رحلة إلى طهران
علي بدر
(العراق)
- I-
شعراء جبال البورز
"بعيداً عن الدروب المعروفة،
مرّ متخفياّ، حيث كل غابة، وكل جسر
يعرف النشيد"
الشاعر الإيراني أحمد شاملو
لا أتحدث عن رحلة النبي دانيال الشاقة، ولا عن مغامرة لصيد كبير، إنما عن رحلة إلى طهران، إلى كلاسيكية الأدب الفارسي، إلى خان شاه نامة العظيم دون أن أعرف شعراء كثرا يقرءون في مقهى صغير أشعار جامي، أو حافظ، أو الشيرازي، ولا كتابات ملا صدرة أو عبد الكريم سروش.
من مطار أتاتورك حملتني الطائرة ومرقت بي في ليل إيران البهيم، فجر جديد على جبال البورز المتعرجة، على مت دامافاند الملوكي وقد غمرنا ضباب طهران الأبيض، سائق التاكسي الذي أقلني إلى الفندق طلب بقشيشا عاليا وبالدولار، ظنني مليونيرا أو تاجرا، رفعت يدي أمامه إلى الأعلى وقلت له أطلق النار!
وفي فندق آزادي كل شيء لا معقول وسريالي وساخر مثل حاجي بابا الأصفهاني التي ابتدعتها عقلية جيمس موير الساخرة، تأخذ مفتاح حجرة ليست حجرتك، والحمال يأخذ حقائبك إلى شقة ليست شقتك، وموظفة الاستعلامات بالرغم من جمالها التاريخي الساحر فإنها بلحظة أضاعت جوازي.
الشاعرة الإيرانية معصومة آصفي لحقت بي وقبلتني رغم وجود رجل دين في الصالة، وأخذتني إلى مطعم دربند التاريخي لتناول الكباب الإيراني بالسماق على أنغام الموسيقى الساحرة، النساء يدخن السجائر ويطرحن الإيشاربات عن رؤوسهن، والشادور أصبح أكثر تجسيما على الأجساد من الشادور القديم.
أدهشتني الشوارع الفسيحة الرائعة، المنتزهات الفخمة ذات الظل البارد وعطر مئات أشجار السرو المغروسة منذ القاجاريين، المنازل بأفنيتها الكبيرة وزجاج نوافذها الملون، سوق كارافانسيراي بممراته، وصفوفه المقببة المنخفضة، مسجد الشاه ومدراسيه، وفي المساء سرنا على طريق كالوس الجبلي بقممه المغطاة بالجليد، بتنا في منتجع كلارادشت الجميل، سبحنا في العيون الساخنة لمنتجع رمسر الساحلي، زرنا المناطق الأثرية لماسولة القديمة، تجولنا في الأسواق الشعبية على امتداد بحر قزوين، زرنا البرسبوليس ونقش رستم، ثم وقفنا أمام قبر حافظ، أمام القبة التي ترتفع إلى الأعلى كرمز للروح الصاعدة نحو السماء وتحدثنا عن الشعر الفارسي الذي تأثر بالشعر العربي.
"تأثير اللغة العربية على اللغة الفارسية مثل تأثير اللغة الرومانية على اللغة اللاتينية، الرومي، الخيام، سعدي، حافظ، ناصر خسرو، العطار، و جامي كلهم تأثروا بالقرآن و الشعر الجاهلي و الأموي و العباسي، سعدي انتحل قصائد المتنبي، وفردوسي رغم عنصريته لم يستطع أن يستغني عن المفردات العربية في شاهنامته" قالت معصومة آصفي ذلك وهي تتعلق بذراعي وتحاول أن تضبط إيشاربها الذي انزلق عن رأسها، شعراء آخرون كانوا في حديثها: ميرزاده عشقي الذي قتله بهلوي، عارف القزويني و فرخي يزدي الذي تم تخييط فمه بسبب قصائده المحرضة ضد الشاه، الشاعر والأمير القاجاري ايرج ميرزا الذي مزج الغزل و الحب المجازي بقدح أبناء زمانه من سياسيين وغيرهم، بروين اعتصام و قصائدها العاطفية ذات الصبغة الإنسانية و المشحونة بالنصائح و الحكايات.
مشينا معا في الأسواق والشوارع وفي الساحات الواسعة، التقطنا صورا أمام دكاكين الحلاقين، أمام باعة التوابل والمكسرات، أمام محلات المجبراتية، أمام المكتبات الكبيرة، أمام محلات العطارة والبقاليات، أمام المطاعم التي تقدم البيبسي كولا والساندويشات. الوجوه هنا تذكرني بالشخصيات التقليدية من تجار البازارات في قصص صادق هدايتي، الروائي الذي انتحر في شقته في باريس في الثلاثينيات..وجوه تذكرني بشخصيات برزك علوي وروايته عيونها، تذكرني بشخصيات محمود دولت آبادي والذي يعد نجيب محفوظ الأدب الفارسي، بفروغ فرخ زاد التي تشبه غادة السمان من نواح كثيرة، بشخصيات رضا برهاني والمسرحي سعيد سلطانبور الذي أعدمه الخميني...أمام واجهة المكتبة التي توقفنا أمامها كانت الكتب الأجنبية المترجمة للفارسية تتصدر الواجهة: بروست، توماس مان، مكسيم غوركي، نجيب محفوظ، غادة السمان، طه حسين، توفيق الحكيم، غسان كنفاني، البياتي، محمود درويش، عبد الرحمن منيف، نازك الملائكة، محمد مفتاح الفيتوري، سميح القاسم، قال لنا كاتب شاب إن الرقابة شديدة ولم تسمح بطبع روايات مهمة مثل يولسيز لجويس ومدام بوفاري لفلوبير وغيرها.
سرنا أنا ومعصومة آصفي وكاتب شاب حتى وصلنا محطة القطار، جلسنا في مطعم لغياب المقاهي، ثم انحدرنا صوب منتزه أجامشيد الكبير وجلسنا تحت الظل الثقيل والصامت، كانت النسائم الباردة تخفق على وجوهنا، وحديثنا انعطف شيئا فشيئا نحو الشعر:
تحدثت لي معصومة آصفي عن علي أسفندياري الذي دمر أسطورة الشعر الكلاسيكي، عن نيما الشاعر الكئيب الذي قال:
هذا دلوك في يدي وأنا بئركم ألوح بالماء من بعيد.
تحدثت لي عن برويز ناتل خانلري ومحمد حسين شهريار وفريدون توللي..تحدثت لي عن بهجت تبريزي الذي صرخ: "سلاماً يا حيدر بابا" والتي كتبها باللغة التركية, عن أحمد شاملو الذي كتب قصيدة النثر الإيرانية، أدهشتني وهي تتحدث دون انقطاع عن قصائد شاملو الميتافيزيقية، عن شاملو الذي كان يرتعش من خوفه من العوالم المجهولة. كنت أشعر ببدن شاملو وهو يقشعر، شاملو الذي بكى الهواء المضبب بالحزن ونتف الحبال الفضية في مسبحة الجواهر، شاملو مزيج من ريلكة وبرودسكي فالشعر حادثة, حادثة مسببها الزمان والمكان. ولكن شكلها يتحقق في اللغة...
كان شاملو يسمي قصيدة النثر بالشعر الأبيض, شعر لا يريد أن يظهر على شاكلة الشعر، قصيدة النثر هي رقص لا يحتاج إلى إيقاع، موسيقى حسية, شعر أبيض، فكر متمرد، كما كتبته فروغ فرّخزاد، كما كتبته وهي تبحث عما خفي فيها, عن البحرٌ الذي لا يمكنها أن تخفيه في هذا الطوفان المخيف..
مهدي إخوان شاعر اليأس والجو الكئيب, والأبواب الموصدة, والرؤوس في الياقات, والأيدي المخفية, حيث الأشجار هياكل من بلور مرصوف, والأرض ميتة القلب, والسماء واطئ سقفها...
ومن ثم سُهراب سبهري السريالي الذي مزج شعره بالعرفان والدروشة, سبهري الذي خشي أن تأتوا على رؤوس أصابعكم، كي لا تتفطر آنية وحدته الخزفية الرقيقة...
جلسنا طويلا ونحن نحدق بالوجوه والأشجار والشوارع، جلسنا طويلا ونحن ننظر إلى الطيور البيض وهي تحلق في السماء المكشوفة، جلسنا طويلا ونحن نتذكر الشعراء الذين قتلتهم الأيدي الخشنة والوجوه المتصلبة في ليل طهران البهيم.
في آخرة الليل سرنا في الميدان الكبير وقد وجدناه حيا ونابضا منذ عصر القاجاريين، ضرب وجوهنا الهواء البارد ولسعتنا رطوبة قارسة منعشةً إيانا بالنبيذ الذي أخفيناه في حقيبة صغيرة، والسجائر والدفء الفواح، كان الوقت متأخراً ليلاً، وكان الهواء يشتد في الضاحية كلها، وراحت أشجار السرو الطويلة المدببة تصفر في الأعلى، والإسفلت يتجلد على الشارع، بينما أخذت القناديل ترتجف وهي تلقي بنورها على البنايات المتقابلة.
- II-
طهران من الجامع إلى السوق
(أتكلّم من عمق الليل، خارج عمق الظلام، وخارج عمق ليل أتكلّم.
إذا أنت جئت إلى بيتي، صديقي..إجلب لي مصباحا ونافذة أنظر من خلالها
الحشد في الممر السعيد).
الشاعرة فروغ فرخ زاد
طهران هي مدينة التركواز واللازورد المبهج في تكاثفه، والمشرق في صفائه، طهران المحاطة بنطاق الجبال العظيمة والجميلة، مدينة المنائر وقبب المساجد المذهبة، أو القبب الجميلة المصنوعة من المينا الزرقاء، المدينة التي تضوع منها روائح أشجار البرتقال المزهرة، مدينة الفضاء الواسع وديكور الورود في الربيع، الديكور العظيم الذي يغطي أرضها ..وساحاتها وشوارعها وأرصفتها الواسعة.
ديكور عظيم من أجمات الورود كما لو كنت في قصر من قصور ألف ليلة وليلة: شيء ساحر وحلمي وأنت تعيش كل لحظة مجد تألق الألوان المختلفة التي تغطي السهوب غير المتناهية، أو واحة الأزهار البيض النابتة على مقربة من الجبل، أو موجة الأشجار والسلام الفردوسي في الساعات الأولى من الصباح منتشية في الضياء الباهر، ومرتخية تحت أشعة الشمس المشرقة.
في مساء طهران الأبيض لسعنا البرد لسعات صغيرة، وغرق كل ما حولـنا بغبش ضبابي كثيف، كنا نسير غير أننا لم نعد نميز سوى جزء صغير من الميدان، ومن هذه الغشاوة المهتزة انبثقت بقع مصابيح خافتة جداً، وراحت تسبح أضواؤها. أما في الأعلى، في الفراغ المدخن، فبدا الجزء الأعلى من صورة كبيرة قاتمة منصوبة في الساحة.
في ساحة آزادي التي تبلغ حوالي خمسة هكتارات وهي أكبر ساحة في العالم ...وفي وقت متأخر من المساء وصلت باصات بيض كبيرة كان يستقلها السياح الأميركان والإنجليز ...ثم انساب الضباب الكثيف على امتداد العشب والساحة المقفرة، وتقدمت عربات الزبالين في الساحة لتصل إلى النصب، وتعالت أصوات الأطفال وصراخهم النحيف في الليل البارد البهيم. ومن النوافذ المفتوحة للسيارات التي كانت تسير بهدوء في الساحة أطلت الوجوه التي تترقبنا، أما معصومة فقد كانت تنظر إلى هذه العربات وإلى الرصيف المبلل الذي يلمع تحت الأنوار وإلى حشد المسافرين غير الكبير الذي هبط من الباص وإلى الساحة الفخمة التي لفها ظلام رمادي كثيف كأنه مشهد جديد لم يحدث منذ سنوات، فلم تكن سياسات الحكومة تسمح للسياح الأجانب القدوم إلى طهران.
