اعتبر نفسي ممن يخالط ويحاور ويجالس العلماء ، وهذا بالطبع من حسن حظي ، وبدأ ذلك مبكرا جدا بسبب قرابتي واتصالي الدائم بالدكتور احمد صبحي منصور ، في عام 1997م ، حين كنت أذهب معه لحضور رواق ابن خلدون ، ومن الشخصيات الهامة التي تعرفت عليها هناك المرحوم الأستاذ الدكتور/ محمد أبو الإسعاد ـ وفي الحقيقة هذا الرجل لا أنسى أبدا ملامح وجهه حينما كان يتحدث في أي موضوع يخص مصر ومستقبلها ، فكنت أراه مهموما بمصالح مصر ودائم الانشغال بإصلاح كل شيء فيها وخصوصا التعليم وهو صميم تخصصه كأستاذ جامعي ، ومن الكتب الرائعة التي قرأتها له ـ كتاب (رؤية في تحديث التعليم المصري) ، وبعد قراءة هذا الكتاب الذي تم تأليفه في عام 1991م ، وهو في الأساس يناقش ويلقي الضوء على فكر (أحمد لطفي السيد) في تطوير التعليم المصري في بدايات القرن العشرين ، وتحديدا في عام 1928م ، ومن أهم الأسباب التي دفعـتـني لنشر هذا الكتاب مرة أخرى وإحياء فكرة تطوير التعليم من جديد سببين أحدهما: أن التعليم المصري لم يتغير فيه أي شيء ، بل ازداد سوء وفسادا وخواء وتخريبا للعقول ، ثانيهما: تطابق أو تشابه الظروف السياسية والاجتماعية التي تمر بها مصر وقت مشروع أحمد لطفي السيد (بعد ثورة 1919م ) مع نفس الظروف الحالية في مصر (بعد ثورة 25يناير 2011م) ، وفي هاتين الفترتين التاريخيتين نرى أن مصر تقوم بثورة شعبية ، ويعقبها ظهور تيار ديني يسيطر على العامة بفكر ديني وهابي صحراوي لم يتغير ، وهذا الفكر كان ولا زال مدفوعا من الدولة الوهابية ، يريد جر مصر إلى الوراء وإرجاعها قرونا طويلة وإحياء ثقافة التقليد الأعمى للنصوص وإجهاض العقول ودعوة صريحة للجمود الفكري وقتل الإبداع داخل شباب وأطفال هذا البلد ، بالإضافة أننا فعلا بعد الثورة في حاجة ماسة لإصلاح التعليم المصري لأن إصلاح التعليم معناه النهوض بالمجتمع كله ، فلو انصلح حال التعليم والمتعـلمين ، فمن المؤكد أنهم سينـتـشلون المجتمع لينهضوا به في كل شيء ، ويخلصونه من سيطرة أي فكر رجعي مهما كان ، وهذه مقارنة تاريخية كان يجب الإشارة إليها حتى نؤكد ونذكر الشعب المصري أن آل سعود لم ولن ينسوا ثأرهم من مصر ويصرون كل الإصرار أن تسقط مصر صريعة للفكر الوهابي انتقاما من مصر والمصريين لأن التاريخ أثبت أن مصر كانت سببا في إسقاط دولة آل سعود مرتين في عام 1818م ، وفي عام 1891م، وبكل أسف وأسى أرى مشهدا مظلما في مصر بعد الثورة وأخشى أن ينجح الوهابيون في سرقة ثورة مصر لثالث مرة ووقف عملية التحول الديمقراطي والإصلاح الحقيقي في مصر وبناء دولة مصرية حقيقية.
المقال الثالث
ــ التعليم والتوظف :ــ
تعرض لطفي السيد لمشكلة ارتباط التعليم المصري بالتوظف في الحكومة فقال ان التعليم الحاضر الذي قصر المقصود منه على أنه يعمل مستخدمين يدور بهم دولاب الحكومة ليس هو التعليم الموصل إلى الحكم الذاتي فالتعليم الحاضر على ما هو عليه لا يوصل إلى شيء من سعادة الأمة وإذا كان لابد من معدات لتلاشي الوحدة القومية وفقد الاستقلال كان التعليم الحاضر خير المعدات إلى تلك النتائج العمومية فموضوعات التعليم وبرامجه وطرائقه في مصر بعيدة عن أن تصل بنا إلى الرقي الاجتماعي المطلوب لأن الغرض من التعليم عندنا هو إنماء القوى الآلية أو القوى التي يقوم بها الإنسان آلة مضبوطة نوعا للدخول في تركيب الماكينة الكبرى ماكينة أعمال الحكومة.
وأضاف أنه لو كنا نقصد من التربية والتعليم إكثار عدد البؤساء وتنمية قوة الساخطين على النظام لما كان لدينا وسيلة أنجح في هذا الصدد من تحضير شبان كثيرين نـزج بهم في مقاعد البطالة الميئسة وتخرجهم من بيئاتهم ثم نقف بهم في طريق أطماعهم ونقول لهم عليكم أنفسكم.
فالمدارس الثانوية والمدارس العالية أضيق من أن تسعكم وليس في حول الحكومة أن تعلم التعليم الثانوي والعالي مجانا والخدم الصغيرة في الحكومة وغيرها مشغولة بما فوق الكفاية فماذا يصنع هؤلاء وهم أبناؤنا يعز علينا بؤسهم ويعجز حولنا عن مساعدتهم على النجاح في الحياة ومن ثم نرى أن الضرورة قاضية بتحويل مجرى التيار في التربية والتعليم.
