ربيع الثورات العربية يضيع (بين الخيط الابيض و الخيط الاسود) في واقع المؤسسات العسكرية.
قد يكون من الخطأ القول ان ربيع الثورات العربية قد بدأ, فالواقع الذي تمر به الثورات العربية يظهر انها في فصل الخريف الذي تتعرى فيه الحكام لتسقط عنهم اوراق التوت الهشة الصفراء, وتكتشف حقيقتها في انه قد مضت مدة صلاحيتها, ويظهر من وراءها من العقول المدبرة التي كانت تعيث في البلاد فسادا وخرابا وليظهر حقيقة المشهد المطلوب مواجهته من قبل الشعوب من اجل نجاح الثورة التي من الواضح انها ستمر بشتاء قاسي قبل الوصول الى الربيع المنشود.
هذا هو المشهد الغائب الذي غاب عن اذهان اغلب الثوار في البداية ,فهم حسبوا ان تغيير النظام واسقاطه يكون في اسقاط الوجه القبيح الذي يتمثل في رأس النظام لأغلب حكومات الدول العربية , بينما في الحقيقة ان هذه الحكام ماكانت لتتجرأ وتستمر في ايذاء شعوبها من دون خلفية تحميها وتمدها بالزخم الذي تحتاجه لتلك الفعلة الشنيعة , وهي العقلية العسكرية الحاكمة والتي غيرت من جلدتها وطريقة تعاملها لتستوعب النقلة الثورية ضمن مفاهيمها وتصوراتها البعيدة عن واقع الشباب الثوري المعاصر, ومن سخرية الحدث ان تلجأ هذه الشعوب الى الجلاد لانقاذها من براثن الطغيان.
لقد بدأت النخبة العسكرية السابقة المتحكمة في رقاب الشعوب العربية الى تكريس الواقع الموجود سابقا قبل البدء بالثورات من خلال تثبيت الوقائع الموجودة في العصر البائد كحقائق على الارض لابد من التعامل معها من اجل الوصول الى الربيع المزعوم , كحقيقة وجود دولة اسرائيل والاعتراف بها, الى حقيقة التعامل مع الغرب لنهب ثرواتنا وتدمير بلادنا كواقع لابد منه واختيار أهون الضررين لاننا نحن الحلقة الاضعف وذلك تحت مسمى الحفاظ على المعاهدات والاتفاقات الدولية السابقة لنظام العصر البائد , ولعل خير دليل على ذلك هو وجود عمر سليمان مدير المخابرات المصرية السابق وراء الكواليس في مركز مقرب من السلطة المصرية ليقوم بالشهادة على رأس النظام القديم واكمال الدور المطلوب منه.
ان المرحلة التي تمر بها الان الثورات في ليبيا واليمن وسوريا هي في اعطاء الفرصة للطغمة العسكرية الحاكمة (التي اسند اليها حماية الثورة) للتكيف و تغيير جلدتها لاجل خداع الشعوب وتمرير المخططات التي يريدها الغرب من خلال اضعاف البنية التحتية للبلاد وتدمير مقدراتها لكي ترث الحكومات الثورية تركة بالية تجبرها على التعامل مع الغرب بالطريقة التي يريدها هو.
فالغرب الذي انتفض لدعم الثورات العربية ضد حكوماتها هو الذي اسس لهذه الحكومات الديكتاتورية وتعامل معها ودعمها ضد شعوبها في الفترات السابقة .والان انتفضت فيه النخوة الانسانية من اجل نصرة المظلوم في سورية وليبيا ومصر واليمن وتونس دون العراق وافغانستان التي قتل فيها الاف الابرياء اما بطائراته او داخل سجون ابو غريب وغيره, وكانه نسي تعامله مع النظام الهمجي الوحشي السوري في ارسال السجناء من سجونه السرية لتعذيبهم واخذ اعترافاتهم بالطريقة التي يبكي عليها اليوم من خلال مشاهد الفيديو التي نراها ونبكي لها دما كل يوم تمر به الثورات العربية.