سياسة الإصلاح الجديدة سمحت للسياح الأميركان القدوم إلى طهران..تحت نظرات المحافظين المعادية..وفي الساحة الكبيرة التي وقفت الباصات عندها كانت هنالك لوحة كبيرة مرفوعة إلى الأعلى مكتوب عليها (تسقط أميركا)...
"شعارات.." البلد كلها شعارات...قال حميد سهرابي الصحفي الشاب الذي رافقنا ذلك اليوم وهو يلف رقبته بياقة الجاكتة: -"كم أكره هذه الشعارات ..وهذه الصور الكبيرة أفضل عليها دعايات بيبسي كولا.." كان نحيلا جدا، متوترا إلى حد ما، له وجه غريب شبيه بطائر اللقلق، وعيناه حالمتان محتشدتان بالرؤى، وفي المساء يلفه قلق ساحر، حاد، وماكر.
" الجو بارد " قلت لهم.
" مساءً يعم الضباب لكنه سيتحسن في الصباح كثيرا"
صعدنا الدرجات المرمرية الملساء إلى الساحة المجاورة، وهناك شممنا على الفور رائحة الربيع اللاذعة، والحجر المبلل، والماء الذي يقطر بهدوء وعذوبة...مشينا ببطء كبير ذلك الوقت على الأرصفة الصغيرة والممرات الضيقة التي تتخلل العشب ننظر إلى الرطوبة المظلمة، إلى الضباب الأبيض الذي هبط تلك الساعة وكأنه قادم من جبال البورز ليخفي مشهد المدينة ويقدم بدلا عنه مشهدا جميلا آخر، ليقدم لنا مشهدا غريبا لم نتعود عليه في الربيع، ويتخلل المدينة ويبرزها خلف غلالة من بياض بناسها، بأنوار مصابيحها، بواجهات فنادقها، وبأسيجة قصورها، بمصابيح جسورها، بحجر قنواتها، وبكل حياتها المسائية التي تبدو وكأنها مخنوقة بغشاوة سميكة ومنتشرة في كل مكان، ويكاد الضوء لا ينفذ منها.
خف إلينا نادل المطعم وفتح الباب لنا، وساعدنا بمهارة وحذر عجول على إيجاد مكان لجلوسنا، فاتخذنا مقاعد جلدية باردة في صالة مضاءة إضاءة خافتة، وبمصباحين كبيرين ومعتمين، أشعلنا سجائرنا وأخذنا ندخن باسترخاء كامل، بينما طلبت معصومة النارجيلة التي حملها النادل ووضعها على الطاولة، كنا ننظر من الزجاج إلى الشارع، فراحت بعض قطرات الضباب تترقرق على الزجاج ثم تنزلق إلى الأسفل.
من هذا الزجاج كنا ننظر إلى طهران وهي تتجمع مثل قبضة الكف على نفسها .
طهران التي ذكرها الاصطخري في المسالك والمالك في القرن العاشر بوصفها قرية قبل أن يعمرها الصفويون، طهران العظمى التي شيدها التدمير المريع للري على يد المنغوليين فهاجر الناس إليها ليؤسسوا اليوم متربول الإسلام المنشق والمعارض للإسلام الرسمي، طهران التاريخ والتي كانت تعني المزارع الكثيفة والشجر الغض والغظارة الرائعة للنبات وهو يؤشر نمو مدينة عصرية بشكل تدريجي من القرية التي كانت مشهورة بثمارها الرفيعة وحدائقها الجميلة إلى العاصمة العظيمة، فالشاه طهماسب من سلالة الصفويين اختار طهران كمركز إداري لمملكته فأدّى هذا الأمر إلى بناء العديد من البنايات الحكومية الكبيرة والقلاع والأبواب، وفي عصر سلالة الزند تحولت البلدة الصغيرة إلى مدينة عسكرية على يد أول ملوك القاجار آغا محمد خان الذي سمّى طهران عاصمة للبلاد في العام 1789.
وها هي طهران التي كانت الحصن العظيم الذي بناه شاه فاتح علي ملك القاجاريين، أصبحت أبوابا ومساجد في زمن الشاه ناصر الدين، أصبحت ساحة طوبخانة الكبيرة والبنايات العسكرية التي بقيت آثارها حتى الآن...وها هي طهران اليوم... الحياة الغافية والمترنحة في هدوء الصيف ومسائه، ويزيد من برودة الصيف النسمات الهوائية الهابة من جبال متدامافاند، ومن المتنزهات العديدة والحدائق الكبيرة حيث تتفتح الزهور على شكل صفوف على مدار العام، وخلف الشوارع الواسعة هناك صفوف الأشجار في الدروب أو في الشوارع الصغيرة، والماء الذي ينزل من المدينة العليا على طول البالوعات العميقة والعريضة التي تبدو مثل الأنهار الصغيرة أثناء الربيع...
وفي الصباح هناك دزينة من المقاهي الصغيرة بسقوف الخارصين التي تعشعش بين الغابات بانتظارنا. وقد فضلنا الراحة القديمة الطراز، وهي الجلوس على الأرائك المنخفضة التي تغطّت بالسجاد القديم، لنأكل الكباب بالسماق ونشرب الشاي من السماور الفارسي والإستكان.
في الأسواق الفارسية الكائنة في جنوب طهران، شممنا أول دخولنا رائحة التوابل الحادة ورائحة جلود الغنم، وسمعنا الضربة الصوف لفتح السجادة من الأكوام العالية كما لو كنت تفتح مخطوطة، رأينا الوجوه الفارسية في الدكاكين، والعرب أيضا، والبلوش، والمنغوليين، رأينا إيران المختلطة التي لا تريد أن تسمع كلمة عن اختلاطها، رأينا العمائم المهدّبة على الرؤوس، أو القبعات الجلدية، أو الطاقيات الشبيهة بتلك التي كان يرتديها تولستوي...في سوق دروزة ميلي، بواجهته الجميلة المصنوعة من الطابوق البارز، والمزينة بالبلاط الرنجي، والذي بناه الشاه في العشرينيات..
