ما أعجبني في هذا الكتاب (1) مسألة وحيدة وهي صراحته !
أما معطياته فهي تؤشر لظروفه وبيئته وخياراته ، وتعليقي عليها لاحق .
الآن ، سؤال أساسي : أيستحق هذا العمل النشر ؟ بالأحرى أن أقول هل يستحق القراءة ..؟
أخذ من وقتي ، وفي لبنان الوقت معدوم القيمة ، ونسعى لتضييعه دوماً ، ونهفة الممثل المبدع دريد لحام عندما أخّر بدء مسرحيته في بيروت وإعتذر عن ذلك عند إفتتاح الستارة بالقول للحفاظ على العادات العربية بالتأخر دوماً !
أخذ من وقتي هذا الكتاب إذن حوالي الساعتين إلى ثلاث !
وأنا ضنين بوقتي على التجارب الحديثة ، لا أثق بها كإنعدام ثقتي بالأفلام العربية الحديثة (الشبابية والفكاهية على حد سواء) فهي لا تستحق أن نبذّر وقتنا الثمين عليها !
كذلك ضنين بوقتي على الكتب (الروائية والقصصية خاصة) لمن لا أعرفهم من الكتاب العرب والأجانب ، لذلك تراني أقرأ للأموات العرب (والأجانب على السواء) ، إذ بعد أن يرحلوا يهدأ الغبار الذي يعلو من مخالفيهم ومحبيهم على مكانتهم ، ليجلو الخبر عن شبه دقة وموضوعية !
هذا لا يعني بتاتاً أنني أوفّق دائماً بكاتب راحل أقتني كتبه بإندفاع وحميمية ، ولكنه يقلل من نسبة الصدمة عند إختياري لكتاب جديد !
وإن كان من المؤلفين (مَن رفعه البعض إلى مراتب عليا وتم تقليده جوائز عالمية) مَن لم أستسغ كتبه ، فهذا يشير إلى ذائقتي الخاصة !
المختلف في هذا الكتاب أنه ليس رواية أو قصة بل هو أشبه بمذكرات وذكريات لباحث في ميدان الإحصاء ، وهو ما دفعني لأن أحصل عليه ، وأن أقرأ بعين ناقدة التجربة الحقلية لآخرين في الميدان المجتمعي .
لكنني لم أسرّ كثيراً ، فالتجربة الحقلية (بمعناها الأنثروبولوجي) باهتة ، ولا أظن الكاتب من عارفيها ، والكتاب ما هو إلا سرد لمواقف ومحطات في عمله الإحصائي (مع فريقه) منذ بداياته في العام (1992) ، هو نوع من البيوغرافيا التي لا بد أن يلحقها تكملة بعد نضج العمر والتجارب !
إذن لم أعجب سوى بصراحته ، والتي قد يجدها البعض صادمة ...
لكنني لم أستسغ المدح المجاني للحريري الأب ، الذي أدخل رأسمالية متوحشة إلى لبنان وأغرق المواطن (على إختلاف طوائفه) بدَيْن هائل لا نملك منه فكاكاً إلا بتنازلات سياسية نحن بغنى عنها ! فهل الحريري هو صاحب الحل الأمثل للبنان ؟!
لكن الكاتب كان يعمل في مؤسسة تابعة للحريري (2)، ربما لهذا غابت الموضوعية أو غُيِّبت ، لو وجد الكاتب المكان لمناقشة أفعال الحريري ونقدها ، لربما أظهر القليل من الحيادية !
لكن تحولت ذكرياته إلى رثائية مملة وبكائية مزعجة عن الخسارة التي نعيشها برحيل الحريري !
يتكلم الكاتب عن ولادته وبيئته ، وصداقاته ، وعلاقاته الجنسية وخياراته في كل المناحي المتعلقة بعمله وأجزاء من حياته . لكن ما الذي يثير في هذه الحياة ؟! هل صداقاته مع المثليين ؟ والحشاشين ؟ وهل عينه الخبيرة تلتقط أشياء نحتاج كقرّاء لمعرفتها ؟! هل يقدّم لنا فهماً مختلفاً ؟ هل يقدّم لنا جديداً ؟ هل يمكن من خلال ما كتبه أن نفهم لبنان ؟ اللبنانيين ؟ وهل يمكن أن يقدّم فرصة لأن نفهم أنفسنا ؟!
هذا الكتاب يتميز بالصراحة ، فقط ! لكن تفاصيل حياته ، ومروياته ، ومحطات عمله ، وخياراته ، لا تغني القارئ حتى ولو كان مهتماً بمعرفة هذا الوطن !
لا يمكن أن نعمّم من خلال ما نقرأ فنعتبر أن هذا هو الـ"لبنان" !
لا يمكن أن نقرأ ما كتبه عن المخدرات واللواط والحشاشين والفساد ، فنفهم وقائع مجتمعنا اللبناني !
هذا لبنان كما شاهده هو (ربما) !
وأنا متأكد أن باحثاً آخراً يمكن له أن يشاهد ويتكلم ويكتب عن لبنان آخر !
قراءة لبنان متعددة بتعدد الباحثين ربما ، لكن كلما خرج الباحث من إنفعالاته ، وإرتقى بموضوعيته ، وإستقى من تجاربه (ومن تجارب زملائه) ما يمكن له أن يعمَّم على المجموع كلما كانت قراءته أقرب للواقع ، وكلما تقاطعت مع قراءات (وأبحاث) الآخرين .
لكن كلما إنحشر الباحث بمرافقة المنحرفين (الإنحراف بمعناه السوسيولوجي) كلما إقتصر فهمه على مظاهر الإنحراف ، وتعميماته تشوّه الوقائع ولا تقدم توصيفاً فعلياً للواقع كما هو .
والكاتب أوقع نفسه بهذا المنزلق ، ولم يقدر على الخروج ، لم يقدر على الإرتقاء بتجاربه لتصبح عناويناً لواقع لبناني نعيشه ، لم يقدر حتى على إستخلاص فرضيات يمكن لنا أن نفهم من خلالها نفسية اللبناني ، ماهية وكيفية تصرفاته وسلوكياته .
هو كتاب سيهتم به من يريد أن يتعرف على جزء من الحياة الليلية لبيروت ، مع جرعات مفرطة من الإنحراف !
قلت صراحته أعجبتني في مجتمع لا يعرف سوى المداهنة والرياء والكذب بألوانه المختلفة .
لكن هذا فقط ، وبالتأكيد لن أركض غداً لإقتناء كتبه التي قد تصدر ...
الهوامش :
arabicbookshop.net) قد حدّد سنة النشر بـ (2010) ، ومكان النشر بـ (بيروت) . (1) عباس جعفر الحسيني ، (غير مذكور السنة) ، غضب أحمر في بيروت (رحلة باحث بين الدولة والشعب) ، غير مذكور مكان النشر ، ماينرز للدراسات والأبحاث ، غير مذكور الطبعة . وإن كان موقع (
(2) أنظر الصفحات : 12 ، 14 ، 32 ، 124 ، 125 (على سبيل المثال) .
التعليقات (0)