لقد افاق الغرب من ردة الفعل ومن الصدمة التي جعلته اولا يقر بحق الشعوب في اختيار حكامها من خلال الثورات التي قامت بها الشعوب العربية والتي تحمل براءة الاختراع في ظل العولمة التي يحاربوننا بها , فتحرك الى دور انشاء الفعل من خلال اعوانه في المنطقة العربية لتكريس العبودية مرة اخرى من خلال تغيير الاوجه لهذه الحكام وتبديل العصا بالجزرة.
ان المطلوب من النخب العسكرية العربية من وجهة نظر الغرب الان ان تقوم بالاشراف على الواقع السياسي ولتقوم بتوجيه الاحداث ولتكون الحارس المزيف الامين للثورة, وهذه مرحلة لابد منها من اجل تسييس الثورات ولعدم خروجها عن مصالح الغرب, ولكي تمر الحركات الثورية بمرحلة انتقالية تبتعد فيها عن مرحلة السياسة الايديولوجية الى مرحلة السياسة البرغماتية كما في اغلب الدول الاخرى الغير عربية كتركيا والتي قطعت شوطا في مجال تاسيس مؤسسات الدولة المدنية لتكون اساسا في تطوير العمل السياسي و تكوين دولة مدنية متقدمة.
اما المطلوب بالنسبة لنخب الثورات العربية في مرحلة شتاء الثورات فهو الرقابة و التاسيس مستقبلا لوجود نخب عسكرية حيادية تحمل مفهوم القطيعة المعرفية ومخلصة ووطنية( تحررت في داخلها) تقود المؤسسات العسكرية بحياد و تلتزم بالحفاظ على امن الوطن من الاعتداء الخارجي والحفاظ عليه ايضا داخليا من تجاوزات النخب الحاكمة التي غالبا ما تخضع لسيطرة الاسر الطائفية او العائلية في الدول العربية وبالتالي التحكم في مقدرات البلاد والعباد والعودة الى عصر العهود الوسطى في نشوء الدول التي تتحكم فيها العصبيات كما يذكر ابن خلدون.
ومن طرف اخر ان هذه المهمة صعبة لان اغلب المجتمعات العربية ترجع في تركيبتها الى مجتمعات العصور الوسطى والتي لم تتطور بعد في مجال الدولة المدنية (حتى بعد تاسيس الجمهوريات التي تحمل تعريفا خاصا بها والذي يتمثل في تداول السلطة) وتحولت الى جمهوريات وراثية صبغناها بصبغتنا الدكتاتورية الخاصة بنا ولنخترع الجمهوريات التي تحمل صفات الرئيس الابدية والسرمدية ولينادي مناصرو الرئيس (محل مابتدوس نسجد ونبوس ).
ومن المفيد هنا بحث تطور الدولة المدنية في تركيا والتي وصلت الى الوضع الحالي الذي يقوده اردوغان وما يدعى بالاسلاميين الجدد.
عندما قام اربكان رحمه الله بالمسيرة المليونية في قونيا عام 1980 تأكد للعسكر ان هناك ثورة اسلامية قد اينعت وقد اقترب قطافها فقاموا بعمل الانقلاب العسكري الذي اخر وصول الاسلاميين الى الحكم حوالي ثلاثين سنة وكان الهدف خلال هذه الفترة تسييس الحركة الاسلامية وابعادها عن العنف, وكان على الاسلاميين ان يغيروا من تركيبتهم ليناسبوا الدولة المدنية من طرف وتقبل الامر الواقع في السياسة العالمية في التعامل مع الغرب وفق قوانينه هو, والتعامل مع اسرائيل من خلال الاعتراف بوجودها والاستمرار في تطبيع العلاقات مع اسرائيل.واستمرت هذه المرحلة حوالي سبعة عشر عاما استلم في نهايتها اربكان الحكم ووجدوا ان الحال لم يتغير, فقاموا بانقلاب ابيض اخر, الى ان استوعب الاسلاميون الدرس فاتجهوا الى تاسيس الدولة المدنية بعيدا عن الدين وكان بعد ذلك وصول الاسلامين الجدد والتي يعتبرها الغرب تجربة رائدة فتحت الافاق امام ظهور اسلام سياسي جديد يمارس السياسة البراغماتية بعيدا عن الايديولوجيات ,بالاضافة الى تنظيف الجيش من العناصر الغير وطنية.
ان على الثورات العربية ان تعي هذا الدرس ومحاولة الاستفادة من التجربة التركية وهذا ماحصل في زيارة وزير الخارجية التركية لمصر مباشرة بعد الثورة واجتماعه مع الاخوان المسلمين والقيادات العسكرية لشرح تجربة تركيا واخذ الفيزا من امريكا والغرب في التحرك في انشاء الدولة المدنية بعيدا عن الايديواوجيات والاعتراف بقوانين لعبة الامم للاستمرار في الثورة ,
كما ان على الثورات ان لاتخاف من التيارات السياسية الموجودة على الساحة السياسية فإن الديمقراطية ستدفع بالتيارات الإسلامية نفسها إلى التطور والتوافق مع حركة الواقع ومع متطلبات نضج وعي الجماهير لتصبح كما في المثال التركي وما بعده ولتتجاوز جميع النماذج المسبقة التي نتوقعها لها والتي نقيسها على ما صدر من أخطاء فادحة للتيارات الإسلامية خلال فترات تفاعلها مع النظم الاستبدادية السابقة.
لذا فالمطلوب هو مساعدة هذه التيارات على النضج وليس اقصاءها وليس الحجر عليها وليس التعامل معها بنفس الأجندة القمعية التي صنعتها النظم الاستبدادية لأن في هذا خطورة نعرفها جميعا.
وعلى الثوار ان يتجاوزا دولة الايديولوجيات لينطلقوا الى منطق الدول التي تبنى على اساس العولمة, لذا فانه في عصر العولمة, الدولة المدنية والدينية ليست هي منتهى الأمل فيه بل هي مراحل ينبغي تجاوزها باستمرار وبشكل مرحلي يهدف إلى الوصول الى بناء توافق بشري لا تحده حدود تقليدية مثل الأديان أو القبائل أو الألوان ولا تحده حدود بشرية مثل الجنسيات أو الطبقات.
وربما المأمول هو مجتمع بشري كوني يمتد بامتداد الأرض كلها دون حدود .. وربما ينطلق من العولمة كبذرة (مع استبعاد شراستها واستغلاليتها المعاصرة)
اما بالنسبة للمؤسسة العسكرية فانه لابد من التعامل معها كواقع لايمكن تجاوزه ريثما يتم تاسيس الاطر المدنية للدولة القادمة التي تحدد العلاقة بين الجيش والدولة بشكل يضمن حياديته لتكون الحاكم الفصل في التنسيق بين عناصر الدولة المدنية .
واما بالنسبة للنخب فان عليها ان لاتلجأ الى المبدأ القائل بأهون الضررين في الترجيح بين الخيارات السياسية المطروحة امامها وان تعلم ان التغيير لايتم بالترقيع, وان السيوف التي اكلها الصدأ لايمكن تجديدها, وان عليها ان تختار الحلول الصعبة التي تحفظ مستقبل الامة ولو كان على حساب دمائها وارواحها ,فالمهام الصعبة لاتدرك وتصل اهدافها الا اذا سال على جوانبها الدم .
امر اخير يجب ادراكه للوصول الى ربيع الثورات في تجاوز مرحلة الخطر الذي يداهمها وهو ظهور فن سرقة الثورات وتحريرها من الابداع، ومحاولة تحويل مطالب الثورة إلى مشاكل إجرائية أو تمثيلية أو "لجانية" (من فن تكوين اللجان) أو استبدالية أو تعويضية تتطلب "اختصاصا" أو مستوى "تكنوكراطيا" معيّنا، لا يملكه "الشباب" الابداعي المنتفض، بوصفه يبقى "قاصرا" عن اختراع الشكل المدني المناسب لحريته والذي يحتاج الى زمن ووقت لكي يقوم بافرازه من داخل هويته الجديدة . ولذلك علينا أن نحذر من تحويل الحرية إلى "اختصاص"، نستورد له فنّيين مختصين عاشوا في الغرب نأتي بهم لتعليم شعوبنا كيف يتمدّنون بعد أن تحرروا بشكل مفاجئ وجديد لايعرفه الغرب لانه لم ينتجه .
التعليقات (0)