السوق في طهران هو النقطة المركزية من البلدة، ليس للتجارة فقط إنما للعلاقات الاجتماعية للزواج وللسياسة، وهو مفتوح على الدوام، ويستقبل المهرجانات الدينية أيضا، وأعلى نشاطاته منتصف النهار بطبيعة الأمر، أنت تسمع الصياح، والمساومات، والطلبات، وصراخ الحمالين، والنساء، والرجال القادمين من كل مكان، وعلى الجانبين كل ما تحب: السجاد، المجوهرات، الجلود، الحرائر، النحاس، الذهب...الدكاكين تبدأ من ميدان سبزه على طول عشرة كيلومترات، وبأبواب متعددة يحرسها رجال الأمن، ومستودع كبير في فناء مستطيل مفتوح، وهناك النافورات والبركات الصغيرة التي تخفف حرارة الصيف الجافّة، وبعض التجار يرش الأرضية فتصبح زلقة، وأنت تسير عليك أن تتفادى الحمالين المحمّلين بأكوام عالية والذين يشقّون طريقهم بسرعة بين الحشود، وقد ذكروني بالحمالين الفرس في أسواق بغداد.
- III-
من الفردوسي إلى سروش
طهران خان الفردوسي وشاهنامته، أبطال أسطوريون عنيفو الطباع، ملوك ثابتو الكلمة، وشعب متدين مقهور قادم من الأرياف كان يتحمل التضحيات بلا انقطاع، وهو اليوم يحكم المدينة بعنف مقدس.. شيء متوارث على الدوام وأنت تراه يتقدم من جيل إلى جيل، شيء ثابت كما تراه في المتحف الآثاري الذي صممه المهندس الفرنسي أندريه غودار، المصنوعات اليدوية القديمة، المجاميع الجميلة من الزجاجيات القديمة والمعاصرة، متحف السجاد الذي لا نظير له في العالم، قصر سعد آباد، مساكن الشاه السابق، القصور البيضاء والخضراء، متحف المجوهرات..الذي صعقنا بمجموعة الالماس، والياقوت، والزمردات والأثاث المغطى بحجر كريم، والذي جعل السياح الإنكليز يسخرون من جواهر تاج إنجلترا...كل شيء مبهر في هذا المكان الفذ: جوهرة الربيع التي تظهر على العشب البري الغض، عيون النساء الجميلة والحاذقة، الشجر المعمر الذي يصمد في العراء، الفضاء الكبير الذي يسمح بتداول الهواء، البرد الذي لا يقبل الخلط.
ضباب طهران الذي يلف مرتفعات البورز ومت دمافاند يلفنا أيضا، فسهرنا ذلك اليوم حتى الصباح...وقبل ذهابنا إلى الفندق نمنا في منزل حميد سهرابي حتى الظهيرة..ثم استيقظنا متلهّفين لرؤية الآثار القديمة.
خرجنا من منزله على عجل... وفي الطريق توقفنا لنشتري علبة سجائر من رجل يرتدي طاقية غريبة ويجلس أمام محطة البنزين، بين مصفّف الشعر ودكان البقال... كانت معصومة آصفي تعرض علينا اكتشاف أسرار طهران عبر رؤية متاحفها القديمة، اكتشاف الأسرار الغامضة للفنّ.. وحميد سهرابي عرض علينا الصعود في العربات التي تجرها الخيول ووسائل النقل القديمة لنجعل من أنفسنا على تماس كامل مع المجتمع..وبدلا من هذا وذاك ذهبنا إلى سوق تاجرش...وغبنا في ممراته ساعة، ثم زرنا المتاحف الرائعة، ذهبنا إلى مرشد جعفربور، تسلّقنا مرتفعات توشال، لعبنا النرد والتخت قرب الكهف الغريب، جلسنا في مجلس للاحتفال بعيد ميلاد حضرت فاطمة، ذهبنا إلى مسبح في الهواء الطلق وقد عامت معصومة بملابسها، جلسنا في متنزه شهر جنوب طهران.
في المساء أخذنا الحافلة واجتزنا صحراء قاشان الرملية المترامية، كانت الشوارع هادئة ورائعة، وكان الجو لطيفا، والهواء المنعش ضرب وجوهنا وعبث بشعرنا, هذا البرد اللذيذ الذي أنعشنا منحنا قوة جديدة لتسلق التلال...وبعد ساعات عدنا نلهث لندخل السوق في كرفانساري، فشاهدنا هناك الموقع القديم الذي يشبه رجلا مقرفصا في الساحة، مشينا سريعا في ممرات السوق الضيقة، جلسنا تحت القباب المنخفضة، تسلقنا الأشجار العملاقة التي تنتشر بين البيوت، تجوّلنا في الظلّ البارد وعطر مئات أشجار السرو القديمة يحوطنا، ومن المطعم الكائن في آخرة السوق على مقربة من الجامع اصطحبنا شاب عراقي التقينا به صدفة إلى منزل جميل من عهد الصفويين، وقد تهنا في أفنيته، وغرفه، ونوافذ زجاجه الملوّن...
لهب هائل في مدفأة مشتعلة في ركن المنزل، مقاعد ذات اذرع مكسوة بالساتان الأبيض مع أريكة واسعة، امرأة جميلة ترتدي ملابس راقية تعيد إلى الذاكرة ملابس الأميرات القاجاريات تتحدث بإنكليزية غريبة، واضحة الحروف وبالغة الهشاشة في ربط المقاطع.
تعرفنا على شاب من تلامذة عبد الكريم سروش، المفكر الإيراني صاحب أكبر ثورة في تجديد الخطاب الإسلامي، وتحدثنا عن الحركات الفكرية والثقافية في العالم، عن تجديد الإسلام وملاءمته للتحولات الاجتماعية والثقافية المعاصرة، عن أفكار عبد الكريم سروش المذهلة وحصوله على جائزة أرازموس الكبيرة في الغرب مع فاطمة المرنيسي وصادق جلال العظم، عن كتب على شريعتي واختلاف وجهات نظره في تجديد وإصلاح الإسلام، عن تقاطع أفكاره مع أفكار داريوش شايغان الذي يريد تجديد الفكر الإسلامي عبر تطويعه مع الحداثة الغربية، عن محمد أركون وتجديده الميثادولوجي في قراءة الظاهرة الإسلامية، عن هابرماز الذي أعجب بسروش وألقى محاضرة رائعة في جامعة طهران، وحدثنا الشاب عن مشروعه في إصدار مجلة فكرية وطلب مني مقالات لترجمتها ونشرها، واتفقنا للقاء في اليوم التالي في بهو الفندق.
