مواضيع اليوم

رؤى الإمتداد ونسيان الجنة

عمار العراقي

2009-06-07 17:40:58

1

رؤى الامتداد ونسيان الجنة
كرم الله شغيت

تعكس النصوص الشعرية تداخلا كبيرا بين البنية الزمنية وانعكاسات المكان في صور وأحاسيس ورؤية الشاعر، وعندما تنهار الحدود بين البنيتين يتضح بجلاء تعلق الشاعر بالواقعية، وتنسحب رؤية الشاعر عن كل منهما إلى الأخرى، فالديمومة التي ننعت بها الزمن لا تلبث أن تصبح إحدى صفات المكان، والمكان بشكله الأكثر إقناعا من الزمن هو أكثر التصاقا بتلك الصفة من غيره، إذا أرجعنا ذلك المعنى إلى جزئيات المكان وصوره الموثقة في ذاكرة الشاعر، والانطباعات التي تركتها في أحاسيسه، وأخيرا الثقل الذي تمثله تلك الجزئيات في تشكيل رؤى الشاعر وتضمينها في نصه.
ولعل الزمن الذي أنفقه الدكتور سلمان عبد الواحد كيوش في ترجمة كتاب الرحالة ولفريد ثيسيغر )عرب الهور( وذهابه بعيدا في تحقيق فصوله، أعطى لجزئيات المكان والبنية الاجتماعية والزمنية أثرها الواضح في الصياغة الواعية لأشعاره التي افتتح بها فصول الكتاب، والتي تشكل في مجموعها منجزا مهما يتكئ على أرضية من الواقعية سما بها الشاعر الى عتبة الدلالة الغنية من خلال الألفة بين المفردة الغارقة بالمحلية وسياق الحدث، تلك المفردات التي اكتسبت طاقة عالية من خلال موقعها في نص يحتث بمغناطيسية يجاري فيها تلك الطاقة ويمتص إشعاعها.
وقد اتسع تأثير البيئة المكانية للأهوار وشكل المسطحات المائية الممتدة ليظهر جليا في دلالات الأشكال التعبيرية والكلمات المنفردة زاحفا في مواضع كثيرة إلى ابعد مما توحيه المفردة والتي يختبئ خلفها ثقل من الموروث الجاثم على صدر الشخصيات التي تحدث الشاعر بلسانها في كل مقاطعه.
ومن أبرز تلك الدلالات الوثيقة الصلة بأكثر أشكال تلك البيئة إقناعا وهو الماء الذي يراه ابن الهور ممتدا حوله وفي كل الاتجاهات، فقد استلهم الشاعر تلك الحدود اللانهائية مستكشفا كل ما يوحي بذلك الاتساع ملتقطا كل ما هيأته له حواسه معيدا تركيبه في مفردات غنية بالتأويل، وهي صياغة واعية كما أسلفت ولا يمكن أن نكون في دراستنا هذه قد غادرنا المتن إلى أبعد مما خطط له كاتبه.
وقد حفلت نصوص (كيوش) هذه بإشارات كثيرة ومتنوعة لمعاني الامتداد التي جمعها من خلال المثلث الذي أشرت إليه ( الصور - الأحاسيس - الرؤية) حيث يمكننا أن نردها إلى أصول ثلاثة كان في مقدمتها والغالب عليها الامتداد الوصفي، وثانيها التعبير عن الامتداد من خلال الإحساس العميق بالمتجهات الطبيعية كالامتداد نحو الأعلى والأسفل، فيما جاء التعبير عن الامتداد البصَري كواحد من الصور المهمة التي انطبعت في خيال الشخصيات المتحدثة.كما لم ينسَ الشاعر أن يمر على انقطاع الامتداد فأشار إلى النهايات في كثير من مقاطعه.
1.الإحساس بالمتجهات :
أ.الامتداد نحو الأعلى:يقول في الفصل الثالث/"كما العنكَر/حكاية الوله القسري/بفتحة الباب الواطئة( الشِـباب)"......والعنكَر هو الجزء الأعلى الممتد من نبتة الهور الشهيرة القصب.والشِـباب هي أعمدة بيت القصب بصورتها الشاهقة إلى الأعلى .
ب.الامتداد نحو الأسفل:يقول في الفصل الثالث/"تغرس في أرضها الهشة /ثقل الله /تتجدد"
2.الامتداد البصري:في المقاطع التالية:
محض هراء هذا الأفق (فصل12)/في الموج تذكرة (ف15)/مقدود من حلبلاب الموجة في المشرّح (ف19)/أضعت حرثتي/ كانت عند الفجر صقيلة/ تحاذي النهر فأين النهر(ف22)..الحرثة في لهجة أهل الهور هي الطريق الممتدة والنهر عبارة عن الامتداد عبر الأرض.
3.الامتداد الوصفي:في المقاطع التالية:
ما زال يغني مرددا صدى الامتداد(ف7)الامتداد كلمة صريحة بدون تأويل/
