مواضيع اليوم

رائحة الوجع (قصة قصيرة)

nasser damaj

2009-05-19 14:45:44

0

قصة قصيرة

بقلم: خليل إبراهيم الفزيع

 

رائحة الوجع

 

امتدت يده إلى علبة الدواء.. تناول قرصا وأتبعه جرعة ماء.. أحس بمرارة الدواء في حلقه.. أم هي مرارة الماء يتركها المرض الذي يجتاح جسده ولا يستطيع مقاومته.. بعد أن خارت قواه، وهزل جسمه، واصفر لونه، واشتعل رأسه بالشيب.. ولما يكمل العقد الرابع من عمره؟.

البرد شديد يكاد يتوغـل في عظـامه.. رغـم الهـواء الحار المنساب من المكيف.. تحامل على نفسه ونهض من السرير.. توجه إلى خزانة الملابس واستخرج رداءً لفه حول نفسه.. عاد إلى السرير.. وغطى جسده بلحاف وثير لم يمنع البرد من التسرب إلى جسده الواهـن.

لم تفده تشخيصات الأطباء.. ولم تنفعه الأدوية التي وصفوها له.. منذ ما يقرب من عام، وهو على هذه الحالة المتردية يوما بعد يوم.. فما الذي يحمله الغد بعد أن فشل الأطباء في معرفة علته، واكتفوا بوصف المسكنات له.. في بداية مرضه اقترح عليه المقربون من أصدقائه السفر للعلاج.. سافر.. حين احتار الأطباء في الخارج ـ كما هم في الداخل ـ في تشخيص علته رغم كل ما يقال عن تقدم الطب.. عاد إلى الوطن بعد شهرين قضاهما متنقلا بين بعض العواصم الأوربية بحثا عن العلاج.. كلهم يؤكدون أن ضعف جسده، والحمى التي تنتابه، واصفرار لونه، عوارض بلا سبب واضح، جميع أجهـزة جسـمه تعمل بانتظـام، ولا يوجـد مؤشر لتعطل أحدها، أو سبب يدعو إلى توجس الخطر.  

التفت إلى ما حوله.. شعر بالفراغ يملأ جو الغرفة.. ها هي الستائر الممتدة بارتفاع الجدار تبوح بطعم الحزن.. اللوحات الزيتية المعلقة بغير انتظام على الجدران تفرز الملل.. جهاز التلفاز الضخم الذي يتصدر الغرفة يفصح عن الضيق.. الثريات المتدلية من السقف تنضح بالكآبة.. الكتب المتراصة تنفث الإحباط.. كل هذه الأشياء التي تفوح منها رائحة الوجع.. كرسـت الفراغ الذي يشعر به يملأ نفسه قبل أن يملأ الغرفة.. أراد أن يذوّب هذا الفراغ.. نادى الممرضة التي اسـتقدمهـا مـن الخارج خصيصا لتمريضه.. لكن صوته لم يسعفه.. ضغط على الجـرس.. خـيل إليه أنهـا أبطأت في الاستجابة لندائه.. عندما وجدها أمامه صب عليها جام غضبه.. لم تعتذر لتأخرها.. انتظرت حتى انتهت فورة الغضب التي اجتاحته.. قالت:

ـ ليس من المناسب أن تغضب وأنت في هذه الحالة.. إنني قلقة على صحتك.

أجابها وأنفاسه تكاد تتقطع لما بذل من جهد:

ـ لست قلقة على صحتي.. وإلا لأجبت بسرعة.

ـ حسن ماذا تريد الآن؟

ـ أخبري الطباخ أن يعد مع طعام الغداء شيئا من اللحوم.. لقد سئمت أكل الخضروات المسلوقة، كل يوم.. هذا نظام غذائي عقيم.

ـ ولكن هذا ما وصفه لك الأطباء.

ـ الأطباء.. الأطباء، إنهم لا يعرفون شيئا، إنهم يتآمرون على صحتي.. يلجأون إلى تجويعي لأنهم يريدون التخلص مني.. لست مريضا إلى هذه الدرجة ليمنعوني من الأكل.

ـ الأعمار بيد الله.. أطال الله عمرك.. ولكن ذلك من باب الاحتياط ليس إلا, فليس بك ما يدعو للقلق.

أراد أن يقول أشياء وأشياء.. لم تسعفه شجاعته.. ولـولا ذلك الحاجـز الـذي لا يسـتطيع تجاوزه، لما تردد.. فهو صاحب الأمر والنهي، وهي الممرضة التي تنحصر مهمتها في العناية بحالته الصحية لا أكثر ولا أقل.. هذا قفص سجن نفسه فيه.. أطل من خلاله على جمالها.. ورقة أحاسيسها، ولطف حديثها، وثقافتها التي تتيح لها الحوار معه في أي شأن من شئون الحياة، وليس في شئون مهنتها فقط.