ويرى لطفي السيد أن حل هذه الإشكالية يأتي عن طريقين الأول بالربط بين التربية والتعليم من ناحية وبالربط بين التعليم وحاجات المجتمع فيتم ربط التعليم والتربية بالربط بين المعاني التي تهذب النفس والمعاني التي تثقف العقل كما لا يجوز التضحية بالعناية باليد للعناية بتثقيف العقل ولا يجوز تضحية تثقيف العقل لتهذيب قوى النفس ولا يجوز أن تضحي بتنمية مشاعر الشخصية والاستقلال لتنمية فضيلة الطاعة فغرض التربية هو إعداد النشء بقدر المستطاع للحياة العملية المباشرة جعل المدرسة أمة مصغرة لكن المدرسة المصرية في الواقع ليس لها من الاختصاص إلا تلقين شيء من قواعد العلم تعطي عنه الشهادة اللازمة ولذلك فإنه من الواجب بجانب ربط التربية بالتعليم أن تحور برامج التعليم لتكون وافية بحاجات الأمة.
2ـــ الاستظهار:ــ
انتقد لطفي السيد بشدة طريقة التعليم العقيمة في الكتاتيب حيث يعلم الأستاذ التلميذ أو يلقنه ما في الكتاب وهذا لا ينمي من الملكات إلا ملكة الحافظة أو ملكة التقليد ولكن المكلة المُفكره ملكة الإبداع والاختراع ملكة الإدراك والتفكير ملكة الذوق السليم ملكة العالم والكاتب والسياسي والفيلسوف هذه المكلة تبقى دائما طفلة تتطفل في حركتها اليومية على المحفوظات وآراء الغير تستعير فيها ما تشاء من معلومات وتنشرها إلى الخارج واقفة عند وظيفة النقل أما الطريقة المفيدة فهي أن ينصرف الأستاذ عن الكتاب يقبل على التلميذ فيوحي إلى روحه ما يكملها ويعدها للقيام بالواجب عليها في الحياة.
3ـــ ديـمـقــراطـــيـة الـتـعــــلـيــم :ـــ
وكان رأي لطفي السيد أن التعليم حق للجميع فمنذ دعا المصلحون دعوتهم إلى التعليم وأخذوا يقنعون الأمة بفوائد التربية انبرى لهم المحافظون وروجوا في مصر شائعة مؤداها أن التعليم ينبغي أن يكون محصورا في أبناء الطبقة العليا والمتوسطة أما الطبقة الدنيا من أبناء الفلاحين والعمال فليس لها أن تتعلم كغيرها فإن تعليم هؤلاء يحرم الأمة من الأيدي النافعة القادرة على خدمة الأرض ويتصدى لطفي السيد للرد على المحافظين مؤكدا أن البطالة بين المتخرجين في الكتاتيب القديمة ليس سببها القراءة والكتابة ولكن سببها الحقيقي الامتياز الذي كسبه المتعلم على إخوته الذين لم يتعلموا مثله في الكتاتيب.
ورفض لطفي السيد أيضا المقولة التي هاجم بها المحافظون ديمقراطية التعليم بادعاء أن الجهل خير من التعليم الناقص لأن الجهل عدم ، والتعليم الناقص مرتبة من مراتب الوجود العلمي ولا يكون العدم خيرا من الوجود لكنه مع ذلك لا ينكر خطورة ما يترتب على التعليم الناقص من أضرار تلحق بالنسيج الاجتماعي للأمة.
ودعى لطفي السيد إلى جعل التعليم إجباريا وهاجم بشدة الداعين لتضييق نطاق التعليم تحت دعوى انه إذا تعلم أولاد الفلاحين فلن يكون هناك من يزرع الأرض فالذين استبدلوا الجلابية الزرقاء بالجلابية البيضاء واللبدة الحمراء بالعمة البيضاء الذين دخلوا الكتاب فأتموا فيه القرآن قد خرجوا منه يترفعون عن الشغل في الغيط ومن ثم أصبحوا عالة على أهلهم وفقد المجتمع بانتقال هذه الطبقة من الجهل إلى العلم أزرعا نافعة لخدمة الأرض.
ويقول لطفي السيد أن الأعيان يتوجسون خيفة من كل قارئ أو كاتب وجد في قريتهم ولا يريد القائمون بأمر التعليم أن ينقلوا صغار الفلاحين من شظف العيش إلى شيء من الترف ويكشف لطفي السيد عن التركيبة الطبقية التي امتاز بها المتعلمون على غيرهم مؤكدا أنه إذا ما أصبح التعليم إجباريا وتعلم الناس جميعا القراءة والكتابة فسوف تمحى بينهم الفروق السيئة التي جاءت من تعلم البعض دون البعض الآخر وتنمو بينهم المشابهات التي هي الركن السديد للتضامن القومي.
ثم يحذر لطفي السيد حضرات الذوات الذين يثبطون العزائم عن إنجاح الكتاتيب بأن يكفوا عن ذلك فهم قد كبر على نفوسهم أن يساويهم فلاحوهم في امتياز القراءة والكتابة لكن هذا الكبر لن يفيد شيئا فالرأي العام قوة كافية لإنجاح التعليم.
4ــ الامـتـحــانــات :ـــ
انتقد لطفي السيد بشدة نظام الامتحانات والشهادات الدراسية في نظام التعليم المصري وذهب إلى أن التعليم في مصر قد تفرد دون التربية بعناية الأمة والحكومة جميعا فإن كل ما يهتم به الآباء إنما هو نجاح أبنائهم في الامتحانات وكل ما يهم المعلمين هو النجاح في الامتحان وكل ما يهم التلاميذ بالضرورة هو النجاح في الامتحان وليس الامتحان إلا مقررا للعلوم وعلى ذلك سرنا في تيار الرغبة في تحصيل العلوم أي تثقيف العقول من غير التفات إلى تربية القلوب ولذلك ينبه لطفي السيد ولاة الأمور في التربية والتعليم إلى التفكير في أن يجعلوا للتربية محلا بجانب التعليم ولتقويم الشعور حظا بجانب تثقيف العقول فإن الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي والسياسي يتوقف كثيرا على طريقة التربية والتعليم.
