مع كل جولة من جولات ميتشل الشرق أوسطية, يتجدد الحديث عن التمسك الإسرائيلي بسلة الحلول المرحلية وفكرة الدولة الفلسطينية ذات الحدود المؤقتة والترتيبات الأمنية والبناء الاستيطاني, مقابل تجدد الرفض الفلسطيني للدولة المؤقتة واستمرار النشاط الاستيطاني وبالتالي التمسك بسلة الحلول الدائمة والنهائية, دون ظهور أي بارقة أمل لإعادة قطار المفاوضات إلى مساره المتجمد منذ نهاية العام 2008 باستثناء محاولات أميركية عبثية لتدشين حوار غير مباشر يمهد لحوار مباشر, يعيد لعملية التسوية بريقها, في إطار التبني الأميركي في إدارتي بوش الابن و أوباما على حد سواء لفكرة حل الدولتين.
فكرة حل الدولتين ليست وليدة اللحظة، بل بدأ الحديث عنها منذ العام 1937 وتكرست على أرض الواقع في 29 تشرين الثاني/نوفمبر 1947 بصدور قرار التقسيم 181 عن الجمعية العامة للأمم المتحدة, والذي استغلته الحركة الصهيونية حينها بإعلان قيام دولة إسرائيل والاعتراف الدولي بها, في حين أدى إعلان حكومة عموم فلسطين بأن فلسطين بحدود الانتداب "دولة مستقلة" إلى رفض الأمم المتحدة الاعتراف بذلك، وبالتالي تمخض حرب 1948-1949عن ضم الضفة إلى الأردن ووضع القطاع تحت الإدارة المصرية, ونشوء ما بات يعرف بالخط الأخضر ومن ثم توجه منظمة التحرير الفلسطينية في 15 تشرين الثاني/نوفمبر 1988 إلى إعلان استجابتها لحل الدولتين على أساس القرار 181, وهو ما نال حينها اعتراف 120 دولة, ما أدى إلى منح المنظمة نظرياً حق التمتع بوضعية الدولة, لكن دون تمكنها من ممارسة استقلالها على أرض الواقع خصوصاً وأن إعلانها يأتي على مقربة من فك الارتباط بين الأردن والضفة 1974.
انقسام الموقف الفلسطيني منذ تسعينيات القرن الماضي حول ملامح وحدود وطبيعة الدولة التي يحلمون بها ويناضلون من أجل تحقيقها, انسحب بصورة تلقائية على الجانبين الإسرائيلي والأميركي, وما بينهما كانت المسودة الثالثة لخريطة الطريق وتحفظات شارون الـ 14 هي الفيصل في هذا الصراع حول مفهوم الدولة الموعودة، والأمر الواقع الذي لا مفر منه وسط رزمة ثقيلة من الهموم والتحديات والإشكاليات المتراكمة منذ نشوء دولة الاحتلال والمتعاظمة بصورة لافته بعد إطلاق قطار التسوية من مدينة مدريد عام 1991 وما تمخض عنها من سيناريوهات لا تزال حتى الآن مصطدمة بجدار التصلب الإسرائيلي والضعف الفلسطيني والوهن العربي وغياب الجدية الأميركية في حل الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي.
هذه الأمور مجتمعة أوجدت عدة سيناريوهات لطبيعة وحدود الدولة الموعودة منها: إقامة دولة فيدرالية علمانية واحدة تضم الفلسطينيين والإسرائيليين, إقامة دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة على كامل ارض فلسطين التاريخية, تبنى خيار مقاربة الدول الثلاثة أي تقسيم فلسطين على إسرائيل والأردن ومصر, وهو سيناريو بعيد المدى, ومبدأ حل الدولتين وهو ما يعنينا هنا، وهو يقوم على أساس قيام دولتين يهودية وفلسطينية, لكن الخلاف حول هوية الثانية: هل تكون ذات حدود مؤقتة, والذي يعني الدفع في نهاية المطاف إلى جعلها حدوداً دائمة أو جعلها محطة عبور للانتقال المتدرج نحو خيار الدول الثلاث, إلى جانب طرح خيار ثاني يقوم على أساس نشوء دولة فلسطينية ذات حدود دائمة، والإشكالية هنا هل تكون في حدود 1967 أم في حدود 1948 والسيناريو الأخير هو استمرار تجربة الحكم الذاتي الفلسطيني على حاله.
وكون الفلسطينيين اليوم محشورين بين خيار الدولة المؤقتة وخيار استمرار الحكم الذاتي باعتبارهما الأكثر واقعية في نظر إسرائيل وأميركا لذا سنركز عليهما دون سواهما في هذه الوقفة السريعة انطلاقاً من رؤية نتنياهو الهادفة بالمقام الأول إلى تصفية القضية الفلسطينية نهائياً واستبدال شعار "السلام للنهوض بالاقتصاد" إلى شعار "الاقتصاد للنهوض بالسلام" باعتبار أن أصل المشكلة اقتصادي بحت وهو مشروع كارثي لكنه حقيقي نظراً لوجود من يؤيده في الأوساط الفلسطينية والعربية.
