رائحة المطر تنبعث من كل مكان، وحباته المدببة تكاد تخترق نافذة المقهى الحقير الذي ادمنته منذ شهور، والشوارع انظر اليها فارغة غادرها المارة.. فالجميع هربوا الى حيث اللامطر وتركوا خلفهم وقع خطى متسارعة، وصوت لهاث متواصل، وبقايا اثار اقدام سرعان ما تتلاشى " لا اعلم لماذا يهرب الجميع من المطر؟!".
(( في تلك الزنزانة النتنة كم تمنيت لو اني اخرج وأقف عارية تحت المطر..استغرق في ذلك طويلا علني اغسل ما علق بجسدي من درن))
مصابيح السيارات تختفي من الشارع، وكذلك تفعل باقي الاضواء اذ اراها تتمزق بين حبات المطر النازلة بحماس شديد"ترى كم يكفي من المطر ليغسل جميع هذه الشوارع، وكل هذه الاجساد؟!".
عامل المقهى اخذ يلملم اشياءه، ويرتب ما بعثره الزبائن على مدى يوم ثقيل..ولم يعد احد في المكان سواي وسوى ذلك الرجل الذي مازال صامتا منذ التقيته قبل شهر تقريبا..لا اعلم لماذا يكتفي بالتحديق بي من دون ان يقترب مني، ولا اعلم لماذا هو منشغل بأمري الى هذا الحد؟ ما الذي يغريه بامرأة يتقاسم وجهها تعب مقرف وندبة عريضة قذرة ؟!
العامل بدأ يطفيء الانوار الواحد تلو الاخر، فلم يبق امامي سوى ان اغادر..ان اخرج الى الشارع واجر قدمي ببطء كمن يجر خلفه جثة رجل بدين ..
السماء مازالت تبكي، والاشياء من حولي لا اسمع لها صوتا او حركة.. العالم باكمله احسه يمضي نحو سكون مرعب..مشيت بضع خطوات فسمعت وقع اقدام تتخبط خلفي .. التفت ورائي فلم أرَ شيئا..مضيت في طريقي وتمتمت في داخلي: اي شيء تخشاه امرأة مثلي فقدت كل ما تملك في مكان ما من هذا العالم لاتعرف اين يكون؟!
المطر يزداد ضراوة والمسافة الى غرفتي ( القبر ) لم تعد طويلة..ها انا ذا اتسلق السلالم وافتح الباب واتجه صوب النافذة..افتحها بسرعة...ثمة من يراقبني..نعم، ثمة رجل يقف تحت عمود النور يحدق بي من بعيد..انه رجل المقهى..انه الرجل الصامت..
((ليلى..احذري فالسجان يحدق بك.. يبدو انه يضمر لك شرا..لا تطيلي الحديث معه..حاولي الاجابة عن اسئلته بسرعة))
يا لغباء هذا الرجل يكلف نفسه عناء كل هذه المسافة ويسير خلفي في ليلة ممطرة لينظر الي من بعيد..وحينما اكون جالسة امامه في المقهى يتصرف معي كصنم..
المطر يزداد غضبه، والرجل يختفي فجأة.. ربما لم يكن هناك اي رجل..ربما كنت اتخيل ذلك ليس الا..
(خالد..كم تمنيت لو انك تقف اسفل نافذتي كل ليلة..تنتظرني لاخرج عليك بملابسي البيضاء.. ثم ترمي الي رسالة اطويها تحت وسادتي واغفو بسلام..
ماذا دهاك ياليلى.. نحن في العام 1990 ؟!
الحب لايفهم لغة الاعوام، والسنوات..
كوني اكثر واقعية ياحبيبتي)
سحبت ادراجي واتجهت صوب الفراش، واستغرقت افكر ماذا سافعل الليلة كي انام بسرعة من دون ان تراودني تلك الكوابيس" لم اعد افهم كيف يرى الانسان كوابيسه وهو يقظ؟!"
((ليلى..ليلى استيقظي..
- ومن قال لك اني نائمة؟
- ولكنك تهذين بصوت عال.. خلت انك نائمة..
- في هذا المكان الحقير لا تقوى نملة على النوم..
- هل تسمعين ،انها تمطر في الخارج؟
- هه..وما الجدوى من ذلك كله..هل تخال السماء بانها قادرة على غسل كل ما على الارض من قاذورات؟!
- كفاك كلاما بهذه الطريقة.. انك تعذبين نفسك دونما جدوى..
- اليس هذا اقل ما يجب ان افعله، الم يكن الاحرى بنا ان نكون ميتين مثل الاخريات ؟ آه كم اتمنى ذلك.. كم اتمنى لو اني ميتة الان حتى لااكون قاذورة اقبع هنا في هذه الزنزانة اندب حظي وابكي عذريتي المنزوعة بقوة السلاح .
- ولكن...
- ولكن ماذا؟.. اسمعي يارفيقتي التعسة.. الاخريات كن اكثر شجاعة منا.. علينا ان نعترف بذلك))
القيت بجسدي المنهك على السرير..ووجه ذلك الرجل الصامت لم يبارح مخيلتي..ترى لماذا لا يتحدث الي مثلما يفترض باي رجل تثير اهتمامه امراة؟! ما الذي يبقيه صامتا؟.. يالحظي العاثر.. بعد عشرة اعوام احالتني الى شبه إمرأة التقي رجلا ابلها لا يجيد سوى الصمت..
