رجاء النقاش.. في ذكرى رحيله
خليل الفزيع
في الثامن من فبراير عام 2008 رحل الناقد الكبير رجاء النقاش، وبرحيله ترك فراغا كبيرا في واقع أدبنا العربي المعاصر، وخاصة في مجال النقد الأدبي الذي مارسه في وقت مبكر من حياته الأدبية، ومنذ ذلك الحين لفت إليه الأنظار بما أضافه للنقد العربي من سمات لم تتكرر لدى غيره من النقاد العرب، وفي الذكرى الثانية لوفاته نستعيد شيئا من ملامح تلك السيرة العطرة التي عاشها الراحل، وكانت حافلة بالمنجز الثقافي المتميز، وفي مواقع عمله المختلفة منح الكثير من العطاء الذي لا يحد، ولم يبخل على من عملوا معه بإتاحة الفرصة لهم لإبراز ما يملكون من مواهب، انطلاقا من إيمانه الكبير بأن الكفاءات القادرة على العطاء لا بد أن تمنح فرصتها لتطوير قدراتها الإبداعية، وانطلاقا من إيمانه الأكبر بالقومية العربية استطاع بتوجهه القومي النبيل أن يمد ظلاله إلى بلاد عربية أخرى لاكتشاف مواهب بعض أدبائها فقدم لقراء العربية أبا القاسم الشابي من تونس والطيب صالح من السودان وشعراء المقاومة من فلسطين وكلثم جبر من قطر وغيرهم.
وكما لم يبخل بإبداعه النقدي على أبناء العروبة، لم يبخل أيضا على البلاد العربية بالعمل فيها، وكان وجوده في قطر نقطة تحول في تاريخها الثقافي عندما تحولت مجلة "الدوحة" في عهده إلى منبر حر تبارى على منصته أدباء العروبة من كل الأقطار العربية، كما تحولت إلى مشروع ثقافي قومي لم يتكرر في أي بلد عربي آخر، وفي قطر قرب إليه كل الموهوبين ومن توسم فيهم القدرة على العطاء الأدبي والثقافي، وترك في نفوس من عرفوه ذكريات تعبق بالحميمية وتتميز بالشفافية وتتسم بالتعامل الإنساني الكريم، وهكذا كان رجاء النقاش.. كريما في أخلاقه كما كان كريما في عطائه.
وكان ذا ذائقة أدبية وفنية رائعة يستهويه الإبداع الجميل، ويكتشف بسهوله ما فيه من أسرار الإبداع وملامح الجمال، وبقدر ما كان يحترم أصحاب المواهب القادرة على العطاء الأدبي والفني.. لم ينظر إلى غيرهم من أصحاب المواهب المتواضعة بشيء من الاستخفاف أو عدم المبالاة، بل حرص على توجيههم التوجيه المناسب تاركا للزمن مهمة الحكم لهم أو عليهم، فلم يحرمهم من فرص تكرار المحاولة والتجريب، دون قمع أو إهمال لعل منهم من يثبت وجوده في عالم الأدب، وأكاد أجزم أن كثيرين لا زالوا يرددون القول: لولا تشجيع رجاء النقاش لما عرفنا كأدباء أو صحفيين.. وهو في الصحافة كما في الأدب قريب إلى قلوب من عملوا معه، ولم يكن يفرق في تعامله الأخوي الحاني بين محرر كبير وبين فراش صغير، فالجميع كانوا آمنين تحت مظلة إنسانيته، مستمتعين بوافر عطفه ولين جانبه كما عفة لسانه وقلمه.
وشخصية رجاء النقاش تستمد ألقها وحضورها المهيمن من عمق تفكيره وابتسامته الدائمة في وجه خطوب الدنيا وملماتها وأزماتها، ولم أره يوما متبرما أو حانقا أو حاملا ضغينة ضد كائن من كان، بل أن خصومه ومن اختلفوا معه في الرأي.. لم يجدوا منه سوى سعة الصدر، ورحابة القلب والحوار المبني على احترام الآخر، لذلك كانت الصحف التي تولى الإشراف عليها في مصر وفي الدوحة ميدانا لأصحاب الرأي على اختلاف توجهاتهم الفكرية والمذهبية، فلم يتحيز لرأي دون سواه، ولم يناصر فريقا دون غيره، وهذا هو سلوك الكبار في تفكيرهم وفي أساليب تعاطيهم من الفكر والثقافة والناس.
رجاء النقاش سيظل قامة شامخة يضفي عليها الزمن ـ كلما تقدم ـ المزيد من هالات التقدير والإكبار ليظل في أذهان الأجيال ذلك العلم الكبير في مماته كما هو في حياته، ولقد أحسنت وزارة الثقافة بدولة قطر صنعا عندما قررت إعادة طباعة بعض مؤلفاته بمناسبة إعلان الدوحة عاصمة للثقافة العربية لعام 2010وفاء له ولعطائه الأدبي والإعلامي لهذه الدولة الفتية ولعالمنا العربي والعالم.
التعليقات (0)