5ــ التربية والسلام العالمي :ـــ
تعرض لطفي السيد لدور التربية في تحقيق السلام العالمي والتعاون فأوضح أن غاية التربية في النظم الدكتاتورية تنشئة أجيال غايتها بسط سلطانها على الآخرين فتجردهم من حرية التفكير الشخصي وحرية الاجتماع لتبادل الآراء وتنمي في أنفسهم مبادئ القومية الحادة والاستهانة بحقوق الغير والطاعة العمياء وبالجملة تكون غاية التربية حربية صرفة أو بعبارة أدق غاية الاعتداء على الغير وما في أيديهم وليست الديمقراطية مع الأسف بأحسن حال من ذلك إلا قليلا فإن التربية فيها مع ما بها من الحريات الفردية موجهة إلى الحرب أيضا وفي مثلها العليا البطل يقتل أكبر عدد ممكن في ساحة الحرب ومن ثم فلا يمكن أن تكون غاية هذه التربية تحقيق التعاون العام أو السلام الدائم بل لابد للعالم وقد اعتزم التعاون العام أن يغير غاية التربية فيستن نوعا من التربية يؤدي إلى ترك العصبية إلى ما يقتضيه الإخاء الإنساني والتعاون العالمي من احترام لجميع الأجناس ورتب لطفي السيد على ذلك أنه لا يمكن أن يتحقق السلام العالمي إلا بتثقيف ملكات الفرد الطبيعية ملكات الجسم والعقل والنفس بالإضافة إلى أنه ينبغي أن يؤخذ في الاعتبار تعلم الأفراد القيام بواجباتهم نحو الغير مثل حب الإنسانية على أن يتم ذلك على يد أساتذة أحرار في مدارس حرة ليست تابعة مباشرة لسياسة الحكم.
6ــ اللــغــة الــعــربـيـــة :ـــ
اهتم لطفي السيد باللغة العربية وقضى ثمانية عشر عاما فيما بين (1944/ 1962) رئيسا لمجمع اللغة العربية وكان لطفي السيد يرى أن اللغة كائن حي يخضع لقانون التطور ولابد من أن يشملها التجديد في الأنماط والتجديد في الأساليب والمرونة والطواعية بحيث تقبل وتوجه كل موقف وتسد كل حاجة وتتسع لكل شيء ولذلك راح يدعو في الجريدة إلى تجديد اللغة العربية وإلى التوفيق بين العربية الفصحى وبين العامية وشنّ حملة على جمود القدماء والمحافظين واللغويين ودعى إلى تقريب المسافة بين لغة التخاطب ولغة الكتابة وإلى أن تحل الألفاظ الجديدة محل الألفاظ القديمة واستند في ذلك إلى أن لغتنا العربية فيها ألفاظ أعجمية كثيرة ولم يخل وجودها بالفصاحة والبلاغة فان بعضها قد وجد في القرآن نفسه وكان لطفي السيد يرى أن اللغة العربية قد انقطع رقيها من قرون طويلة فوقفت عند الحد الذي وصلت إليه أيام النهضة العباسية ولا سبيل لإحيائها وجعلها مألوفة الاستعمال إلا أن تصير لغة العلم في بلادنا وكان لطفي السيد يسخر من الجمود ومن إصرار البعض على استخدام كلمة (الفتحة) بدلا من كلمة (كمبيالة) و (عذار الطريق) بدلا من (التلتوار) وعندما كان التعليم باللغة الانجليزية في مدارسنا أيام الاحتلال البريطاني كان لطفي السيد من أنصار تعريب التعليم أي جعله باللغة العربية لأن هذه هي الوسيلة الوحيدة لنقل العلم إلى وطننا حتى ينتج نتائجه الكبرى في ارتقائنا إلى ما نطمع فيه من المدنية والرقي.
وكتب لطفي السيد عدة مقالات دعى فيها إلى إصلاح الحروف العربية حتى يتمكن جميع الناس من قراءتها دون الحاجة إلى الصرف أو النحو فيسهل بذلك تعليم اللغة ونشر التعليم والقضاء على الأمية.
وعندما ولى لطفي السيد أمر المعارف في عام 1929م شكل لجنة كان من أعضائها الدكتور طه حسين والدكتور أحمد أمين والشاعر على الجارم وذلك لتعديل مناهج اللغة العربية وآدابها التي تدرس في المدارس الثانوية حتى تصبح أكثر مسايرة للعصر ولحاجات التلاميذ.
7ــ الجـــامـعــة الـمـــصـــريـــة :ـــ
كان لطفي السيد من الداعين إلى إنشاء الجامعة الأهلية المصرية كما اختير عضوا بمجلس إدارتها ثم حل بعد نشوب الحرب العالمية الأولى 1914 محل أحمد شفيق في وكالة مجلس إدارة الجامعة حتى إذا ما تحولت الجامعة الأهلية إلى جامعة حكومية في عام 1925 تولى لطفي السيد إدارتها لنحو أحد عشر عاما على أربع فترات الفترة الأولى فيما بين 1925/ 1928 والفترة الثانية فيما بين 1930/ 1932 والفترة الثالثة فيما بين 1935/1937 والفترة الرابعة والأخيرة فيما بين 1938/1941 وقد شهدت الجامعة خلال هذه الفترات تطورات هامة ونموا مضطردا وتقدما ملحوظا فتكونت عام 1925 من أربع كليات هي الآداب والعلوم والحقوق والطب وتزايدت أعداد طلابها باستمرار وتم إنشاء مبنى جديد لها في عام 1928، ثم ضمت إليها في عام 1935 كليات الهندسة والتجارة والزراعة والطب البيطري ووضعت لها اللوائح والأنظمة وفقا للتقاليد الجامعية السائدة في دول العالم المتحضر ، وقد حرص لطفي السيد في إدارته للجامعة على مبدأ استقلال الجامعة وإنشاء البيئة الجامعية التي تقوم على الإخلاص للعلم والتضحية في خدمته والاستقلال في الرأي والفكر والعمل لأن أساس التعليم الجامعي حرية التفكير والنقد على وجه الاستقلال ولأن التربية الجامعية قوامها حرية العمل والبعد عن التأثيرات الحكومية وتأثيرات البيئات العامية وعن تأثيرات البيئات السياسية المختلفة ولذلك فإنه عندما تدخلت وزارة المعارف في امور الجامعة بنقل الدكتور طه حسين من عمادة كلية الآداب إلى إحدى الوظائف بديوان المعارف في عام 1932 ولم يتردد لطفي السيد في تقديم استقالته من إدارة الجامعة احتجاجا على هذا التدخل وتمسكا بمبدأ استقلال الجامعة كما لم يتردد في عام 1937 عندما وصل تدخل الأحزاب بطلبة الجامعة لدرجة تضر بالإخاء الجامعي في ان يقدم استقالته مرة ثانية وقد عبر لطفي السيد في رسالة الجامعة عن رؤيته للتعليم الجامعي بأنه طريق العلم الصحيح فالأساتذة في الجامعة يختلفون عنهم في المدارس فغرض التعليم الجامعي تثقيف العقل لا ملء الحافظة وغرضه تنمية ملكة البحث العلمي ومعرفة مناهجه وأنماطه وتوسيع أفاق المدارك فالذي يعتمد الحفظ المجرد والذي يعتمد على الأستاذ يأخذ بنظرياته قضية مسلمة من غير تفكير شخصي وإقناع ذاتي كلاهما ليس طالب علم في حقيقة الأمر وإنما الخطأ في فهم أغراض الجامعة تصور ان أغراضها تنحصر في تحضير موظفين لإدارة الحكومة فلا يكون غرض الطالب إلا أن يقطع المدة المقررة للدراسة كيفما اتفق ليحصل على تلك الشهادة التي تؤهله للتوظيف وقد نشأت الجامعة لتؤدي رسالتها في تقديم العلوم والفنون في مدنيتنا الحاضرة ولتعارض التعليم العالي الحكومي الذي لم يكن له غاية سوى إيجاد موظفين للإدارة الحكومية.
والجامعة لا تفرق بين الرجل والمرأة فهي تقبل الفتيات المصريات طالبات في الجامعة لهن ما لاخواتهن الطلبة من الحقوق وعليهن ما عليهم من الواجبات وقد تم قبول الطالبات في الأسرة الجامعية في غفلة من اللذين من شأنهم ان ينكروا علينا اختلاط الشابات بإخوانهن في الدرس.
ونحن حريصون على استقلال الجامعة حتى لا تقع المؤثرات السياسية ويتضائل أمرها حتى تتحول إلى مكاتب دعايات للقاهرين والمستبدين فالتعليم الجامعي أساس حرية التفكير والنقد على وجه الاستقلال لا الحفظ والتصديق لكل ما يقال كذلك التربية الجامعية قوامها عندنا حرية العمل.
ومن رسالة الجامعة أن تقوم البحوث العلمية في العلوم وفي الآداب التي تنتج عندنا كما أنتجت عند غيرنا الزيادة على النظريات العلمية التي هي في تطور الجامعات الأخرى مما له صبغة علمية بحتة ومما له تطبيقات علمية تنفع الناس في أن تسخر لهم قوى الطبيعة ومواردها وليس خافيا أن الجامعة إذ تقوم بهذه الرسالة تحمل عن مصر واجبها من المشاركة العامة في رقي العلوم والمعارف ، ومن رسالة الجامعة تربية شبيبة الأجيال المتعاقبة لتهيئ للبلاد قادتها في جميع مرافقها وقد رأيتم بالحس أن قوة الأمة ومنعتها واحتمالها صنوف المزاحمة على الحياة ليست آخر الأمر إلا نتيجة لتربيتها الجامعية.
ومن رسالة الجامعة نشر الثقافة العلمية والأدبية في جميع طبقات الأمة سواء كان ذلك بإباحة الانتساب إلى المعاهد المختلفة من غير قيد ولا شرط أم بإلقاء المحاضرات العامة في العلوم والآداب والفنون أم بنشر المؤلفات في كل فرع من الفروع.
ومن رسالة الجامعة مساعدة التطور الاجتماعي بكل ما وسعها من ضروب التجديد في الآداب والفنون الجميلة وفي الموسيقى والغناء وكل ما من شأنه ترقية الأمة ، وأخيرا فإن الجامعة هي مصدر إشعاع يشع منه التضامن من النفوس ففي العائلة يولد التضامن وفي المدرسة ينشأ وفي الجامعة يشب ويؤتي كل ثمراته ويضرب المثل الأعلى على التضامن في جميع طبقات الشعب.
ولذلك فإن حركة الجامعة ونهضتها من أشرف ما وجد في هذ1 البلد من النهضات بل هي أكبر فائدة وأعظمها ضمانا للتقدم الحيوي المطلوب ولذلك وجب أن ينظر إليها دائما بعين الرعاية والارتياح وأن تلقى من علماء الأمة كل إقبال ومساعدة.