غدا عندما اذهب الى المقهى ساقترب من طاولته واجلس معه واتحدث اليه.. ولكن ماذا لو سائلني عن هذه الندبة كما تفعل مرآتي الصلفة كل صباح؟ بماذا ساجيبه ساعتها؟ هل اخبره الحقيقة؟ هل اقول له ان ذلك السجان القذر ضربني على وجهي باخمص مسدسه وشق جبيني الى نصفين ثم طرحني ارضا واطلق رصاصة الرحمة على عذريتي ؟
(( ليلى كفاك بكاءً ..
- لقد حاولت ان افعل مثلما فعلت الاخريات.. الا انني ضعفت في اخر لحظة.. خذلت بكارتي، وتآمرت على كرامتي.. كان يجب علي ان انتحر.. ان اثأر لعذريتي المنتهكة..
- وبماذا ينفعك كل هذا الان؟.. كفاك ياعزيزتي..))
( كم تمنيت ياخالد لو انك تفكر ثانية قبل ان تتخذ قرارك.. كم راودني شعور بانك ستتراجع في اخر لحظة.. الا انك كنت مصرا على الهرب.. لقد ادركت مبكرا ان لا جدوى من الاستمرار مع فتاة تترصدها عيون رجال الامن في كل مكان )
المطر يتواصل، ورائحته تملأ المكان وتتسرب الى خلاياي مثل رطوبة.. انهض من سريري واتجه صوب النافذة.. اجول ببصري في الشارع.. لاأحد هناك سوى مزيد من المطر والعتمة..انظر الى السماء متمتمة: عبثا ما تحاولين فالقاذورات اختبأت في جحورها كما تفعل الفئران، ومطرك لا يقوى على اختراق الجدران مهما أوتي من قوة..
اعود الى الفراش ثانية.. اغمض عيني.. ارى رجل المقهى ينهض من مقعده ويتجه صوبي.. كان الرجل الصامت مبللا.. يبدو ان حبات مطر كثيرة علقت بجسده.. يقترب اكثر.. وسرعان ما يندفع من نافذتي المفتوحة تيار هواء مثقل برائحة المطر.. انهض من فراشي.. اراقب الاشياء.. ابحث بينها.. لا وجود بينها لرجل المقهى.. ليس من احد سواي..
(( الرطوبة تطبق على صدري وتكاد تخنقني، ورائحة الاجساد المتفسخة كجثث تحيل الزنزانة الـى قبر، وقهقهة السجان التي تشق الصمت تكمل اللوحة السوداء قسوة ورعبا "لا اعرف كيف تختصر الاجساد نفسها في هذه المساحة الضئيلة من الكون ؟ لا اعرف كيف تتسلل الحياة الـى هنا متجاوزة جميع حواجز التفتيش ونقاط الحراسة واجهزة المراقبة المتطورة؟".
جبيني عاد يؤلمني ،والصداع في رأسي يكاد ينفجر، وجسدي اشعر به يتلاشى.. يذوب في بعضه ويمتزج مع غبار الجدران التي تطوقني من كل جانب..
- ماذا تفعل هنا ايها الحارس؟
- لا شيء سيدي.. كنت اطمئن ان لااحد من السجينات تحاول الهرب..
- وكيف يهربن ايها الاحمق.. كم مرة نبهتك ان لا تتلصص عليهن.. هيا اطفيء انوار( العنبر) وامضي الـى واجبك..))
عقرب الساعة يزحف مثل سلحفاة مشلولة الاطراف.. والليل لايقوى على الانصراف.. وجميع الاشياء ساكنة الا المطر مازال يهطل بتهور وعصبية..
( المطر شديد هذه الليلة..
كم اكره المطر..
ولكنه يا خالد..
ولكنه ماذا؟.. اشعر ان السماء تسخر منا في كل مرة تمطر فيها.. انا اكره الامور التي لا استطيع فعل شيء حيالها.. اكره ان ابقى محنطا في مكاني لايام ربما لا لشيء سوى لان المطر يهطل بضراوة والشوارع تبتلع ماءه دونما اعتراض.. ارجوك لا تحدثيني عن المطر ثانية..)
كم كنت تكره الكثير من الاشياء يا خالد، وكم كنت احاول ان اكرهها مثلك الا انني فشلت في ذلك مثلما فشلت بان اكرهك.. بان اتركك خلفي هناك في تلك الزنزانة مع ذكريات نقشتها على الجدران ورفات بكارة لم اتمكن من دفنها حتى..
الساعة تقترب من التاسعة صباحا، والنافذة اسمعها تبتلع اصوات السيارات والناس وتتقيئها عند اذني.. نهضت من فراشي مسرعة.. التفت نحو مرآتي الصدئة.. لم ابال بتلك المرأة (المسخ) التي تطالعني بابتسامة خبيثة كل صباح.. ارتديت ملابسي واتجهت الى حيث المقهى..
المكان يزدحم بالزبائن، واللغط يتصاعد بين ارجائه، والرجل الصامت كالعادة جالس الى طاولته لايكلم احدا..
نعم سيدتي؟
احضر لي فنجان شاي وقليلا من الخبز..
حاضر..
اسمع.. اريدها هناك عند طاولة ذلك الرجل..
ولكنه..
بسرعة ارجوك..
استجمعت كل قواي واتجهت نحوه..
صباح الخير
......................
هل تسمح لي بان اشاطرك الطاولة؟
......................
لماذا تنظر الي.. هل تخجل من الحديث معي؟
......................
عفوا سيدتي لقد احضرت لك ما طلبت.. ولكن افضل لو انك عدت الى طاولتك هناك فصاحب المقهى لايرغب بان يشاركه احد طاولته.. ثم انه لايستطيع رؤيتك او سماعك.. انه اعمى واصم.. حدث له ذلك منذ ثلاثة عشر عاما تقريبا..
التعليقات (0)