كلمة الدكتور إبراهيم الجعفريِّ في مجلس الفاتحة الذي أقامه بوفاة
آية الله العلامة الدكتور الشيخ عبد الهادي الفضليّ
11/4/2013
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، وأفضل الصلاة، وأتمُّ السلام على أشرف الخلق أجمعين سيِّد الأنبياء والمُرسَلين أبي القاسم مُحمَّد، وعلى آل بيته الطيِّبين الطاهرين، وصحبه المُنتجَبين، وجميع عباد الله الصالحين..
السلام عليكم جميعاً ورحمة الله وبركاته..
قال الله -تبارك، وتعالى- في مُحكَم كتابه العزيز:
((مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا)) [الأحزاب : 23]
في هذه الأيام مُني العالَم الإسلاميُّ بخسارة فادحة إذ يغيب نجم من نجوم الفكر، وفقيه من فقهاء الحوزة العلمية، ومُفكِّر مُتميِّز، ومُتنوِّع في مختلف مجالات المعرفة، وهو سماحة آية الله الدكتور عبد الهادي الفضليّ.
الذين اطّلعوا على نتاجات هذا المُفكِّر الكبير عرفوا جيِّداً آثاره الرائعة وبصماته التي تركها في مختلف المجالات.
الشيخ الفضليّ بصريُّ المَولِد، وسعوديُّ الأصل هاجر إلى أكثر من مدينة من مُدُن العراق، وجاء إلى النجف، وبغداد، وسافر إلى بعض دول الخليج، ثم تردَّد على بريطانيا حيث الجامعة الإسلامية التي كان يكتب بحوثها، ويُحدِّد منهجها.
تميَّز الدكتور الفضليّ بأنه جمع بين منهجين -وليس من السهل أن يجمع أحد بينهما- فقد جمع بين الأكاديمية، وأخذ بجدارة لقب الدكتوراه من الجامعة، وتدرَّج في الحوزة العلمية، وارتقى إلى مستوى الاستنباط، فكان فقيهاً جديراً بمَلَكة الاستنباط، وكان ينصح طلابه، ويحثّهم على الجمع بين المنهجين (المنهج الجامعيّ، والمنهج الجوامعيّ) أعني بـ(الجوامعيّ) الجامع أي الحوزويّ، فهو لا يعتبر المنهج الأكاديميَّ نقيضاً لمنهج الجامع، فعادةً الدراسات وبواكير الفكر، وأصول المدارس الفقهية نبعت من الجامع والمسجد، وأخذت، واستمدّت جذورها التاريخية منها؛ لذا سجَّلت الجوامع باكورة الإطلالة الجامعية في مختلف مناطق العالم بخاصة العالم الإسلاميَّ.
الشيخ الفضليّ توافرت له فرص، واضطرّته الظروف لأن يتنقل من مكان إلى آخر، وعرف كيف يتعامل مع ثوابته المبدئية مع المُتغيِّرات الموضوعية التي فرضها الواقع؛ لذا جاءت ثقافته، وفكره، واستنباطاته مُتنوِّعة بتنوُّع الظروف التي مرَّ بها، ومنذ مرحلة مُبكِّرة من تصدِّيه في مجال الفكر كانت هنالك فتنة من الفتن الفكرية نقتبس مُفرَدة منها: كانت القضية الفكرية الكلامية المُتعلِّقة بالإمام المهدي المُنتظَر -عجَّل الله فرجه الشريف-، وقد شرَّق البعض فيها وغرَّب عندما كتبوا عنه، وجنح البعض إمّا إلى التخريف، والانطواء، والانكفاء مُستندين إلى رواية ما، وهي إنَّ كلَّ راية تظهر قبل ظهور المهدي المنتظر فهي راية ضلال؛ ومن يذهب بهذا الاتجاه يجب أن يترك فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكَر؛ لأنها تتعارض مع التمهيد والتوطئة لظهور الإمام -سلام الله عليه-، واتجهت اتجاهات أخرى هو الانكفاء باسم المهدي المنتظر، وباسم الحُجتيّة، ومنهم مَن عزل الدين عن السياسة، ومنهم مَن ذهب مُتطرِّفاً ذات اليمين وذات الشمال؛ فألّف الشيخ الفضليّ كتابه الموسوم (في انتظار الإمام)، وأثبت، وردَّ على كلِّ هذه الشبهات بأسلوب علميٍّ أخّاذ يجمع بين قوة الأصالة، ومهارة التجديد، والمواكبة بلا تردُّد في الردِّ على كلِّ شبهة، وأثبت أنَّ قضية الإمام المنتظر ليست مسألة طائفية على مستوى الناس، كما أنها ليست مسألة مذهبية على مستوى الفكر الإماميّ إنما هي قضية إسلامية، بل هي قضية دينية تجتمع الأديان كلّها عليها.
