ليلة أمس . خرجت لتمضية أمسية صيفية شبه دورية مع صحبة العمر الممتدة لأكثر من ربع قرن .. لينساب حديث الذكريات الذي لطالما نجتره ونكرره وكأننا نخشى أن ننساها .. قطع أحدهم الحديث بأنه مدعو ( ونحن معه بالطبع) إلى احتفال أقامه رجل يعرفه بمناسبة رؤية ابنه للنبي صلى الله عليه وسلم في المنام !..
انتبه الجميع للحديث قال صاحبنا .. إن الولد بمجرد أن استيقظ من نومه أخبر أبواه بخبر رؤيته للنبي في المنام فتهلل أبوه بالفرح وقرر إقامة احتفالية بهذه المناسبة وذبح خروفاً ودعا الأقارب والجيران وقد قابل صاحبنا في الطريق فدعاه مشدداً عليه تلبية الدعوة إلى احتفاليته التي صادفت وقت جلستنا في أمسيتنا .. أمسية الصحبة والذكريات ..
قررنا جميعاً ودون تردد ورغم عدم معرفتنا بصاحب الدعوة تلبية دعواه .. كنا ثمانية أفراد طبيب وموظف وصيدلي ومعلمان وتاجر ومهندس بالإضافة لي .. وصلنا إلى مكان الحفل .. سرت في جسدي رعشة أعرفها جيداً لطالما شعرت بها حين دخولي المسجد النبوي بالمدينة المنورة .. إحساس رهيب تستشعره وأنت لا تكاد تصدق نفسك بأنك بالقرب من جسد النبي محمد بن عبدالله لا يفصلك عنه سوى بضع خطوات وبعض الحواجز .. خليط من الرهبة والفرحة والخشوع والحب والخوف والشعور العجيب أنك تغتسل وأنت واقف من ذنوبك ..
على ناصية المكان كان يقف بعض الشباب الصغير.. أشار صاحبنا على أحدهم يقف وسطهم مرتدياً زيا خليجياً عبارة عن جلباب أبيض وشال وعقال .. عرفنا انه هو المعني بالاحتفال .. استقبلنا صاحب المكان بالترحاب بينما توقفت أنا للسلام على إبنه.. صبي في الثالثة عشر من عمره تقريبا .. سألته .. هل رأيت النبي حقاً في المنام.. قال نعم .. قلت صف لي ملامحه ( وأنا استعيد بكل كياني حديث أم معبد ووصفها للرسول صلى الله عليه وسلم) .. فوجئت به يرتبك ويقول لي أنه رأي طيفاً أبيض ثم تركني بسرعة واندس بين أصحابه .. عرفت أنه لا يقول الصدق وأنه لم يرى شيئاً .فكيف صدقه أبوه .. وعلام أقام الاحتفال وأذاع الخبر بين الناس ؟! . .
دخلت خلف أصحابي إلى (الاحتفالية) وفوجئنا جميعاً بمنظر لا يخطر على بال أحد ..دخان غليظ يلف المكان .. وروائح قوية نفاذة تنبعث منه .. درجات شم الدخان عندنا عالية .. فجميعنا لا يدخن باستثناء اثنين منا (طبيب) و(التاجر) .. وجدنا صفين طويلين من الرجال والشباب الجالسين .. أغلبهم منحني على الأرض يلف أشياء بيديه وغيرهم يدخن بالنارجيلة.. وغيرهم يتراقصون على إيقاع الطبل والمزمار البلدي وكاميرات التصوير الفيديو تتنقل بينهم وهم منتشون وأحدهم يستقبل (المعازيم) ويرحب بهم بواسطة ميكروفون..
وقف أصحابي في زاوية جانبية وهم في قمة الارتباك .. بينما قمت بتجميع بعض المعلومات الأولية عن شخصية وعمل وحياة صاحب الاحتفالية وأسرته . . ثم أطلقت جيوش التأمل عندي من عقالها .. عرفت أنه رجل غير متعلم .. لم يدخل المدرسة في حياته .. وكذا أولاده يعملون معه بذات حرفته .. وفي نهاية كل يوم عمل .. يجلس في بيته لا يغادره ومعه بعض الصحبة يتعاطون مخدر البانجو بعد أن غلا سعر الحشيش .. هذه كل حياته . هو رجل غير مؤذٍ لأحد .. لايقترف جرائم .. لا يعادي الجيران.. فقط يعمل بالنهار .. ويتعاطى المخدرات بالليل .. طبعا لا صلاة ولاصوم وغيره..
تساءلت .. ولماذا زعم له ابنه أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام !!.. ولماذا صدقه الأب !!.. ولماذا قرر الإحتفال بهذه المناسبة!!.. ولماذا كان تعبيره وترجمته لواقعة الرؤية بافتراض صحتها أن يقيم احتفالاً يكرم فيه أصدقاء البانجو ويغدق عليهم من شربه!! ..وهل صارت الازدواجية وفصام الشخصية عند الناس أن يعبروا عن عاطفتهم الدينية بما يناقضها تمام النقيض!!.. يحتفل برؤية النبي في المنام بشرب المخدرات؟!
كدت أصف ذلك الرجل بالجهل والخبل والجنون .. ولكنني حينما أدرت وجه عقلي .. ليس تجاه الجهال من الأمة.. ولكن تجاه علماء الأمة فأجد أن ذروة سنامها من علمائها هم أيضاً يقيمون احتفالاتهم على نسق احتفال صاحبنا بتاع البانجو ولكن بطريقة مودرن تتناسب وفخامتهم .. احتفالات يتعاطون فيها أحاديث رضاع الكبير والنقاب وقيادة المرأة للسيارة ومدى جواز لعب المرأة للرياضة ومدى جواز عملها بالتعليم أو بالقضاء .. بينما باقي الدين تركوه مهجوراً تتكالب الأمم على المسلمين من كل جانب !!..
وحار الناس .. بينما الأنظمة مبسوطة ومستريحة تفتتح لأخواننا العلماء الفضائيات ليطلون منها على الناس ما بين المنمص لحواجبه وبين الزارع لشعره وبين المرتدي لأفخم أنواع الساعات وبين المؤدي لنموذج الصلاة في برنامجه فيظهر نوع الشراب" الجورب" (لاكوست ) أثناء السجود (جورب شرعي)!! ..
امتلكوا الفضائيات وركبوا السيارات المحصنة وصاروا نجوم غلاف المجلات بل وظهرت لبعضهم إعلانات وملصقات بجوار ملصقات نجوم الفن والغناء سواء بسواء .بينما الناس تغط في فقر وجهل وتخلف ومرض وظلم واستبداد وتشرد وسجون ...بينما قضايا الأمة .. وعقيدتها .. ودينها لا يعرفون عنها شيئاً ..
لهذا لم أنقم على ذلك الرجل الذي ترجم فرحته برؤية ابنه المزعومة للنبي في المنام إلى حفل يتعاطى فيه هو المدمنون وأصحاب المزاج المخدرات وهو يحسب أنه يحسن صنعا.. فهو ليس بينه وبين غيره فرق .. إنها علامة زمن فارقة .. انها ترجمة حال ...
انسحبنا أنا وأصدقائي من المكان ولكن بعد أن سلمت على صاحب الحفلة وشددت على يديه وكان في قمة (الانبساط) والبهجة !!..وتفرقنا وعاد كل إلى منزله ..
.وفي الصباح الباكر استيقظت على أنباء إعلان اكتساح الحزب الوطني (الحاكم)في بانتخابات مجلس الشورى وفوزه ب(60) مقعدا من أصل (64) مقعداً !!!!!...
في انتخابات لم يذهب إليها أحد بينما امتلأت الصناديق باستمارات الناخبين الذين من بينهم صوت صاحب احتفالية البانجو وأصوات جميع معازيم البانجو وأصواتي أنا وأصحابي وبالمرة أصوات علماء"الغيبوبة" والبانجو الفكري !!!!
التعليقات (0)