مواضيع اليوم

رائحة الغريب ـ قصة قصيرة للأستاذ عدنان كزارة

يوسف رشيد

2011-03-25 21:03:36

0

  

 لا يعرف الناس عنه شيئاّ سوى أنه يسكن في ذلك المنزل الحجري المسوّر بحديقة يضوع منها عطر ذو رائحة خاصة يثمل بها الناس ، وتجفل منها الحيوانات . يخرج من بيته في ساعة محددة من النهار يمكنك أن تضبط ساعتك عليها ، ويعود في أوقات مختلفة تتحكم فيها طبيعة عمله التي لا يعرف أحد عنها شيئاً ، ولا يمكنك أن تتوقعها ، غير أن أطفال الحي يتحلّقون حوله كلما رأوه ليتحفهم بهداياه من حلوى نادرة لم يكن لدكّانٍ في الحي أن يحتوي على مثلها ، إذ تجعل الأطفال أكثر نشاطاً ، وتبعث الشهوة الجنسية في أجسادهم قبل سنّ الاحتلام . حين تنظرُ إليه تحسّ أنك أمام ظاهرة طبيعية شاذّة تحدث مرة كل مئة عام ، جزؤه العلوي ثلثا جزئه السفلي ، وله هامة كبيرة بجبهة ناتئة كأنها مظلة من قرميد ، أما طرفاه العلويان فيفوقان طرفيه السفليين طولاً وهما مزوّدان بكفّين تتحركان كأنهما مروحتان. إذا تكلم خِلتَ صوته فحيح أفعى ممزوجاً بخوار ثور ، هذا إذا تعمّد التظرّف والكياسة . اختلفت آراء الناس فيه ، ومال أغلبهم إلى حسن الظنّ خصوصاً أن وجهه لا تفارقه البسمة ، ومن عينيه يطلّ شعاع يوحي بالحُلم بجزر وحشية في محيطات بعيدة ، يتردد على مسجد الحي ولا تفوته بوجه خاص صلاةُ الصبح حين يكون عائداً من عمله الذي لا يعرف أحد عنه شيئاً . نسيتُ أنني أخبرتكم بهذا سابقاّ ، وعجبتُ أنني نسيت ما قلت ، ولكنّ ما رأيتُه اليوم منه هو الذي أنساني ما قلته عن عمله الغامض . كانت قطة غريبة تعبر الحي ، وأظن أنها تاهت عن منطقتها ، وقادها الجوع إلى حيّنا ، كانت تموء مواءً يدعو للرثاء ، وشاء حظّها العاثر أن تراه في ذاك الصباح الباكر . لا أعرف ما الذي أخرجني من بيتي في تلك الساعة وحيداً كتلك القطة الجائعة ؟ تُراها رائحته الخاصة ، أم تفكيري الدائم فيه ؟ لست أدري . غير أن ما عاينتُه كان أهمّ من حكاية الجوع والرائحة والتفكير . كانت القطة تمشي ببطء على الرصيف ، وعلى الرصيف المقابل ظهرت قدماه تسيران ببطء أيضاً ، كنتُ خلفه على بعد خطوات دون أن يشعر بي ، أو يكتشف أنني أراقبه. القطة تفتّش عن بقايا طعام هنا أو هناك ، تتشمّم الأرض ، وتلحس التراب . فجأة توقفت ، ثم نظرت نحوه بوجهٍ يتفصّد عرقاً ، وجسدٍ يرتجف من الخوف . لقد اشتمت رائحته على الرغم من وجود شارع عريض يفصل بينهما ، ذُهلتْ عمّا كانت تقوم به ، ونسيتْ جوعها ثمّ راحت تموء بصوت كأنه حشرجة الموت . لم يلبث أن نظر إليها نظرة فارغة كانت كافية لتعدو لا تلوي على شيء . تابع طريقه مخلّفاً رائحته المميزة ، ودهشةً في وجهي تغريني بأن أعرف أكثر عن شخصيته الغامضة ، ورائحته المميزة ، وحلواه المثيرة للجنس . في الحي توطدت علاقته بالناس وعلاقة الناس به ، صار مألوفاً أن يشاركهم أفراحهم وأحزانهم ، ويُفضي إليه معظمُهم بأسرار كبيرة أو لا قيمة لها . كان يُشعر الجميعَ بالاطمئنان لصمته وعدم إفشائه شيئاً ممّا يقال له ، وكانوا يشعرون أنّ عليهم أن يحدثوه عن كل صغيرة وكبيرة من حياتهم الخاصة ، وعما يجري في الحي ، وإن لم يسألهم أو يستدرجهم بالكلام . مع مرور الأيام كان شاب يختفي من أهل الحي ثم شاب آخر وهكذا ... دون ترك أثر أو خبر . غلبت التكهناتُ بأن السفر إلى بلاد بعيدة بحثاً عن عمل وراء هذا الاختفاء ، وقوّى هذا الاعتقادَ رسائلُ كانت تأتي منهم إلى ذويهم مشفوعة بمبالغ ضئيلة من المال . راحت المبالغُ تكبر والرسائل تقلّ ، وشيئاً فشيئاً تلاشى اهتمام الأهل بالرسائل والأبناء ، وحلّ محلّه اهتمامهم بالمال ، ثم شرع الخلاف يدبّ في الأسر حول الحصص والأنصبة ، وانتهى بعضُه بالطلاق وخراب البيوت . كان الغريبُ المصدرَ الوحيد للرسائل والمصدرَ الوحيد للمال وخراب البيوت أيضاً . تغيّرتْ بفضله عادات كثيرة في الحي، وتذوّق الناسُ أطعمة وألبسة لم يألفوها من قبل ، وكثر في أيديهم المال ، ولكن ! طرأتْ عليهم أخلاق جديدة تأنف منها الحيوانات . ظلّ الشبان في تناقص ، وظهرت أعراض العنوس في كل بيت . الصبايا يبحثن عن عرسان فلا يجدن أمامهن سوى الكهول والشيوخ. وكما يحدث بعد الحروب التي تحصد أرواح الذكور وترفع نسبة الإناث ، تزوج الشيوخ من الصبايا مثنى وثلاث ورباع ، وتسرّوا بما لا يحصى مما ملكت أيمانهم . أرضى هذا الحال نزواتِ الشيوخ لكنّه قصّر أعمارهم ، وعقّد المشكلة فلم تعد مشكلةَ صبايا عذارى يبحثن عن أزواج ، بل صبايا أرامل ذقن حلاوة الزواج ولم يتبلّغن منه . أمام هذا المأزق كان لابد من حلّ مبتَكر يوظف الطاقات المهمة للصبايا الأرامل ، ويحمل بصمته ورائحته . أسّس شركة تجارية تصدّر اللحم الأبيض / نخب أول / لفتياتٍ من أعمار تتراوح بين الثالثة عشرة والتاسعة عشرة أو ما يعرف بفئة ال teen)) إلى الأحياء المجاورة ، ثم إلى جميع أنحاء البلاد . ساهمتْ شركته ، وبكل تواضع ، في إعادة التوازن بين أعداد الرجال والنساء ، ووُظف قسمٌ من أرباحها في أعمال بيئية أبرزُها إنشاء حدائق مزروعة بتلك الأزهار التي اشتُهرت بها حديقته ، ومعاملَ تنتج تلك الحلوى النادرة التي عُرف بها . كانت الشركة العملَ المحسوس الذي استطعت أن أعرفه بعد رحلة البحث المضني عن عمله وسرّه . توقفتُ عن البحث مؤقتاً ، وصرت أراقب الأولاد الذين يأكلون الحلوى وتنتفض الشهوة في أجسادهم كالبالغين ، كانوا يكبرون بسرعة ، ويأكلون كثيراً ، ويتحولون إلى عمّال بالسخرة لدى الشركة :  يُجهّزون البضاعة المعدّة للتصدير ، ويحرسونها حتى تغادر المجال البريّ والجويّ للحي ، ثم يتأكدون من وصولها سالمة إلى أيدي المستوردين . كلّ شيء في الحي يسير الآن نحو غاياته الطبيعية ، فالشيوخ انقرضوا أو كادوا ، والشبان ذهبوا ولم يعودوا ، والصبايا تحوّلن إلى بغايا تجلب له العملة الصعبة ، والأولاد بعد أن كبروا صاروا قوّادين يعملون لحسابه الخاص ، أما أزهاره ذات الرائحة الغريبة فقد انتشرت في كل مكان ، صارت تّثمل جميع الكائنات الحية بما فيها الحيوانات والحشرات والهوامّ ، أما أنا فما زلت أبحث عن سرّ رائحة الغريب .

 

 

عدنان كزارة




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !