أول ما يشـد المتلقـي إلـى عتبـة الكتـاب نصـه الافتتاحـي، لوحـة الغـلاف التـي رام عبـرها الدكتـور مصطفـى الزباخ استـدلالات سيميولوجيـا عميـقة، تترجـم بسحـر الدلالـة تجـدر منظومـة القيـم الثقافيـة الإسلاميـة المستنيـرة، التـي عكستهـا مـرآة الدكتـور عبـاس الجـراري فتجلـت فـي زاخـر كتاباته.
استوحـى المؤلف توصيـف مكونـات وعناصر لوحـة غـلاف "التربيـة علـى القيـم الثقافيـة عنـد الدكتـور عبـاس الجـراري (قراءة في القلق والآفاق)" من الطبيعـة الأصيلـة، حيـث تضمنـت شجـرة وارفة الظـل، وعلـى جانـب عظيـم مـن الشمـوخ، وعظيمـة الجـذع، ضاربـة جـذورها فـي عمـق تربـة خصيبـة استـدلالا علـى التربـة الإسلاميـة. وينقشـع مـن بيـن أغصان شجـرة القيـم بريـق ضـوئي لامـع فـي الأفـق. وحـرصا على عمـق الدلالة نوعـت اللوحـة ألوانهـا بتناسـق شـديد؛ فتوزعـت بيـن اللون الرمادي والبنـي الداكـن مـن جهـة السفلى، واللـون الأبـيض الفاقـع، والأصفـر مـن الجهـة العليـا.
وتفيـد القـراءة السيميائيـة لعناصـر تكويـن بنيـة اللـوحة أن الأخيـرة قـد اتسمـت باتسـاق دلالـي عميـق فـي إشـارة إلـى عمـق المرجعيـة مسترشـد بهـا في تشكيـل عناصـر اللوحـة، وتجسـدت تلك المحـددات الرمزيـة القرآنيـة مضمـرة فـي اللوحـة بمضمـون الآيـة الكريـمة: ﴿شجـرة مباركة لا شرقيـة ولا عربيـة جذعها في الأرض وأغصانهـا في السماء﴾ (سـورة الآيـة)، وهـو ما يبـرز ذروة الحنيـن إلى قيـم إسلاميـة أصيلـة فـي زمـن أزمـة القيـم، حيـث فقـدان المعانـي الساميـة التـي حـولت الإنسـان فـي ظـل النمـوذج التنمـوي الغربـي إلـى آلة تـدور للإنتاج والاستهـلاك فقـط مما جعـل الحياة المبتذلـة بواسطـة الاستهـلاك... حيـث يصبـح النفاق سياسـة، والمكـر ذكاء، والتمجـد مجـدا (ص/21).
كما استقـت كذلك لوحـة الغـلاف الألوان الداكنة مـن الطبيعـة موحيـة بكآبة تعلو الأرض، ترجمهـا الدكتـور مصطفـى الزباخ بكلمـة "قلـق" في عنوان صغيـر للكتـاب (قـراءة في القلـق والآفاق)، بينمـا ترجـم اللـون الاشـراقي الأصفـر دلالـة الآفاق واستشـراف مستقبلـي لراهنيـة القيـم الإسلاميـة، ذلك أن اللـون الأصفـر يقتـرن دومـا بالبعـد الدينـي والروحـي في الديـن الإسلامـي، كمـا في كـل الديانـات.
فـي متـن كتـاب "التربيـة علـى القيـم الثقافيـة عنـد الدكتـور عبـاس الجـراري (قراءة في القلق والآفاق)" أبـرز الدكتـور مصطفـى الزباخ حيثيـات تعـدد الرؤى القيميـة -التربويـة والاجتماعيـة والسياسيـة، والثقافـية الحضارية...- مؤكـدا أن تعـدد المناهـل الأصيلـة للدكتـور عباس الجـراري قـوت لديـه الإحسـاس بأهميـة البعـد القيمـي فترجمـه في كتاباتـه، وأفـرزت ثلاثـة مواقـع قيميـة كبـرى هـي: الموقـع القيمـي والوطنـي، الموقع القيمي العربي الإسلامي، والموقع القيمـي الإنساني. ولعـل هـذا القلق الحضاري الحاضـر في أشكال وعينـا الإصلاحي منا سيفسـر هـذا الاهتمام الملـح بالقيـم والثقافيـة، بصفـة عامـة والتعـدديـة القيميـة بصفـة خاصـة(ص/26). هـذا القـلق عانـى منـه الجراري ويقـول عنـه إنـه نظام يسعـى إلى فرض قيمة وأنماط سلوكه فهو بهذا يشبـه الاستعمـار إن لم يكـن يمثـل أعلـى درجاتـه ومراحلـه (ص/27)، هـذا التحـدي بـرز في كتابات عبـاس الجراري،و هـو الحريـص علـى دعم وتثبيـت الهويـة المغربيـة كهويـة متميـزة نابعة مـن تعـدد مناطق المغـرب وتنوع أقاليمـه، فهـي مغاربيـة وعربيـة وإفريقيـة ثم اسلاميـة في روحها المهيمنـة وطابعهـا العام، أما مكوناتهـا الثقافيـة فإنها تتميـز بالتنوع الذي حصره في الموروث البربري الذي تداوله المغاربـة قبـل دخـول الإسلام المغرب، والرصيد المغربي الإسلامي بمقوماته الشرقيـة والأندلسيـة الوافدة (ص/28).
ويعتبـر الجـراري الديـن الإسلامـي عمـاد الحفـاظ علـى الهويـة الإسلاميـة كما يعتبـر اللغـة العربيـة باعتبارها لغـة القـرآن الكريم وثقافـة الإسلام الجامعـة لشمـل المغاربـة كافـة والعرب والمسلمين عامة مقـوما مـن مقـومات هذه الهويـة في مواجهات تيار التغريب والعولمـة(ص/28).
وركـزت مصطفـى الزباخ في دراستـه التحيليليـة علـى تضخـم هاجـس القلق الحضاري عنـد عباس الجراري والذي يرجـع خـطر هـذا التحدي إلى الهيمنـة الحضارية والثقافية، وتحدي التطرف والإرهاب، وتحدي الصراع الحضاري، ولخطـورة التحدي الأخيـر أبطـل عبـاس الجراري نظريـة هنتغتون حول صراع الحضاريات مؤكدا علـى حقيقتيـن أن الصـراع السائـد متولد من المصالح السياسيـة والاقتصاديـة والعسكريـة للغرب، وأن التفاعـل الذي يحكمـه التسـرب الحضاري كفيـل بإبطال نظريـة الصدام. ولقـد أصبـح الإنسان اليوم مسوقا بايديولوجيته... وبعولمتـه الفارضـة لقيمها الكونيـة المهددة للهويات الحضاريـة...، وتعـد النظرية التربوية الإسلاميـة صروحا قيميـة بانيـة، من شأنها أن تحفـظ تدافـع العمـران الحضاري من العبث والسلوك البشري من الانحـراف (ص/21).
واستعـرض مصطفـى الزباخ في جـزء هام مـن الكتـاب تجليـات التربيـة على القيـم الدينيـة، ويـرى أن الجـراري ينطلـق مـن معطـى أن الإسلام رسالـة تربويـة تقـوم علـى مبادئ الخيـر والاعتـدال والتطـور، والبناء الحضاري، ولذلك يعتبـره دين وحضارة وثقافـة وقيـم (ص/75)، وهـو ما جعـل عباس الجراري يرجـع تراجع المسلميـن عن عصـرهم الذهبـي إلى ابتعادهم عن المنهج العلمـي وإغلاق باب الاجتهاد واهتـزاز القيـم المقدسـة في حياة الإنسان المعاصـر، والإصلاح المفروض والازدواجية الحضارية.
وفي سياق البعـد الإصلاحي عنـد عباس الجـراري أبرز الزباخ اهتمـام عباس الجـراري بالتربية على القيـم الثقافيـة داعيـا إلى مراجعة دور المثقف ليكون دورا فاعلا... ومعيبـا علـى دور المثقفيـن التبعية والمصلحـة، والقطيعـة السلبيـة واللامبالاة الغائـب. كمـا حرص الجراري أيضـا علـى تعزيز القيـم السياسيـة المؤسسـة علـى المرجعيـة الإسلامية، مشددا على قيم التوحد والحريـة والعدالة وقيـم حقوق الإنسان وغيـرها.
التعليقات (0)