رؤية نتنياهو
عرض نتنياهو في نيسان/ أبريل 2010 إقامة دولة فلسطينية بحدود مؤقتة, كان الهدف منه تحفيز عباس للعودة إلى طاولة المفاوضات المتوقفة منذ نهاية العام 2008 ,ولذا فهولم يكن مفاجئاً على اعتبار أنه يأتي بعد طول رفض لمبدأ حل الدولتين, لعدم إتيانه بجديد, حيث سبق لخريطة الطريق في نسختها الثالثة الدعوة إلى تبني هذا الخيار ضمن أجندة المرحلة الثانية منها.
ومعلومٌ أن خارطة الطريق لم تكن لترى النور لولا مراعاتها لتحفظات شارون ومن ضمنها عدم العودة إلى حدود 1967 وبقاء الكتل الاستيطانية تحت سيطرة إسرائيل، وأن يتم تحديد طبيعة الدولة الفلسطينية من خلال مفاوضات ثنائية بحيث تكون مؤقتة وذات حدود غير دائمة وذات سيادة محدودة ومنزوعة السلاح وإسقاط حق العودة للاجئين الفلسطينيين.
فيما أضاف نتنياهو إلى ذلك اعتبار القدس بشقيها عاصمة أبدية موحدة لإسرائيل والتمسك بسيطرة كيانه على منابع المياه وثروات البحر الميت وأخذ الوقائع الميدانية بالحسبان، والأهم من ذلك اشتراطه جعل الأولوية المرحلية للتطبيع ونزع سلاح المقاومة وزوال التهديد النووي الإيراني.
كما هو معلوم أيضاً أن خريطة الطريق قد أجلّت البت في مستقبل القدس إلى المرحلة الثالثة والتي يفترض فيها حسم قضايا الحل النهائي في سياق السلام الشامل والتطبيع.
الموقف الإسرائيلي في إطاره العام، بغض النظر عن من يحكمه، يكاد مُجمِعاً فيما يتعلق بالنظر إلى الدولة الفلسطينية في سياق الاعتبارات الدينية والتاريخية والإستراتيجية والاقتصادية والأمنية والسياسية, ولذا فهو لم ولن يكون في وارد القبول بقيام دولة فلسطينية ذات سيادة, ما نجد مدلولاته في تشابه المواقف لدى حكومات الاحتلال المتعاقبة, منذ انطلاق مؤتمر مدريد, وهو ما يُسقِط عامل المفاجئة عن عرض نتنياهو المتناقض كليةً مع الممارسات الميدانية لكيانه ويكشف حقيقة التوجه إلى فرض سياسة الأمر الواقع فيما يتعلق بالحل الدائم والذي يتوقف بصورة أساسية على: الانتهاء من انجاز جدار الفصل العنصري و تسريع عمليات الاستيطان في الضفة والقدس الشرقية و التأكد من أن عدد يهود الكيان قد تجاوز العشرة ملايين نسمة والانتهاء من انجاز السلام على المسارين السوري واللبناني وزوال التهديد الإيراني, حينها فقط سيكون مستعداً لمناقشة قضايا الحل النهائي, وإقامة الدولة الفلسطينية على القطاع وما تبقى من الضفة ودون القدس الشرقية طبعاً.
فكرة الدولة المؤقتة، حسب الكاتب الفلسطيني جواد البشيتي، ليست في حد ذاتها مدعاة للرفض أو القبول من الجانب الفلسطيني, فهي يمكن أن تكون موضع قبول فلسطيني, بطريقة تجعل إسرائيل هي الرافضة والمتشددة في رفضها, في حال نجح الجانب الفلسطيني بتضمين ذلك اتفاق مرحلي يكون مقدمة لمعاهدة دائمة يجرى توقيعها بعد حسم نقاط الجدل الرئيسية, شريطة عدم تعارض الحدود المؤقتة مع فكرة أن بعض حدودها يجب أن يكون مؤقتاً وبعضها يجب أن يكون دائماً.
فغزة باعتبارها جزاءً من إقليم الدولة الموعودة يجب أن تُعين حدود دائمة لها مع إسرائيل ومصر, أما الضفة المستثنى منها القدس الشرقية, فيجب أن تصبح كلها باستثناء المستوطنات, جزءاً من إقليم الدولة المؤقتة, والمؤقت من حدود الضفة يجب أن يقترن بالدائم منه, ألا وهو حدودها مع الأردن, وفيما يتعلق بالقدس الشرقية فالأحياء العربية تضم إلى الدولة الموعودة والأحياء اليهودية تضم إلى الكيان والمختلطة يتم إخضاعها لإدارة دولية مؤقتة, وهذا المؤقت من حدود الدولة الفلسطينية يصبح مشتركاً بينها وبين إسرائيل, حينها فقط تكون الفكرة مقبولة فلسطينياً. لكن ما يريده نتنياهو يبدو على النقيض تماماً, ما يعزز نقائض الفكرة، وبالتالي استمرار الاختلافات في القضايا الأكثر حساسية بما يهدد بالانفجار في خاتمة المطاف.