8ــ تــربــيــة الــبــنــــات :ـــ
كان لطفي السيد من أنصار تحرير المرأة والدفاع عن حقها في التعليم وكان موقفه في تأييد دعوة قاسم امين إلى تحرير المرأة موقفا مميزا وكان لطفي السيد دائم الدعوة لتعليم البنات لأن المرأة الفاضلة أنفع للأمة من الرجل الفاضل أضعافا والتعليم هو الطريق إلى سعادة البيت والأسرة المصرية ولا يمكن للمرأة أن تربي لنا رجالا أحرار وناشئة مستقلة طالما ظلت في عبوديتها فالعبد لا يربي حرا وإنما يربي عبدا مثله ثم إن التعليم يؤدي إلى سعادة العائلة لأن التعليم أوجد شبها عظيما خصوصا إذا كانت طريقة التعليم واحدة فتعالوا بنا إلى المدارس.
وخلوا بين البنات وبين سعادتهن ولا تضيقوا عليهن متع الحياة ولا تكسروا بأيديكم مستقبلهن ولا تعبثوا بسعادتهن اتباعا لهوى الغيرة وخوفا لما لا خوف منه.
ويذكر لطفي السيد في قصة حياته أنه كان من أنصار قبول الفتيات المصريات طالبات بالجامعة لهن ما للطلبة من حقوق وعليهن ما عليهم من واجبات وقد تم قبول الطالبات أعضاء في الأسرة الجامعية في غفلة من المنكرين لاختلاط الشابات باخواتهن في الدرس فقد حدث أن طلب إلى بعض عمداء الكليات في أول سنة لافتتاح جامعة فؤاد أن تقبل البنات الحائزات للبكالوريا فأسررت لهم في ذلك الحين أن هذه المسألة شائكة وأني أشك في رضا الحكومة عنها وعلى ذلك قررنا فيما بيننا أن نقبل البنات الحائزات على البكالوريا من غير أن تثار هذه المسألة في الصحف والخطب حتى نضع الرأي العام والحكومة معا أمام الأمر الواقع وقد نجحنا في ذلك وبعد أن سرنا في هذا النهج عشر سنوات حدث ما كنا نتوقعه فقد قامت ضجة تنكر علينا هذا الاختلاط فلم نأبه لها لأننا على يقين أن التطور الاجتماعي معنا وأن التطور لا غالب له ومعنا العدل الذي يسوى بين الأخ وأخته في أن يحصل كلاهما على أسباب كماله الخاص على السواء ومعنا فوق ذلك منفعة الأمة من تمهيد الأسباب لتكوين العائلة المصرية على وجه يأتلف مع أطماعنا في الارتقاء القومي كل أولئك جعلنا لا نحفل بهذه الضجة التي ما لبثت أن ذهب بها الزمان وهكذا يرجع الفضل في فتح آفاق التعليم الجامعي أمام الفتاه المصرية إلى لطفي السيد فبفضله قبلت البنات في الكليات الجامعية وتخرج أول فوج من الفتيات في عام 1933م ، عندما تخرجت ثلاث فتيات من كلية الآداب وفتاه واحدة من كلية الحقوق.
الـتـعــلـيـق عـلــى الـمــقـال الـثــالـث
1ــالتعليم والتوظف :ــ
إضافة لما قاله لطفي السيد عن تسخير الدولة للتعليم واعتباره مصدرا لصناعة مستخدمين يدور بهم دولاب الحكومة أقول حسب وجهة نظري أن التعليم ــ منذ ثلاثة عقود على الأقل ــ تم تسخيره فقط لصناعة موظفين للدولة المستبدة ، وهؤلاء الموظفون ينفذون برامج محددة لخدمة الحاكم وحاشيته ، ولا مجال هنا لديهم للتفكير في البحث العلمي أو تنمية القدرات الخاصة عند الطلاب ، أو توفير مناخ علمي وتعليمي صحي يُخرج كوادر علمية تقود الأمة للتطور والنهضة العلمية والاقتصادية والثقافية والحداثة بكل صورها ، وأكاد أجزم أن هذا لم يخطر ببال الحاكم المصري منذ عقود ثلاثة مضت على الأقل ، ولكن انصب تركيزه على تخريب الوعي المصري عن طريق مؤسسات التعليم والإعلام ، ولذلك لم تنجح مؤسسات التعليم خلال هذه الفترة إلا في صناعة ملايين من الموظفين أو العاطلين الراغبين في وظائف وأنصاف المتعلمين ، باستثناء فئة قليلة جدا نجحت في تحصيل العلم والثقافة ، وتحول هدف معظم المتعلمين البحث عن وظيفة لدرجة مَرَضِّية أصابت الجميع ، فتحول الطبيب والمدرس والمهندس والعَالِم والقاضي كلهم موظفون كل ما يشغلهم تنفيذ لوائح وقواعد العمل الجامدة العقيمة التي لا تبعث على الابداع أو التفكير أو الاجتهاد للإتيان بجديد ، وتجبرهم على الالتزام بقوانين العمل الجامدة ، فتحول المجتمع إلى مجتمع البحث عن وظائف بصرف النظر عن أهلية كل موظف لمهام وظيفته حتى لو حصل على شهادة بدرجة مقبول جدا وبالواسطة والمحسوبية والفساد الإداري والظلم يمكن تعيينه وكيل نيابة ويطلب منه أن يحكم بين الناس بالعدل ، فهذه هي سياسة النظام الفاسد المستبد حيث حـوّل المسار الطبيعي للحياة في المجتمع حسب شهواته ونزواته وأطماعه الخاصة فتحولت مؤسسات التعليم من خدمة الوطن وتخريج علماء وباحثين في كل المجالات إلى مؤسسات لصناعة (مستخدمين) لخدمة السلطان المستبد في كل مؤسسات الدولة بلا استثناء.
ولا يمكن إطلاقا أن ننتظر من حاكم مستبد يفكر بهذا الأسلوب الإجرامي أن ينظر بعين الرأفة لتنمية الحس والوجدان والمشاعر وتهذيب النفس والارتقاء بها في مؤسسات التعليم لأن هدفه المنشود خلق أجيال نصفها مشوه فكريا والنصف الآخر يحظى بأقل درجات التعليم ليحصل على وظيفة حكومية ، وينغمس في دولاب العمل الحكومي ، وهذه السياسة الفاسدة أفسدت الذوق العام عند معظم المصريين وظهر ذلك جليا في الذوق الفني وتذوق الموسيقى والغناء.
2ــالاستظهار :ــ
في الحقيقة لدي استفسار أريد له إجابة رغم موافقتي أن أسلوب الكتاتيب في التعليم أسلوب خاطئ لأنه كان يعتمد على التلقين من طرف والحفظ والسمع والطاعة من طرف ثان وكان يعتمد على الضرب والشدة والعنف مع المتعلمين الأطفال ، لكن رغم ذلك فقد نجحت الكتاتيب في تعليم رموز مصرية منهم أحمد لطفي السيد نفسه ، وطه حسين ومحمد عبده ورفاعه الطهطاوي وعشرات آخرون تعلموا وتربوا في طفولتهم في الكتاتيب المصرية قبيل الالتحاق بالمدراس الإلزامية أو الأزهر ، لكنهم برعوا ولم يتأثروا بأسلوب الحفظ والتلقين ولم يتأثروا بالشدة والعنف في التعليم وهذه مسألة تحتاج لدراسة مستقلة ، وفيما يبدو أن سبب هذا النجاح لهذه القلة يعتمد على ظاهرة الفروق الفردية بين المتعلمين وأن هؤلاء كانوا يرغبون ويحبون العلم بدرجة كبيرة ، وهذا بالطبع لا يعني أنني أؤيد الضرب أو الشدة أو أسلوب التلقين والحفظ في التعليم ، لكنه مجرد استفسار مطروح للنقاش.
3ــ التعليم للجميع :ــ
في عهد لطفي السيد كان أبناء الطبقة العليا يحظون بالتعليم دون غيرهم من أبناء الفلاحين أو الطبقة الفقيرة التي تعمل وتكد وتتعب لتصنع الأمن الغذائي لهذا البلد (مصر) باعتبارها بلدا زراعيا ، وكان أبناء الطبقات العليا يغضبون ويرفضون انخراط الفقراء وأبناء الفلاحين في التعليم حتى لا تتساوى الرؤوس ، وساهم في هذا الفقر الشديد والإقطاع والاستبداد فخوف الأثرياء من تعليم الفقراء لأنهم سيفقدون الأيدي العاملة التي تزرع لهم أراضيهم وتقوم بخدمتهم ، وهو نفس المبدأ الذي سار عليه المستبد العسكري فيما بعد حين فتح مؤسسات للتعليم لصناعة مستخدمين لكن الفارق الوحيد أنهم أصحاب شهادات ورقية ليس أكثر ، والتحول الغريب في العقود الثلاثة الماضية أن أبناء الطبقة الفقيرة تفوقوا وتخطوا بمراحل أبناء طبقة الأثرياء فتخرج القضاة والأطباء والمهندسون والمحامون والضباط والوزراء ، وأصبح التنافس شديدا بينهما لدرجة رجحت كفة أبناء الفقراء في التفوق العلمي ، وفي عصرنا التعيس ظهرت مؤسسات تعليمية خاصة تبيع الشهادات ، وهذه إحدى مصائب التعليم في مصر حين يشتري كل فاشل وكل راسب شهادة لأنه يملك المال ، ليس هذا فحسب فرغم فشله علميا ومعرفيا ودراسيا إلا أن المال منحه الفرصة لشراء شهادة جامعية يسرق بها وظيفة يحلم بها مواطن فقير مجتهد أحق منه وأكفأ.
ولا أجد اختلافا كبيرا بين خوف الأثرياء في عهد لطفي السيد من انتشار العلم والثقافة بين الفلاحين والفقراء والبسطاء ، وبين سياسة مبارك الفاسدة التي كان كل همه تخريب الوعي المصري وتجريف العقول وتخريب مؤسسات التعليم لتغييب الشعب كله ، وبعد كل هذا يناقش الاخوان مسألة العفو عنه في برلمان ما بعد الثورة.
4ـــ الامتحانات :ــ
اقتصر نقد لطفي السيد لنظام الامتحانات في أنها أصبحت وسيلة للحصول على شهادات ، ويتم تحصيل العلوم لنفس الغرض دون أي اهتمام يذكر بتربية الشعور وتثقيف العقول ، ورغم اتفاقي معه في هذا إلا أن المشكلة في عصرنا ازدادت سوء ، ففي السابق وفي عهد لطفي السيد كانت الامتحانات وسيلة للنجاح والحصول على شهادات دون تربية وتثقيف للمتعلمين ، لكن اليوم أخذت الامتحانات الصبغة الفاسدة للنظام السياسي الحاكم بحيث يحاول معظم المتعلمين أن يجتاز أي امتحان مهما خالف القوانين والأعراف والمبادئ والقيم والأخلاق ، لدرجة أن طلاب الأزهر يمزقون صفحات المصحف لكي يجتازوا امتحان القرآن الكريم في الجامعة ، وهذا ما شاهدته بأم عيني في كلية التربية بالأزهر ، ومن وجهة نظري أرى أن هذا الأمر لا ينفصل عن العقيدة الراسخة عند معظم المسلمين التي تجعلهم واثقون أنهم سيدخلون الجنة في الآخرة مهما ارتكبوا من سيئات وكبائر بفضل الشفاعة ، فإذا كانت نظرتهم لأصعب امتحان سيدخلونه بهذا المستوى فهل يمكن أن ننتظر منهم أن يحترموا امتحانات دنيوية في مؤسسات التعليم.؟ ، فلابد من تغيير هذه العقيدة وتحل محلها عقيدة من يعمل سوء يجز به وكل نفس بما كسبت رهينة ولا تزر وازرة وزر أخرى ، وهذه هي بداية الإصلاح الحقيقي في مؤسسات التعليم وباقي مؤسسات الدولة.
وانعكس الفساد السياسي المتفشي في المجتمع في مؤسسات التعليم وتحول التعليم إلى تجارة بفضل غياب الرقابة المقصود والمتعمد من الدولة ، مثل حالة الفارغ الأمني الحالية ، وانتشار مافيا الدروس الخصوصية ، وأصبح التعليم اليوم في قاعات الدروس الخصوصية لدرجة أن معظم الدارسين ينظرون نظرة سخرية لمؤسسات التعليم الحكومية ولا يهتمون بالحضور طوال العام ، رغم أن المدرسين هنا وهناك لم يتغيروا ، ولكن المتغير الوحيد هو الضمير الإنساني للمدرس ، فقد أصيب معظم المدرسين بانفصام في الشخصية ، وسبب أصيل في هذا فساد النظم السياسية الحاكمة ، الذي صاحبه اهتمام المجتمع بالتدين الظاهري الشكلي.
فلا مجال هنا للحديث عن تثقيف العقول أو تربية القلوب فلغة المادة تسيطر على العلاقة بين الجميع ويعلو صوتها وقد ساهم ذلك في انهيار صورة المعلم منذ بدأ يمد يده لأخذ أجرة عمله من تلميذه ، وأقدم رأيي الشخصي في هذه المسألة لو اضطر مدرس لإعطاء دروس خصوصية فلابد أن يؤدي واجبه في عمله أولا ، يجعل تعامله المادي مع اولياء الأمور ولا شأن ولا تدخل للطالب في هذا مطلقا ولا يقبل أن يمد يده ليأخذ منه أجرة الدرس.
5ـــ الـتـعـلـيـم والـســلام العـالـمـي :ــ
رغم اتفاقي الجزئي مع لطفي السيد أن النظم الديكتاتورية هي سبب ما نحن فيه الآن من سلبيات في الشخصية المصرية ، فقد خلقت مواطن أناني يبحث عن تحقيق مصالحه الشخصية مهما كان الثمن حتى لو ظلم غيره وسرق حقوقه واعتدى عليه ، فقدساهم هذا النظام السياسي الفاسد في خلق جو من العداء والخوف والتخوين بين أبناء الوطن الواحد ، لكن هنا لا يجب أن ننكر أن التدين الذي سيطر منذ ثمانية عقود كان له تأثير كبير جدا لا يقل أهمية عن تأثير النظام السياسي الفاسد في صناعة هذا المواطن بهذه الصفات السيئة والأخلاق المتواضعة ، ولا يمكن أبدا أن يكون هناك علاقة بين التدين الوهابي المسيطر في مصر وبين السلام العالمي فقد تربى قطاع كبير من المصريين على أن كل من يخالفهم في الرأي الديني أو الدين والعقيدة كافر ومرتد ويجب قتله إذن السلام الوطني لن يتحقق في وجود هذا البلاء المسمى التدين السني الوهابي الذي يدعو لقتل الآخر لمجرد الاختلاف في وجهة النظر في إحدى قضايا الدين والعقيدة ، ولا يستطيع مصري أن ينكر أن الوهابية اخترقت جميع مؤسسات التعليم وسيطرت عليها وجيشت ملايين الأطفال والشباب والموظفين وتم القضاء على مبادئ حرية الرأي والفكر والمعتقد وحلّ محلها مبدأ واحد هو (السمع والطاعة في المنشط والمكره) ، وهنا مكمن الخطورة على مصر وعلى أمنها القومي وأمنها العالمي ، ولذلك كتبنا هذا الكلام حرصا على مستقبل مصر ، وفي ظل هذه الثقافة ليس من المنطق أبدا أن تطلب من إنسان يُكفر كل من يخالفه الرأي أن يقوم بواجبات تجاه إنسان آخر ، لكن الأهم أولا أن نصلح فكره وفهمه للدين ونبين له حقوقه وواجباته وحدود هذه الحقوق والواجبات.
6ــ الـلـغـــــة الــعــــربـيــــة :ــــ
اتفق مع لطفي السيد في مطالبته بتجديد أنماط وأساليب أنمااللغة العربية ، واعتبرها هي المشكلة ، و من وجهة نظري التي تقبل الخطأ أن السبب في استخدام بعض الألفاظ القديمة قد يرجع لسببين:ـ الأول:ـ الاحتلال وما تركه من ثقافة في المجتمع مثل بعض الألفاظ التركية التي لازال يستخدمها المصريون إلى الآن مثل(أجزخانة وعربجي وبلطجي وغيرها من الألفاظ) السبب الثاني:ـ المناهج التعليمية الأزهرية التي كانت تستخدم بعض المفردات الغريبة ولا زالت موجودة في كتب الفقه والحديث والتفسير مثل (قُـلّة أو قلتين وهي خمسمائة رطل بغدادي تقريبا) وهي كلمات تعرب عن حجم معين من الماء وأعتقد أن معظم الدارسين لا يعرفون معنى قلة ولا رطل ولا بغدادي.