أطال الله عمرك.. أحس أنها تقولها بصدق.. أطال الله عمرك جملة طالما استمع إليها من كل من حوله، وإن اختلفوا في نطقها.. أقرباؤه يقولونها وكأنهم يقولون: (متى سترحل لنرث ثروتك الطائلة..) وأصدقاؤه الذين اصطفاهم لنفسـه بعـد أن تعاهد معهم ـ دون عهد ـ على الوفاء والمحبة، يقولونها بمنتهى الصدق والمشاركة الوجدانية، أما كبار موظفيه الذين تسمح لهم وظائفهم بالتردد عليه للتوقـيع على بعض الأوراق أو للتشـاور في بعض أمـور العمل، فإنهم يقولونهـا بشـكل آلي، وكأنها من واجباتهم الوظيفية.. أما هي فطالما شعر أنها تقولها بشيء من الحميمية.. هل هذا من واجبات الوظيفة؟ أم أن هناك ما يتعدى واجبات الوظيفة إلى واجبات القلب؟ هل هو العطف؟ أم هي الشفقة؟ أم هو الحب، وهل يولّد الألم الحب؟ هل سيكون الحب مقترنا بهذا الألم فينتهي بانتهائه؟ أسئلة طالما بحث لها عن إجابة.

لا تزال تنتظر الجديد من أوامره قبل أن تغادر الغرفة، شعر بشيء من الحرج.. ترى هل قرأت أفكاره؟ هل تعلم بشدة معاناته؟ أذن لها بالانصراف، مكررا ما سبق أن قاله حول اهتمام الطباخ بطعام الغداء.

أمضى حياته بعد حصوله على شهادة جامعية.. في جمع ثروته التي بدأت متواضعة عندما شارك أحد أقاربه في مشروع تجاري، هو بعلمه وقريبه بماله، وعندما توسعت تجارتهما، انفصلا ليعمل كل واحد منهما بمفرده، وما هي إلا سنوات قليلة، حتى اتسـعت دائرة أعمـاله.. أصـبح مـن كبار رجال الأعمال الذين يشار إليهم بالبنان.. لم يهتم بأمر الزواج وتكوين أسرة، فقد تزوج العمل، وأنجب الثروة، دون أن يترك له ذلك فرصة الالتفات إلى نفسه.

وحدها الممرضة سعاد ينهمر مع كلماتها بوح حائر، لا يستطيع تفسير بواعثه وأهدافه.. عندما تقول: أطال الله عمرك، يشعر بأن دعائها هالة من الأمل تطوف حوله، وأن كلماتها بلسم يداوي جراحه، ومع ذلك لا يستطع أن يمنع نفسه من الغضب، وإسماعها من الكلمات ما لا يرضيها.

ذات مسـاء شــعر أنه فـي منتهى الصـفاء الذهني، وقد عاد إليه نشاطه.. قاوم الآلام التي ترهق كاهله.. تناسى مرضه، وصمم على مفاتحتها بالأمر.. استدعاها وخاطبها دون مقدمات قائلا وقد بدا عليه الارتباك:

ـ أريد أن أفاتحك في أمر طالما شغل تفكيري!

سارعت إلى الاستفسار عن هذا الأمر وقد استغربت لهجته اللطيفة معها.. هل لأنه قد استغنى عن خدماتها بسبب خطأ ارتكبته دون قصد؟ أم أن في الأمر سرا لا تعرفه؟ سارعت إلى القول:

ـ ماذا في الأمر يا طويل العمر؟ أرجو ألا أكون قد  أسأت التصرف لا قدر الله؟

حاول أن يسترد رباطة جأشه.. مسح العرق المتصبب من جبهته.. قال:

ـ مـا سأطلبه منك قـد يبدو غـريبا.. لا أعرف إلى متى سـأعيش.. لم أفكـر في الـزواج من قبل.. لكني الآن أشعر أكثر من أي وقت مضى أنني أخطأت في حق نفسي، ولعل في الزواج مـا يريحـني وأنا في هـذه الظروف الصحية الصعبة.

قالت بسرعة أدخلت البهجة على نفسه:

ـ ما من فتاة إلا وستفرح بك لو طلبت يدها.

ـ لا أريد أية فتاة وإنما أريدك أنت.. فهل لديك مشاريع معينة فيما يتعلق بالزواج؟

أراد أن يخفف من التوتر الذي خيم على المكان فقال بشيء من المرح:

ـ لابد أن يكون ردك سريعا حتى لا أرجع في كلامي.

أجابته بهدوء أثار أعصابه:

ـ الحقيقة إنني متزوجة.. وقد أخفيت أمر زواجي لأحصل على هذه الوظيفة.

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات