وبين أخوته فإن ذلك ليس دقيقاً.
إنهم جواره دومًا في كل المشكلات وأعناق الزجاجات العديدة التي تمر بها البلاد. كما أنه لا توجد دلائل فعلية في أنهم جميعا عقبة أمام خطوات الإصلاح والانفتاح المرحلي اللذان يبتغيهما
لبلاده. كما أنهم يعلمون أن أي تصعيد لأي خلاف كفيل بتهديد مستقبل المملكة السياسي في المنطقة، وهو ما قد يتيح لتدخل أطراف عربية وأجنبية لها مصالح وأجندات تحلم بتطبيقها. يقول دبلوماسيون غربيون في الرياض حول هذه المسألة " يبدو إن هنالك خلافات .. لكنها ليست خلافات عنيفه".
وفي التقاليد البدوية فإن الخلاف مع الأخ الأكبر لا يمكن أن يؤدي إلى عدم احترامه. لقد رأى الجميع في قمة الخلاف بين الملك سعود والملك فيصل أن لا أحد منهما خرج عن إطار هذا الاحترام. وحين تم خلع سعود عن السلطة من قبل أخيه الأصغر فيصل كان الأخير ينحني على يد أخيه الأكبر ليقبلها ، دلالة الاحترام، في قبلة وداع هي الأخيرة قبل ركوبه إلى سلم الطائرة التي أقلته إلى المنفى.
لقد كانت تلك فصولا في حياة رجل صعد إلى سلم العرش بخطوات هادئة جداً. لقد جاء صعوده إلى كرسي الملك قطافا لثمرة الشعبية العارمة التي رافقت خطواته الأولى على سلم العمل السياسي داخل بلاده. حين كان وليا للعهد كان هذا الأمير يسلب قلوب الملايين عقب كل خطاب يلقيه أو تصرف يقوم به. لقد كان أكبر مسئول سعودي يراه الناس وهو يلتحم معهم في الأسواق، ويأكل معهم من محال الوجبات السريعة.
إنه تحول مدهش بالنسبة إلى السعوديين أنفسهم. فبعد نحو عشر سنوات من اختفاء المسئولين الكبار في الدولة من الظهور في الاماكن العامة، ظهر أمامهم الأمير عبد الله بن عبد العزيز ليقلب المعادلة ويعيد خيط الوصل بين الأسرة الملكية المقدر عددها بالآلاف والشعب.
بعد أيام من توليه الحكم أصدر أمراً ملكياً بمنع تقبيل يده من قبل المواطنين أو مناداته بلقب "صاحب الجلالة". وكشفت وثيقة تم تسريبها من الديوان الملكي أن الملك أرسل هذا الأمر أيضاً إلى مسئولين كبار في الدولة من ضمنهم ولي عهده ورفيق دربه المحبوب الأمير سلطان.
ومنذ توليه الحكم في السعودية عقب وفاة الملك فهد في الأول من آب(أغسطس) 2005، أرسل الملك الذي كان يتولى تصريف الشؤون اليومية للمملكة منذ 1995، إشارات قوية تدل على رغبته في مواصلة سياسة الانفتاح. ففي 8 آب(أغسطس)، بعد أيام من توليه الحكم، اصدر عفوا عن ثلاثة من المعارضين كان حكم عليهم في أيار(مايو) بالسجن ما بين 6 و9 سنوات لمطالبتهم بإقامة مملكة دستورية.
وتزايدت وتيرة الإصلاحات في المملكة عقب اعتداءات 11 أيلول(سبتمبر) 2001 في الولايات المتحدة والتي كان 15 من منفذيها ال19 سعوديون. ولم يكن ذلك بسبب الضغوط الأميركية فقط بل أيضا لان النظام السعودي أدرك أن التيار "الجهادي" يمثل خطرا عليه.
كما أنه زار مناطق في بلاده لم يزرها أي ملك سعودي منذ سبعة عقود مثل منطقة "الحدود الشمالية"، أو منطقة "عسير" التي لم يزرها أي ملك منذ ما يربو على عقدين من الزمن. كانت تلك خطوة مهمة بحق مناطق طالما كانت مهمشة ويُنظر إلى سكانها عادة بأنهم "مواطنون من الدرجة الثانية" حتى وإن لم يكن هذا الوصف رسمياً.
وأعترف بعدها في خطاب له في مجلس الشورى أن هنالك مناطق لم تنل نصيبها حتى الآن من التنمية. وهذه الصراحة هي ما يسحر السعوديين بشكل كبير. إنه يعرف كيف يعزف على الوتر الشعبي.
وفي أبلغ على دليل على كونه "رجل الشعب"، كما يرى خبراء في الشؤون السعودية ،أنه استجاب لدعوات شعبية تطالب بإعفاء مديرعام في تعليم البنات بعد حريق شب في مدرسة مخصصة للطالبات في مكة المكرمة. وقد كان وقتذاك ولياً للعهد لكنه كان حاكماً فعلياً بسبب اعتلال صحة أخيه الملك فهد منذ منتصف التسعينات. كما أنه بعد أشهر من توليه الحكم أقال رئيس هيئة سوق المال بسبب هبوط هائل ألحق الأذى بالمتعاملين البسطاء في البورصة السعودية.
ولا يزال يفكر في إنشاء صندوق آمن للاستثمار في البورصة يسمح بالاشتراك فيه للمواطنين من ذوي الدخول المتدنية فقط. قال حينها عن ذلك الصندوق الاستثماري:" نريده للبسطاء لا للأسماك الضخمة". ولم يرَ المشروع النور بعد لكنه قد يواجه بضغوط دينية لعدة أسباب أهمها أن ضمان عدم خسارة المرء هي محرمة في التعاليم الإسلامية.
كما أن في جعبته مشروعاً أكثر إثارة سيولد خلال السنوات المقبلة ألا هو جامعته المخصصة للعلوم والتكنولوجيا. ومصدر الإثارة فيها أنها ستكون الجامعة الرسمية الوحيدة التي لا تدرس علوم الدين أو المواد الأدبية الأخرى. إضافة إلى أنها ستكون الجامعة الأولى في تاريخ هذا البلد المحافظ التي ستضم صفوف تعليم مختلطة بين الذكور والإناث. وأختار لها جزءاً من مدينته الاقتصادية المسماة باسمه في "رابغ" حيث الركن الغربي من بلاده الذي يعتبر أكثر انفتاحاً وتحرراً من التقاليد الوهابية المتزمتة.
اقتصادياً تتمتع السعودية حالية بوفرة نقدية تمكنها من إنفاق أكثر سخاء على مشاريع البنية التحتية. وزادت هذه الطفرة النقدية من ضغوط التضخم في هذه المملكة النفطية. وتسارعت خطى التضخم في السعودية لتبلغ أعلى مستوياتها في سبعة أعوام مسجلا 3.83 بالمائة في يوليو/تموز مع ارتفاع الإيجارات في أكبر بلد مصدر للنفط في العالم بينما ساهم ربط العملة بالدولار الضعيف في تفاقم تكاليف واردات المواد الغذائية.
وأظهرت بيانات رسمية نشرت الشهر الفائت ارتفاع مؤشر تكاليف المعيشة إلى 105.6 في نهاية يوليو من 101.7 قبل ذلك بعام. وهذه أكبر زيادة في المؤشر منذ عام 2000 . وسنة الأساس للمؤشر هي 1999. وارتفعت الإيجارات بنسبة 9.8 في المائة من 6.7 في المائة في يونيو/حزيران حينما كان معدل التضخم 3.06 بالمائة. وكانت هذه أسرع زيادة للإيجارات منذ عام 2004 على الأقل. وقفزت أسعار المواد الغذائية مرتفعة بنحو 5 بالمائة.