والأمر الذي يدعو للشفقة والحزن والأسى والحسرة على الثقافة المصرية الحالية مقارنة بسيطة جدا بين عصر لطفي السيد وبين عصرنا البائس بعد أن سيطر الفكر الوهابي على العقول والقلوب ، عندما فكّر لطفي السيد في تجديد وتعديل مناهج اللغة العربية بعد تعيينه وزيرا للمعارف استعان بــ (طه حسين ، علي امين ، الشاعر علي الجارم) ، لكن في عصرنا التعيس أصبح طه حسين متهما بالكفر ولا أجد سببا آخر في هذه الردة الفكرية والثقافية إلا انتشار الوهابية ، ولذلك لابد أن يستيقظ الشعب المصري سريعا ويتخلص من هذا الوباء والمرض اللعين.
7ــ الجـامـعـــة الـمـصـــريـة:ــ
اتفق تماما في وجهة نظر لطفي السيد في كل ما تفضل به وكل ما قاله عن الجامعة المصرية ، لأن الجامعة هي الوسيلة التي تساهم في تنمية الفكر والعقل والوجدان وتساعد الشباب على الإبداع والانطلاق في كل المجالات ، والحرية الفكرية والعلمية وتوفير المناخ المناسب هو السبيل لخلق أجيال تقود الأمة بفكرها وإبداعها الغير محدود بدلا من الانبطاح أمام فكر رجعي يجعل الأستاذ الجامعي إلاها ، مثله مثل مدرس الاعدادي والثانوي ، وهنا تكتمل عملية قتل إبداع الشباب ، وكل هذا لا ينفصل أبدا عن الفكر الديني المسيطر والمنتشر في مصر الذي يُحرم النقاش والخلاف والاختلاف مع المعلم وإمام المسجد وعامة المجتمع ، ويحرم الخروج على الحاكم والإمام أو ولي الأمر كما نادى السلفيون والاخوان في أيام الثورة الأولى ، وكذلك يُحرم التعبير عن أي وجهة نظر مخالفه للجماعة ويؤكد هذا أحاديث مزيفة نسبوها زورا لخاتم النبيين تتهم كل من يخرج عن فكر الجماعة (الأمة) بأنه كافر ويحل قتله ، وبمرور الوقت أصبحت توابع ومؤثرات هذه الثقافة هي السائدة والحاكمة لكل قضايا الحياة اليومية في العلم والدين والسياسة وحتى كرة القدم ، فعندما يتفق مجموعة على رأي معين ويبدي أحدهم رأيا مغايرا يغضبون منه ويثورون عليه رافضين رأيه بشدة ورافضين اختلافه معهم ، وتوارثت هذه الثقافة وأثرت في جميع مؤسسات الدولة وفي جميع مناحي الحياة ، وقتلت لغة الحوار وتعدد الآراء واحترام وجهات نظر الآخرين حتى لو كانت صحيحة.
8ــ تـربـيـــة الـبـنـــات :ــ
لا يمكن أن يختلف إنسان عاقل مع لطفي السيد في وجهة نظره وموقفه واهتمامه بتعليم البنات ، ومطالبته بحقوقهن مثل الأولاد على السواء ، اتفق معه تماما لأن المرأة نصف المجتمع ، بل أكثر من هذا فعلا إن تعليم البنات أنفع للأمة كما تفضل لأن المرأة تصبح أُمّا ومسئولة عن تربية أسرة كاملة ، وحسب تربيتها وثقافتها ومجالها المعرفي سينشأ الأبناء الذين سيساهمون في تشكيل ملامح الثقافة العامة في الدولة ، ولذلك تعاون المستبد العربي العسكري مع المستبد الديني ضد المرأة وحولوها إلى وسيلة للمتعة والإنجاب وحرموها من معظم حقوقها التي منحها ربنا جل وعلا للذكر والأنثى ، وتم تعليب معظم البنات داخل النقاب ووضعهم في مستوى علمي محدود جدا بسبب انتشار مدارس التعليم الفني التي لا يزيد مستواها كثيرا عن شهادات محو الأمية للمتخرجين منها ، ومعظم خريجي هذه المدارس الفنية من البنات اللاتي سرعان ما يتزوجن وينجبن أبناء وبنات ، وبكل أسف وأسى يسهل مع هذه العقلية التي لم تحظى بأقل قدر من العلم والثقافة والمعرفة أن تفرق بين الصواب والخطأ ويسهل تحويلها لأمِ مثالية لتربية أطفالها على الوهابية ، ويرجع الفضل في هذا لعشرات الفضائيات التي تدعو للوهابية ليل نهار ، وهذه الفضائيات تمثل الدين من وجهة نظر شريحة كبيرة من المصريين ، ومعظمهم من الأميين وأنصاف المتعلمين ، وبمجرد أن ينشأ الطفل ويجد هذه القنوات مفتوحة ليلا ونهارا في البيت يتلقى منها دروس الكُـرْه (من الكراهية) والبغض والحقد وتكفير الآخرين وتقديس رجال الدين ، كما يتلقى الجمود والجهل والانبطاح والسمع والطاعة فيتحول هذا الطفل في المستقبل إلى حمار ، وهذه ليست سبة ، لأن ربنا جل وعلا يصف من يحمل القرآن أو يحمل كتب العلم النافع ولا يقدره ولا يقدر ما فيها بأنه مثل الحمار الذي يحمل الأسفار.
وإلى اللقاء في المقال الرابع ...
التعليقات (0)