من النافذة الطويلة للقصر المهيب، النافذة المغطاة بستائر الموسلين والدانتيلا، من السجاد الفخم الذي يفرش البلاط المرمري، من الوسائد على المتكئات والآرائك، من حياة الأبهة والترف الذي لا يُحد يأتي البحث عن معنى جديد في حياة هؤلاء الناس...قسوة سلاطينهم، عنفهم، قوتهم، مبالغتهم، إفراطهم، جرأتهم، حياتهم وأفكارهم القصوى..الحياة إما قاتل أو مقتول..إما أسود أو أبيض..وهكذا كنت أنظر بمشاعر متناقضة إلى هذا الشاب المعجب بسروش، والمتحمس شديد الحماس لفكرة أن يحقق عبر الإسلام المتحرر معجزة...أنا أيضا أعجبت بسروش..أعجبت بأفكاره..وقد أدركت على نحو كامل أن القطيعة مع حضارة شكلتنا وكونتنا بشكل جماعي أمر مستحيل، والعودة لأسس الشريعة القديمة أمر مستحيل أيضا..ولم تعد أفكار شريعتي القريبة من أفكار جمال الدين الأفغاني ومحمد عبدة في محاولة جعل المصطلح الإسلامي للحكم متوائما مع الحياة المعاصرة أمرا ممكنا، إذن لم يكن هنالك سوى تجديد الإسلام من داخل الإسلام..الثورة البروتستانية في الإسلام كما سمى هابرماز أفكار عبد الكريم سروش بحق.
سروش أحد أعظم المفكرين والفلاسفة الإسلاميين منذ ابن رشد، وموقعه في الثقافة الإسلامية شعبي من جهة وجدالي من جهة أخرى، لقد حاول وبقوة دمج مسارات الفلسفة الإسلامية مع فلسفة وعلم الاجتماع الغربيين، وقد لقبه الفلاسفة الغربيون ب" لوثر الإسلام" وبإرازموس الإسلام أيضا، وكانت صيحته وسط غضب واختلاط الثورة الدينية في إيران عالية، كانت صيحته الشجاعة هي مصالحة الإسلام مع الأفكار الغربية الحديثة، ولاسيما الديمقراطية وحقوق الإنسان...فلسفة سروش هي نصوص فذة ومختلطة بحقول متعددة في نسيج خطابي واحد، فكتبه مثل صيدلية تجمع التاريخ مع الفلسفة مع العلوم مع تفسير القرآن مع الشعر الفارسي...وهو أول من جعل من الشعر واسطة وميثادولوجيا في قراءة الظاهرات...شيء من الهرميونطيقية..والإيمانية..والواقعية..والشعرية في نص واحد.
- IV-
فلاسفة، متصوفة، وشعراء
(أعترف بالبهجة الكبيرة صراحة، وبمثل هذه الغبطة العظيمة أيضا. أنا مستعبد بحبك، وحر من كل عالم آخر، مثل طير الجنة، إن أفترق عنك سأسقط في فخ الحياة، الحياة والمأساة الدنيوية أيضا.
كنت ملاكا، مستقرا في السماوات؛
وترميم العالم مهمّة أوكلت لي...حوريات الجنة، البركات الباردة والشجرة على أمل في الإتحاد مع بعضها، غير إني تركت ذاكرتي بسرعة شديدة).
من قصيدة غزل لحافظ شيرازي
من قاشان ذهبنا إلى أصفهان, المدينة الغريبة على نهر زنده، في الوسط هنالك نهر جفّ مع بضعة بركات ماء متروكة، وعلى الضفة رجال يصيدون بشبكات الرمي التقليدية التي لم يعد يستخدمها أحد، إنها أرض حكيمة لا تعد الناس بأشياء زائلة، إنما بآمال موضوعة في يد الله، إنها الجمال الحقيقي على الأرض مثل الربيع والصباحات الرقراقة والأماسي الذهبية، والجلوس قرب الجامع على مصطبة تحت ظل الصيف وليس هنالك سوى الإيمان الذي يطرد عن الإنسان رعب الموت...في الطريق متصوفة يسوحون على الأرض ويتوقفون أمام المشهد الأكثر بساطة والأكثر حماسة، ومن بين صياح المتهجدين باسم الله بانوراما تتخللها أشجار السرو، وأشجار الدلب، وخرير الماء، وغناء الشحرور، وصوت السمان، وشرابت الزنجبيل المثلجة والموضوعة بطاسات النحاس.
في الظهيرة زرنا علامات المدينة التقليدية: السوق، الساحة، المساجد، القصور والجسور المشهورة المتقوسة على قاع النهر الجاف، ركضنا في الساحة العظيمة القريبة من القلعة..شعرنا ما يشعر به المغامر وهو يواجه موجة شاهقة، او ما يحسه متسلق الجبال وهو يتطلع إلى القمة الشامخة..كنا نعيش نشوة الصعود والقفز والانحدار...تعرفنا هناك على ماه سلطان المطربة الشهيرة من زمن الشاه وقد تحولت إلى حاجة بعد الثورة..كانت جالسة على الصوفا ترتدي وشاحا أبيض بشرائط صغيرة، وعيناها السوداوان هي الأكثر روعة متقدة مثل جوهرتين محاطتين بالكحل، وبشرتها المتوردة تخبرنا بأنها وإن كبرت فإنها لم تفقد الإطلالة الشهوانية لجسدها ولا بريق عينيها الجميلتين.
