رامبرز والبحر
حينما قرأ همنغـواي ما كتبته مجــلة ( اكسلسيور ) الكوبــية عن روايتــه ( الشيخ والبحر ) تملّكَ همنغواي الغضب . رفض ( المقابلات ) . سافر في اليوم نفسه إلى قرية ( كوجيمار ) حيث يسكن الصياد ( رامبرز ) الذي حاورته المجلة الكوبية عن لقائه همنغواي وإدلائه بمعلومات غير صحيحة ، وقد حمل همنغواي معه جهاز تسجيل توخياً للدقة ودحضاً للافتراء . المجلة الكوبية ( اكسلسيور ) ادعت أن الصيّاد ( ميغيل رامبرز ) البالغ من العمر ثمانية وستين عاماً هو رجل الواقع الذي منحه همنغواي اســـــم ( سانتياغو ) في روايته (الشيخ والبحـــر) وأن همنغواي التقى رامبرز في ( بيسترو ) وأستمـع الى ما حكاه عن معاناته اصطياد سمك القرش موضوعة ( الشيخ والبحر) ، وأن أحداث الرواية لم تكن إلاّ من ( مرويّات ) رامبرز نفسه ، وأن همنغواي قد ابتاعها منه ووعده بشراء بنطلون جديد ومركب جديد حالما تصدر الرواية .
أنكر الصياد العجوز ( رامبرز ) ما كتبته المجلة الكوبية ، لكنّ همنغواي لم يهدأ . كان قادحو همنغواي وخصومه قد أشاعوا في الأجواء الثقافية نضوب همنغواي ابداعياً وكان صدور رواية ( الشيخ والبحر ) دحضاً لتلك المزاعم وهجوماً مضاداً .
على ما أتذكر ، لم يشرْ كارلوس بيكر ولا هوتشنر ولا انتوني بيرجس في كتبهم الرصينة عن همنغواي إلى حكاية رامبرز . لم ترد الحكاية أيضاً في الدراسات التي اطلعت عليها عن سيرة همنغواي ورواياته . اشارة مقتضبة كتبتها مجلة اكسلسيور الكوبية إلى حكاية رامبرز وردت في كتاب ( في تجربة الكتابة ) الذي أصدرته جريــدة ( المدى ) في سلسلة ( الكتاب للجميع ) ووزعته مجاناً على قرائها على وفق تقليد ثقافي التزمت به الجريدة مطلع كلّ شهر . الكتاب ( في تجربة الكتابة ) مجموعة من الدراسات موقعة باسم مستعار هو ( س . ر . مارتين ) تناولت تجربة الكتابة الروائية واستقصاء حالاتها عند عدد من الروائيين الكبار كان من بينهم آرنست همنغواي .
عبثاً أن يربط أحد الدارسين بين رواية ( الشيخ والبحر ) وحكاية رامبرز ، فالرواية هي بالأصل عين الحكاية التي وردت عام 1936 في مقال لهمنغواي نفسه قبل لقائه بالصياد العجوز رامبرز بسنوات طويلة ، يذكر مقال همنغواي أن صياداً عجوزاً كان يصيد " في قاربه بعيداً عن كابانا سمكة مارلين كبيرة جرّت قاربه وأوغلت به في البحر " . عانى الصياد مع سمكة المارلين ومع كلاب البحر أياماً وليالي حتى أدركه الإعياء وقد أكلت كلاب البحر من لحم سمكة المارلين الجزء الكبير ولم يبق منها غير هيكلها ثم انزوى الصياد باكياً وكلاب البحر تحوم حول قاربه . أليست حكاية صياد 1936 هي عين حكاية ( الشيخ والبحر) وموضوعتها المهيمنة التي أعاد همنغواي انتاجها بشكلها الباهر ودلالاتها العميقة التي مهّدت لرواية (الشيخ والبحر) أن تنال جائزة بوليتزر عام 1952 ثم جائزة نوبل عام 1954 عن الرواية نفسها .
يذكر هوتشنر وهو صديق همنغواي الحميم لأربعة عشـر عاماً أنه قرأ مخطوطة ( الشيخ والبحر ) بالعنوان نفسه وكانت استجابته للمخطوطة فيضاً من ألحميمية ، وتذكر ماري زوجة همنغواي أن المخطوطة كتبت بخط أنيق وكانت صفحاتها ، على غير عادة همنغواي ، تخلو من التنقيحات الكثيرة المعتادة . همنغواي نفسه كان عازماً على أن تكون (الشيخ والبحر) جزءاً من كتاب كبير يليه جزء ثانٍ عن (الأرض ) وجـــزء ثالث عن ( الجو ) ، أما ( الشيخ والبحر ) فهي الجزء الأول الخاص بالبحر ، ولكنّ همنغواي عدل عن ذلك .
تنطوي أعماق رواية ( الشيخ والبحر ) على الدلالة الكبيرة " قد يتحطّم الإنسان ولكن لا يُهزم " .
تلك هي حساسية المبدع: حين تملّك همنغواي الغضب بسبب حكاية رامبرز . فالمبدع الكبير يحرصُ دائماً على أن يكون كلّ ما في نصوصه من ( صنعهِ ) ولكن من أين يجيء ذلك الذي ( يصنعه ) ؟ أَمنَ الفراغ ؟! .
محمود عبدالوهاب
التعليقات (0)