هذا السبق التاريخيُّ في ذلك الوقت إذ لم تكن دولة إسلامية قد قامت، ولا صحوة إسلامية قد انتشرت، ولا ثورة إسلامية قد اندلعت، رُبَّما كان الكثير سادرين في سُبات عميق، فقرع الفضليُّ جرس الوعي في عالم أطبق عليه السكون.
لقد تميَّز الشيخ الفضليّ بمُميِّزات كثيرة جداً؛ فجاءت نتاجاته مُتنوِّعة بتنوُّع ثقافته، فكتب في أصول البحث كتابه الموسوم (أصول البحث)، وكتب في الحديث، وفي الرجال، والمنطق، وأصول الفقه.. لقد كان مُتنوِّعاً، فأخرج تلك الكنوز التي يدّخرها من خلال ثقافته المُتراكِمة، وعُمقه الاستدلاليِّ الرائع، وترحاله من مكان إلى آخر، أضف إلى كلِّ هذه الأمور قلبه الغامر بالإيمان؛ ومن أجل أن يشرع بسفينة العلم والمعرفة، ويُودِع تلامذته وطلابه وكلَّ المتأثرين به هذه الذخيرة الرائعة، ولأجل أن يُرسي سفينته على شاطئ التوفيق، والنجاح، والمباركة، والعطاء المُتعدِّد فقد كان مُربِّياً متواضعاً.
رُبَّما يكون قليل الكلام غير أنه عندما يأخذ على عاتقه الحديث في موضوع ما لا يقف حتى يأتي عليه من كلِّ أطرافه، ويُثبته بأكثر من طريقة، ويردُّ على كلِّ شبهة يمكن أن تعترضه..
ما أحوج الأمة الإسلامية اليوم لمثل هذا الرائد الفكريِّ والعَلَم الذي رفرف في سماء الأمة الإسلامية، والعملاق الذي لم يكن يتنصَّل عن انتمائه المذهبيِّ، ولم يتوحَّل في حضيض الطائفية، يعتزُّ، ويتشرَّف بانتمائه المذهبيّ غير أنه كان مُوحِّداً بحقّ في كلِّ ما كتب، وفي كلِّ ما حاور، وفيما كلِّ ما تحدَّث به في أروقة الجامعة.
لقد كان رائعاً جداً..
عندما نتحدّث في مثل هذه المناسبة عن مثل هكذا أعلام عمّروا الثقافة الإسلامية، ومن خلالها عمّروا المجتمع الإسلاميَّ في وقت رُبَّما كان البعض يعتبر السياسة تتنافى مع الدين.
كان يقتبس في وقتها من المرجع الإمام السيِّد الحكيم -رحمة الله عليه- بعض الفتاوى، ويذكرها في كتابه، وعندما يُسأَل: هل السياسة مرتبطة بالإسلام أم إنها تتعارض مع الإسلام كان يقتبس الكثير من المقولات لكثير من المراجع والعلماء وذلك في نهاية الستينيات قبل أن يُتوفـَّى السيِّد الحكيم -رحمة الله عليه- في عام 1970، وأخرج بعض الكلمات التي قالها السيِّد الحكيم، واستند عليها، كما استند على مقولات أخرى خصوصاً أنه عاصر الكثير من المراجع، وتتلمذ على يدهم، وأحد الذين حضر بحوث الخارج عندهم بجدارة هو السيِّد الصدر -قدّس الله نفسه الزكية-.
تواضُع الشيخ الفضليّ رُبَّما لم يجعل كلَّ ما لديه من كنوز تشقُّ طريقها إلى الآخرين باستثناء القضايا العلمية، أمّا ما يختزنه قلبه من معاناة فقد ادّخرها في صدره إلى الأبد.
أنا أشعر أنَّ هذا الرجل بقدر ما كان عقله كبيراً بما يختزن من العلم كان قلبه أكبر بما يختزن من عقيدة، وأخلاق، وهموم، ومعاناة.
عندما نُحيي مثل هكذا شخصية لا نريد أن نذكرها لذاتها فقط؛ فهذا أقلُّ الوفاء، إنما نذكر ذلك؛ لنبني واقعنا، ونردَّ غائلة التفرقة، وأدب التفرقة، والذين يتشبَّهون بالعلماء، ويعتلون المنابر، ويحاولون أن يبثوا أدب الفرقة، وعندما نقف وقفات مُتملّية، ونتخذ من إفاضات هؤلاء فهذا يشكِّل مُعادِلاً إصلاحياً، نعم.. لقد كان الفضليُّ مُصلِحاً بكلِّ ما تعنيه كلمة مُصلِح من معنى، وقد توافرت لديه عناصر الإصلاح بهذا المُركَّب القرآنيِّ، بل الكتابيِّ عموماً لكلِّ أنبياء الله.
لقد توافرت له عناصر رائعة، فصدح بصوت الإصلاح إلى آخر أيّامه الشريفة..
ندعوكم لقراءة سورة الفاتحة على روحه، وأرواح علماء المُسلِمين وأمواتكم..
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
التعليقات (0)