وفي البازار أكلنا الساهون، الحلوى التقليدية في إيران والتي كتب عنها آبادي في رواياته، وشربنا قريبا من المقبرة المياه العذبة من أحواض الموزائيك والفسيفساء والمرمر، وقد نام الرجال في الظل كما لو كانوا في كتاب من كتب غوبينو أو شاردان قبل مئة عام.
في المساء ذهبنا إلى جلسة الرياضة الفارسية القديمة (الزورخانة) والتي تؤدى على صوت الموسيقى وحركات المرشد...وفي نهاية الفصل المسرحي الباهر كان ركوع الرياضيين الذين يشبهون مصارعي السوما..وكان سجودهم ودعاؤهم وهم يجلسون على الأرض خاشعا، وفي الخلفية كان ينتظم مشهد المتفرجين مثل متحف من الوجوه والبذلات الشعبية تحت الأروقة المروسة للمبنى القديم، وجوه الرجال النحاسية المتغضنة، ووجوه النساء الجميلات اللواتي يتحاورن غير مباليات، ثم قدموا لنا الفستق واللوز القادم من جبال زاغروس طريا ومملحا ..
أصفهان هي آسيا الحقيقية المتكونة من النساء الملفعات اللواتي يسحبن أقدامهن بهيئة لا مبالية ومن الرجال الذين يسيرون في البازارات، ومن الدجاج الذي ينقر الحب في المزبلة، ومن البقرات التي تبحث في العشب عما تبقى من قشور البطيخ.
واصلنا انحدارنا جنوبا، توجهنا نحو شيراز عاصمة الشعر الفارسي، المدينة الشاعرية العظيمة التي ضمت قبر حافظ...وكان علينا أن نتبارك بهذه المدينة المقدسة والتي يسميها القدماء مدينة الشعراء..
قالت معصومة آصفي: إنك لن تكون شاعرا أبدا ..إلا أن تتبارك بها..لن تكون شاعر إلا أن تقول لها:
ها نحن جئناك لنلامس سحرك وشِعْرك وقبر حافظ
يقولون: لا يمكن لأحد أن يصبح شاعرا إلا أن يلامس مياهها العذبة، وهواءها البارد، ويداعب قبابها ومآذنها وأبراجِها. لا يمكن لأحد أن يصبح شاعرا عظيما إلا أن يجلس في مقاهي أرصفتها، ويمسح وجهه بجدران قبر شاعرها، وبصخرتها الكبيرة، وبأسوارها المهدمة، وأن يتسلق تلالها وأبراجها، وأن يستريح تحت أفياء أشجارها...
من مكان بعيد كنا ننظر إلى فنادقها القديمة، وإلى أزقتها المتعرجة، وكنا نميل شيئا فشيئا على أسواقها ومساجدها، وهي تتراءى لنا شيئا فشيئا بقبابها ومآذنها، تتراءى لنا بأزقتها المتعرجة ومداخلها الضيقة ومياهها الوسخة وسكون مقابرها، سكون الماء، سكون الضوء الذي ينسل قويا من سماء صافية، سكون اللهب الذي يشع من نوافذها، من الضوء الأزرق، من البخور الذي يتصاعد من قبر شاعرها... قبر حافظ وهو يداعب وجه المدينة الأبيض المدوّر، يداعب عظام وجنتيها البارزتين... حديقة إيرام، باب قرآن، جامع ناصر الملك، كل شيء هنا مصنوع من هندسة معمارية عظيمة ومن كرم دافئ.
وقفنا أمام قبر حافظ شيرازي منبهرين لا بشعره هذه المرة إنما بالأبهة العظيمة والروحية لهندسة قبره: للحجارة المنحوتة مثل قبة، للقوس الذي ينفتح مثل صعود الروح إلى أعلى، للأبعاد الأربعة التي تشكل انتصاب الأعمدة، للسقف الذي يلمع تحت الشمس وقد أبرزته الهندسة الباذخة، للملمح الرقيق لشعر الشيرازي والذي طبع حياته وقبره، وطبع المرمر الأبيض المبرقش، والخلفية الزرقاء بلون السماء والخضراء بلون التفاح، واللمعة الرقيقة التي تظهر بمرح خلف الأشجار.
كان للهواء عذوبة ساحرة وكنت أشعر بالحياة وهي تغمرني وسط هذا المكان الحي والخصب، كنت أشعر بالجنائن الحقيقية للشعر غير المهدمة منذ مئات الأعوام، الحجارة التي يمكنها أن توقظ فينا شعرا وأفكارا فلسفية..
صعد أحد الحاضرين وأخذ يتلو علينا قصائد حافظ شيرازي من كتاب في يده، أخذ يتلو علينا قصائده الصوفية الغزلية بصوت عذب، بصوت رخيم ومنغم. شعرت بفرح كبير، شعرت بالزهو والانطلاق، شيء أقرب إلى الفرح الذي يحسه المتزلج على الجليد قبل النهاية الرائعة للمنحدر الأبيض.
عدنا إلى شيراز لنزور مرة أخرى آثار بريسبوليس في التلال لقاء تذكاري آخر: الخراب الكبير، مسيرة على طول جدران نقش رستم، الرليف البارز والمفصّل بشكل مدهش لأثيوبيين وليبيين وعرب وأرمن وثيران وأكباش وأسود وجمال. وعلى الحجارة المحفورة تقوس الحواجب، الضفائر المصنوعة من صوف الخراف، التنورات ذات الطيّات، بريسبوليس مقعد الإمبراطورية الفارسية منذ ثلاثمئة عام قبل الميلاد، الموسوعة البصرية للتاريخ القديم، يوم كامل مع حدائق نارجانشتان، مسجد ناصر الملك، مدرسة خان اللاهوتية، قبر حافظ وسعدي، وكيل باب القرآن والسوق. ..لقد أذهلنا الفنّ الفارسي القديم والرائع، تسلقنا جبال زاغروس الرائعة الهائلة ووصلنا بوشهر المدينة العربية القديمة، تجولنا في كنيستها الإنجليزية السابقة، تمتعنا بمناخها الاستوائي الدافئ، وهو أجمل بكثير من المرتفعات الوسطى المتربة الجافّة؛ عمنا في الخليج العربي من جهة فارس وهو الأكثر جمالا ثم عدنا إلى طهران بالطائرة.