إلا أن محللين وخبراء اقتصاديين يبدون تفاؤلاً مشوباً بالحذر فيما يتعلق بقراءتهم للمستقبل الاقتصادي للبلاد لو نجحت مخططات المملكة الرامية إلى إنشاء ما مجموعه سبع مدن اقتصادية تتناثر على أنحاء مساحتها الجغرافية شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً. وحالياً يتخوف مواطنون من تأخر عملية البدء في هذه المدن خشية أن تتسلل إليها شبه الفساد.
وفي مقارنة بين أجواء الطفرة الأولى التي غطت المملكة النفطية أوائل الثمانينات من القرن الماضي، وما تتمتع به البلاد من سيولة نقدية فائضة بسبب ارتفاع أسعار البترول، فإن محللين يرون أنه على النقيض من الطفرة الأولى فإن السعودية تستثمر أموالها جيداً حالياً، وأن حجم الأموال المساء استخدامها تناقص بشكل ملحوظ إلى معدلات متدنية. لكنه لم يختف نهائياً.
وسبق وأن قال مسئولان كبيران في الحكومة السعودية وهما الأمين العام لمجلس الأمن الوطني الأمير بندر بن سلطان، وأبن عمه الآخر السفير في بريطانيا الأمير محمد بن نواف أن "إساءة استخدام للأموال" الفائضة قد جرت في فترة سابقة لكن ذلك اختفى نهائياً في الوضع الحالي.
لا يمكن وصف السعودية بأنها بلد ديمقراطي. أيضاً لا يمكن أن توصف بأنها بلد غير ديمقراطي. لا توجد حياة برلمانية حقيقية ولا أحزاب سياسية ولا حرية انتقاد للأسرة الحاكمة. إلا أن ذلك لا يعني أن المخابرات وأجهزة الأمن الداخلية تسيطر على البلد وتقمع الحريات كما يحدث في دول عربية أخرى.
حالياً لا تحتاج هذه البلاد المحافظة إلى حاكم منتخب لأن ذلك من شأنه أن يعزز من نفوذ التيارات الإسلامية المتطرفة. لقد أثبتت أولى التجارب الانتخابية المتمثلة في انتخابات المجالس البلدية مدى عمق وقوة التيار الإسلامي في المجتمع. كما أنها أتاحت له الفرصة كي يغدو أكثر تنظيماً ودقة وخطورة في المستقبل. هذه الخطوة وإن كانت لا تكاد تذكر في الخطوات المبتغاة للإصلاح السياسي أفرزت دروساً كبيرة جداً للمراقبين في الخارج.
وتبدو الأسرة الحاكمة السعودية ومن فوقها الملك أداة مهمة للاستقرار في واحدة من أكبر الدول النفطية في العالم، وأي إخلال بهذه الصيغة في الحكم قد يفرز إما حكماً قبلياً لا يحظى بشعبية كاملة، مما يجعل البلاد مكشوفة أمام معاول التقسيم، أو حكمًا دينيًا يخلف أخطر دولة أصولية في العالم.
ولا يزال الملك يبني مملكته الجديدة حجرا حجراً رغم أن يده لوحدها لا تستطيع التصفيق. إنه بحاجة لدعم قوي من أفراد أسرته ومواطنيه ومن قبل عدد من القوى الفاعلة في العالم. لا تزال التقاليد الدينية تفرض سطوتها في بلد يبلغ نسبة الشبان فيه أكثر من 60 في المئة. على الرغم من أنها مملكة شابة إلا أن أفكار كبار السن هي التي تمضي هنا. ويحاول الملك عبد الله أن يحدث تغييرات إصلاحية من العمق دون الاصطدام المباشر بالمؤسسة الدينية.
لكن بوسع حاكم السعودية أن يحرز الكثير من الاهداف الذهبية في معركة الإصلاح داخل بلاده . إنها مملكة تعيش تحت رحمة المستقبل وفي ظل ملك يحمل الكثير من الآمال والأحلام لكتابة فصل جديد من تاريخ بلاده.
التعليقات (0)