"ألوف بن" في مقال له نشرته هآرتس بتاريخ 28 نيسان/ أبريل 2010 خلص إلى أن كيانه يريد من وراء طرح فكرة الدولة المؤقتة, التخلص والتحرر من عبء السيطرة على الفلسطينيين داخل الكيان والاحتفاظ بأكثر المناطق والمستوطنات والسيطرة الأمنية في الضفة والانفراد بالقدس, والاكتفاء بإطلاق الدعوة لتطوير سلطة عباس وفياض إلى مكانة الدولة المؤقتة, لإعفاء الكيان من مسؤوليتها, كي يتم البت في الخلاف حول ما تبقى من المناطق المتنازع عليها والقدس واللاجئين بين دولتين ذات سيادة لا بين المحتل والخاضعين له.
وهنا تأتي أهمية مقترح معهد "رئيوت" الإسرائيلي العام الماضي بخلق مسار موازي للتقريب بين طرفي الصراع يقوم على أن تعرض أميركا رؤية للتسوية الدائمة كي تمنح الفلسطينيين أُفقاً سياسياً، وأن تنشأ دولتهم المؤقتة باعتبارها التسوية الأكثر عملية سواء باتفاق ثنائي أو بإجراء إسرائيلي من طرف واحد, والتي بموجبها سيستطيع الكيان الاكتفاء بإخلاء ضئيل ومحدود للمستوطنات والبؤر الاستيطانية, وأن يحافظ على السيطرة الأمنية باعتبارها تحتل الأولوية لدى كيانه, وألاّ تُمس القدس في هذه الأثناء، ولا يُطلب إلى الفلسطينيين أن يمنحوا شيئاً عوضاً عن ذلك, لا اعتراف بالدولة اليهودية ولا تخلِّياً عن حق العودة اللذين يطلبهما نتنياهو كشرطين للتسوية الدائمة. وبذلك يكون كيانه قد تخلص من العبء الفلسطيني وربما كسب العرب إلى صفه في منازلته المصيرية مع الخطر الإيراني.
رؤية مستقبلية
من المؤكد أن "المؤقت" في القاموس الإسرائيلي هو الدائم أو شبه الدائم, ما يعني أن فكرة الدولة المؤقتة ستعني فيما تعنيه إطالة أمد المفاوضات قبل الوصول إلى سلام شامل على خلفية الإشكاليات والمعوقات المعترضة مسار الحل الشامل, والتي عجزت معها كل المحاولات الإقليمية والدولية طيلة العقدين الأخيرين في التقريب بين الحد الأعلى الإسرائيلي والحد الأدنى الفلسطيني, وهو ما يرجح استمرار سيناريو سلطة الحكم الذاتي الفلسطينية الحالية, لاسيما وأن العرض المسرحي للدولة المؤقتة ليس سوى ذريعة لما هو أبعد, وهو اصطياد عدة عصافير بحجر واحدة, منها: إطلاق عملية التطبيع وإضعاف موقف قوى المقاومة وتوفير موقف عربي متضامن حيال الملف النووي الإيراني وتحريك المسارين السوري واللبناني.
إذن ليس هناك أي بوادر إسرائيلية أو أميركية, توحي بوجود الاستعداد لطي ملف الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي, وإنما يوجد توجه ممنهج يقوم على أساس الاستمرار في إدارة الأزمة لمنع حدوث السيناريو الأسوأ المتمثل في سقوط مشروع التسوية بشكله الحالي وسقوط سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني وعودة المقاومة المسلحة والمدنية بشكلها الأول.
وحتى لو سلّمنا جدلاً بنجاح فكرة الدولة المؤقتة, فهي لن تكون دولة ذات سيادة تامة بل مجرد دويلة لا تتعدّ صلاحياتها حدود العلم والنشيد الوطني, وهو ما تريده إسرائيل, دولة فلسطينية مقطعة الأوصال مسلوبة الإرادة والسيادة, يتحكم الاحتلال في قرارها ومياهها وأجوائها وحدودها وأمنها واقتصادها, وكلها حقائق مقدسة لدى الكيان الصهيوني.
وهو ما يؤكد حقيقة أن الموقف الفلسطيني بما فيه المعتدل والموقف الإسرائيلي في حال حدثت معجزة واعتدل, "ضدان لا يلتقيان", وأن نتنياهو لا يختلف عن سلفه شارون إلا بالمزيد من التطرف في رسم حدود الدولة اليهودية وإلغاء أي حدود أخرى لا تنسجم مع مشروعه العنصري.
التعليقات (0)