في اليوم التالي حضرنا حفلة عرس أحد أبناء الأرستقراطية الطهرانية القديمة...وصلنا قبل الغروب بقليل إلى منزل فخم شمال المدينة، الحدائق الكبيرة مذهلة في تناسقها، وقد أزالت النساء الأوشحة من الرؤوس وارتدين الملابس الجميلة، صعدت فتاة جميلة إلى المنصة وغنت قصيدة جلال الدين الرومي الشهيرة والتي تؤدى دوما في الأعراس:
( شربت النبيذ لوحدك..وأنا أرغب بالمرور عندك، نحن نقود السكارى إلى عرش..فيظهر وجهك اللامع الملوكي...ويضيء اللهب مكاني...كلّ زاوية تضاء بنورك...).
قال حميد: إن المرأة الطهرانية كثيرة العاطفة، وهي رقيقة من المستحيل عليها أن تقاوم المحب أو تقاوم من يحبها...المرأة الطهرانية تبحث عن الرقة الهائلة عن المغازلة والإغراء والإثارة.
المرأة في إيران تتخبط بين عالمين عالم السياسة وعالم المجتمع، وتعيش صراعا ضاريا بين المتطلبات الدينية والحياة المعاصرة، بين التقاليد والانحراف عن التقاليد، والكثيرات منهن يصنعن نوعا من الموائمة الرائعة بين الاثنتين.
جلسنا في الصالات الكبيرة وقد أنارتنا الثريات المصنوعة من الكرستال، وكانت الموسيقى تحرض الناس على التوهج وبلوغ النشوة، ثم سرنا في الحدائق الجميلة بأشجارها الفخمة، سرنا في الحدائق الشاسعة المغمورة بضوء القمر، سرنا بالقرب من حوض سباحة كبير وزهريات تحوي أزهارا نادرة، تحدثنا عن كل شيء تقريبا، عن الشعر والسياسة والحرب والشعر والرواية والثقافة والجمال والحب والنساء، تحدثنا بأسلوب متوهج ورائع .. ، تحركنا في الحدائق الغابية بثقة كبيرة وبمزاج رومانسي شفاف...إن الجمال التاريخي القديم..الجمال الذي اعتقدنا فيما مضى بأننا فقدناه كان مقيما في هذه الصالات السحرية والحدائق الفاتنة الخرافية وكأنها إحدى حكايات الجن، وكانت النساء تتفتح في الليل مثل بتلات التوليب، وبعد أن جلسنا على الصوفا صعدت الموسيقى وبدأ الرقص، بل استمر حتى منتصف الليل، وقبل الفجر قطع العريس الكعكة ونثر والد العروس الأوراق النقدية على رؤوس الحاضرين، ثم رافقنا العريس بعد منتصف الليل إلى منزله الجديد، وعلى صوت الهورنات وصياح الصبايا أنهينا الحفل الجميل.
- V-
قلعة آلموت وأسطورة الحشاشين
Alamut
(حشاشون..مآثر مقتلهم على أيدي الولاة والسلاطين الذين يحملون المصاحف المكية والبيارق، الصيف لا يغرّد على صخرة سمرقند ولا يطرز الوسائد التبريزية في الدواوين، هذا الحسن الصباح ينقش على الرقاع الجلد حريته، بحر يتسلى بخرقته الطويلة الزرقاء عند أقدامه، ويحتضنُ شجاعته، بحر يغرغر عند مسبحته ويلغ بلسانه مسبحة الفقيه حبة، حبة).
من كتاب الحشاشين
أهذه الخرائب القديمة هي آلموت الأسطورية، قلعة الحسن الصباح ...حصن الحشاشين من الإسماعيلية النزارية، الفرقة التي دوخت الحكومات أكثر من قرنين من الزمان، في هذا المكان ربما وقف شيخ الجبل ينظر إلى جنته الصغيرة المعلقة في مكان ما، مكسوة باللون الأخضر ومملوءة بالنساء الجميلات والخمر والحشيش، فإذا ما حان الوقت، استدعى أحد أتباعه وأعطاه خنجراً، وقال له: أذهب لقتل فلان من الوزراء أو الحكام أو القادة، فإذا ما فعلت ضمنت لك هذه الجنة للأبد.
تذكر كتب التاريخ أن ثلاثة من الطلاب الدارسين لدى الإمام موفق الدين النيسابوري، هم عمر الخيام ونظام الملك والحسن بن الصباح, كانوا يدرسون العلوم الدينية واللغة والهندسة والرياضيات والمنطق والعلوم واللغة الإغريقية والفلك على يديه، تعاهدوا على أن من يصل إلى الوزارة من بينهم سيساعد صديقيه الآخرين، وبعد أن صار نظام الملك وزيراً في بلاط الب شاه, طلب الخيام منه مساعدته في شؤونه الشعرية والعلمية، أما الحسن الصباح فقد حاول منافسة الوزير لدى السلطان, لكن المنافسة انتهت بخصومة شديدة, ثم هرب الحسن, وتحول بعد ذلك إلى قائد مشهور من قادة فرقة الحشاشين التي نظمت حملة من الاغتيالات السرية المنظمة للخصوم. وكان أحد ضحاياها الوزير نظام الملك نفسه, وكانت آخر كلماته عند اغتياله, وقبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة هي الشطر الرابع من رباعية الخيام التي يقول فيها: (جئت كالماء وكالريح أمضي).
في الأيام الأولى لم نستطع الوصول إلى قلعة آلموت قلعة الحشاشين، قلعة الحسن الصباح والقتلة المقدسين في الإسلام...أما صديقنا علي الذي أراد إيصالنا هناك كان متعبا جدا وعيناه ناعستان بفعل الإرهاق والألم، كائن هستيري يقف عند القلعة، مؤمن وعيناه مفعمتان بالأسرار، ووجهه يشع كأنما من أعماق كهف بعيد، عيناه الغامضتان تذكرنا بعينين أسطوريتين مليئتين بالأسرار. في اليوم التالي ومنذ الفجر حزمنا أمتعتنا على ظهورنا وعلى خطى ماركو بولو الذي زار القلعة في القرن الرابع عشر الميلادي صعدنا الجبل مع البغال التي تحمل الأمتعة وجليكانات الماء، وقفنا أمام القلعة نبحث عن جنائنها الأسطورية ومكتباتها العامة، قالت معصومة آصفي ...أسطورة الحشاشين هي واحدة من أكثر فصول التاريخ غرابة في العصر الإسلامي الوسيط، ولم يكن أحد من الواقفين هناك يؤيد الأساطير الغربية أو الإسلامية عن تكونها ونشأتها وأساليبها السياسية...
