لكي لا يتم الخلط بين عوالم مختلفة ومتناقضة في أساليبها وأهدافها وطريقة عملها، وضع المشرعون في كثير من الدول المتقدمة حضاريا، مجموعة قوانين وضوابط وحدود بين ان يكون الإنسان رجل دولة وسياسة وإدارة عامة ومال مشترك، وبين ان يكون مستثمرا او تاجرا او بقالا يعمل من اجل تلك المهن وأهدافها الذاتية البحتة.
وقد وضعت لأجل ذلك منظومة من الآليات التي تحصي وتجرد وتثبت أموال وممتلكات الشخص الذي يتبوء مسؤولية عامة رفيعة كانت او صغيرة، مع تعهدات تحد بل وتمنع بشكل واضح وقاطع أي ممارسة تجارية او مالية او بقالية او سمسرة لأي جهة كانت مستغلة موقعه او من خلاله او حتى وهو يحمل صفة عامة في الدولة، لكي يتفرغ تماما كرجل دولة يثق به الناس ويقتنعون ببياض يديه وقلبه وعقله، لا أن يكون بقالا او دلالا او تاجرا او سمسارا وهو في ذات الوقت مسؤولا كبيرا كان أم صغيرا؟
وفعلا انتظمت الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في تلك الدول التي لم تخلط بين المال العام والجيب الخاص، فتقدمت وتطورت وغدت مثالا وقدوة للعالمين يحج اليها الجميع بمن فيهم من يكفروها ويعتبرونها من بلدان الشياطين والامبرياليين، وأصبحت مثلا يحتذى به من الجميع حينما أصبح القانون يسود بلدانهم بدلا من المحسوبية والمنسوبية والعقلية العشائرية المقيتة التي لم تنتج الا ما وصلت اليه بلداننا.
صحيح ان بلادنا مرت خلال العقود المنصرمة بحروب وحصار جائر ادى الى هبوط المستوى المعاشي بشكل خطير دفع الموظف وغيره الى العمل في عدة مجالات لكي يسد احتياجات أسرته إزاء التضخم الكبير الذي عانت منه البلاد وتقهقر صرف العملة المحلية إزاء العملات الأجنبية، وتدهور المستوى المعاشي الى ما تحت خط الفقر، الا ان التغيير الكبير الذي حصل في مستوى المعاشات ودرجاتها والذي وصل في كثير منه الى ما يقرب العشرة اضعاف قياسا بالمرتبات التي كانت تدفع عشية سقوط النظام السابق، ومع ان ذلك ادى ايضا الى تضخم الا انه رفع بشكل ملحوظ المستوى المعاشي لمعظم الموظفين وغيرهم، مما جعل ازدواجية العمل غير مقبولة على الأقل للدرجات العالية في العمل الوظيفي والإداري في مفاصل الدولة التي تعاني اليوم من تحول الكثير من مسؤوليها الى رجال اعمال وسماسرة واصحاب بانزينخانات وفنادق ومطاعم وتسخير دوائرهم ومؤسساتهم لخدمة تلك المصالح التجارية الخاصة، وربما لا يفاجئ المرء حينما يرى وزيرا مسؤولا عن الهواء مثلا يقوم بإفساد الهواء وإيقاف الريح لكي يتم شراء الهواء المنتج في معامله المسجلة باسماء شتى، وكذا الحال مع وزير الماء (!) الذي يوقع عقودا لاستخراجه وتصفيته وبيعه خارج الأنهر والبحيرات والينابيع المعروفة دون ان يشعر به أحدا!؟
وهكذا نرى الكثير من العاملين في القطاع الحكومي والنيابي ومن حولهم من الأقرباء والأصدقاء منهمكين في إدارة أعمالهم الخاصة بعد الدوام، علما بأن الكثير من ساعات الدوام ايضا مسخرة لخدمة تلك المصالح سواء منهم مباشرة او من خلال أبنائهم او أقاربهم أو حلقات ( اللغف ) من حولهم من البطانات والطفيليات؟
ويسألون بعد كل ذلك:
التعليقات (0)