تقع قلعة آلموت بين التلال القاحلة جنوب بحر الخزر قرب قزوين، وتبعد أكثر من مائة من الكيلومترات عن طهران شمال إيران المعاصرة، ولها نظام ري غريب جدا، فقد شيدت القلعة بارتفاع ألفين ومئة متر أعلى جبال البورز، على مضيّق حافته الحادة على قمة صخرة عالية في قلب الجبال وتسيطر على وادي مرفق طوله خمسة وعشرين كيلومتر طولا، في طريق يضيّق ويلتف بصورة مخيفة، مقتربا من نهر آلموت، وكان علينا أن نتدلى على المنحدرات الشاهقة، ولذا فإن الصعود إليها كان شاقا جدا، فهنالك من جهة طريق واحد يقود إلى القلعة مما جعل فتحها أوان ذاك شاقا، وهنالك وعورة الطريق الحجري الذي يصعب اجتيازه بسبب التخريب الذي أحدثته حملة هولاكو في القرن الثالث عشر، كما أن الزلزال قد أتلف ما تبقى منها...
بعد أيام توجهنا إلى نيسابور...تغدينا في مطعم شعبي صغير، ثم توجهنا إلى مقبرة المدينة لزيارة قبر الشاعر عمر الخيام ...
قالت معصومة آصفي لن تكون سعيدا في الحياة وفي الحب والشعر دون أن تزور قبر مولانا عمر
فوقفنا خاشعين على القبر الذي يصعد متلويا إلى الأعلى مصنوعا من المرمر الأبيض والمينا الزرقاء المرسومة على شكل أوراق شجر، وطبقا للخواجة النظامي السمرقندي الذي كان تلميذاً للخيام, في كتابه (جهار مقالة) الذي أخذ منه فيتزجيرالد، أن عمر الخيام قال مرة أن قبره سيكون في مكان تهب عليه النسائم الشمالية وينتشر فوقه الورد والزهر, وكان النظامي يستغرب ما قاله الخيام, ومرت سنوات طويلة بعد أن سمع عن موت الخيام فعزم على زيارة قبره في نيسابور بعد ثلاثة عشر عاماً من موته, فوجد قبره إلى جانب سور حديقة مهجورة, وقد تدلت أغصان الأشجار فوق القبر ونثرت عليه من ثمارها وأزهارها حتى غطت أحجاره.
وها نحن واقفين أمام القبر الذي تحوم فوقه أسراب الطيور وتلقي بذروقها فوق رؤوسنا، إنه فأل الخير في النساء وفي الشعر، فمن تذرق عليه الطيور أمام قبر مولانا عمر، فأنه إما سيصيب قصيدة جميلة أو يحب امرأة جميلة...هكذا يقول الإيرانيون.
في الطريق شاهدنا الأبراج الزرادشتية الصامتة في يزد، جسور أصفهان والهندسة العظيمة لجامع الإمام، وفي منتصف الطريق بين مشهد وكرمان، كان الفضاء مفتوحا، والحافلة تقرقع على الطريق الخرب، فتوقفنا تحت شجرة جوز وشجرة توت، وكانت السماء بلون اللبن، ثم صعدنا إلى تلّ كان يخفي وراءه معبد نار زرادشتي قديم يعود إلى القرن الرابع الميلادي، وقد رافقنا أطفال قدموا من القرية المجاورة، طفلة صغيرة تضع خشخاشا برتقاليا في شعرها جلست إلى جانبي بابتسامة تعصر القلب، وكنا ننظر -أنا وإياها- على طول الطريق أشجار الفستق المثمرة، والنساء القادمات من السوق وشاحنة طماطة مقلوبة على الطريق...ثم شربنا الشاي من السماور وأكلنا الفاكهة المجففة.
كل شيء في طهران منفتح على شكل لا نهائي وغير محدود، الشوارع الواسعة والكبيرة، الأشجار الضخمة، المنازل المتسعة والتي لا حدود لها، الثراء الفاحش، والفقر المريع...وما يميزها أيضا هدؤها العظيم، والصبر والطاقة التي جعلتها قادرة على امتلاك الحياة، بل جعلتها قادرة على تجاوز العقبات والانتصار عليها...طهران تمر بمرحلة خطرة، متذبذية، بين تقليدها الجامد وبين تحولاتها المعاصرة، الحياة القديمة وجوهرها والحياة المعاصرة ومخاطرها، امرأة حائرة تسير خفيفة في الربيع النامي المزدهر، تستمع إلى أصوات جديدة، وإلى أنفاس بهيجة جديدة، الثقافة في كل مكان والكتب في كل مكان، والقراءة في كل مكان أيضا، في الباص، في الحدائق الكبيرة، في المنازل، وفي باحات المساجد...ولكنها لا تجد طريقها، هناك من يدعو إلى الإسلام..وهناك من يدعو إلى تركه، هناك من يدعو إلى الغرب، وهناك من يخشاه...طهران عالمان متناقضان...عالم من الخرافات والاختلاقات والأساطير، وشعب يعذبه عالم قديم بعفاريته الخبيثة وأعاصيره، عالم يدير ظهره للحاضر ضائعاً في زمن قديم، وعالم معاصر..منذور للحياة وللمتع الكبيرة، وللملذات الحسية ومنذور للجنس والحب والجمال، وكلا العالمين غير المتصالحين يؤمن بطرق غير مرئية، وحياة روحية قرمزية لا يناوئها، ويعرف أمام الشدائد كيف يبتسم.
التعليقات (0)