أما آن للاانتهائك أن يكف (ف5) اللاانتهاء=الامتداد/
ويممت وجهي شطر المدى(ف24) المدى = اللاانتهاء = الامتداد /
غضاً لا أرى لي نهاية (ف25) عدم رؤية النهاية = الامتداد /
ذاك المضيف /ميسم الأكواخ/دار الكون حوله(ف6)/ دورة في رحم (ف25)الدوران = الحركة اللانهائية = الامتداد الحركي/
غض قلبي /ملون وهش/ مثل كَعيبة الربيع (ف7)/التلون = ألوان لا نهائية = الامتداد اللوني/
يا عالم الزرقة والزرقة (ف23)/الزرقة والزرقة = تكرار الزرقة ولا نهائيتها = الامتداد اللوني/
فيروز أصابعي الأزرق (ف18)/الزرقة = لون السماء والماء = الامتداد اللوني/
غض قلبي /مازال يغني/ مرددا صدى الامتداد (ف7) /
عن ظهر قلب / أردد ترنيمة الخلود(ف25) الترديد = التكرار = الامتداد/
خذ من صبر الموجة مرايا /وانظر (ف15)المرايا = التكرار = الامتداد/
اللذة ماء/ يتلوه ماء (ف21) التتابع = التكرار = الامتداد/
وفي ف15 و19 يرد ذكر الموج وهو الحركة الترددية للماء = التكرار = الامتداد/
مقيت... "أعرفه ذاك الانتهاء/ فأستقيم "(ف14) الاستقامة = الامتداد/
"فيا الشاك في استقامة خط الحب" (ف15) الاستقامة = الامتداد/
وقد ظهر المقطع (25) نموذجيا بالنسبة للعقدة موضوع البحث (عن ظهر قلب /أردد ترنيمة الخلود /- دورة في رحم -/غضاً/لا أرى لي نهاية)فهو يضم معظم محاور الامتداد :الاستمرارية (الخلود) -الترديد -الدورة -عدم رؤية النهاية.
ويتضح من العرض السابق أن انزياح المفردات وجنوحها نحو معنى الامتداد قد انحصر في المعاني التالية: المتجهات/الامتداد البصري/اللانهاية/ التكرار/الامتداد عبر الأرض.
النهايات الواردة في النص:
لم يخفِ الشاعر الوجه النقيض للامتداد في مقاطعه، فقد كان الانقطاع حاضرا في مفردات النهايات وهي كثيرة كان أبرزها التوقف والموت.
التوقف:"هذا المردي العتيق كنبض توقف"(ف4)/الصمت:"أنتقي كلماتي أو أصمت "(ف6)/الغرق:"حين غرق المشحوف/ مشحوف آدم "(ف10)/الأفق: وقد أخذناه من جانبه الأول كشكل من أشكال الامتداد البصري، وهنا نأخذه بدلالته على انتهاء ذلك الامتداد حيث لا مرئي بعده أنظر ف12/الموت: "ياموت أمنح ذاكرتي فتات الحياة "(ف13)/"قالوا ميت الحدقتين /ابن الماء هذا /لِم َ يغني ؟"(ف20) /الانتهاء: "وقبلا استشرف تخوم الانتهاء" (ف14) والمعرفة بالانتهاء واستشراف تخومه هما دافع الاستقامة للمحافظة على الامتداد تلك الاستقامة التي ترنو إليها الموجة في (ف15) وهي من صفات خط الحب.
ولقد كان لحضور البنية المكانية التي أشرت إليها وأدوات البيئة أثرا كبيرا في أغناء النصوص وتوسيع دلالاتها المرتبطة بالامتداد، فجسدت الأحاسيس والانفعالات البشرية انعكاسا نقيا واضح المعالم لتلك البيئة حتى دخلت إلى أدق تفاصيلها، فابن الهور في نصوص (كيوش) ذو سمع مرهف ينعكس صوت انكسار المردي في داخل نفسه السارحة في عملية التجديف (وهي عملية متكررة توحي بمعنى الامتداد) والانكسار هنا كتوقف النبض وهو الباعث، أما (فأل السوء) فهو امتناع المركب عن الحركة وهذا من الصعوبات اليومية التي يصادفها سكان الأهوار والتي يتغلبون عليها بالقدرة النفسية المدربة على التحمل وعدم الاكتراث(الضحك في النص) المتمثل ببذل الطاقة وهي هنا( قطر المركب). ولا يبعد عن ذلك تمثل الزمان والمكان في المضيف من خلال الحكايات التي تدور فيه وبكونه يمثل كل العالم لأولئك الناس والمكان له تقاليده وطقوسه التي يجب أن تراعى في كل شيء وذلك الذي عناه الشاعر بالاستقامة في الفصل السادس وهي قريبة من معنى الامتداد.
والقروي يميل دائما إلى بث لواعج نفسه واهتياجاته الغير موقوتة بإصدار أصوات يحاكي فيها بيئته، فقلبه غض يغني مرددا صدى الامتداد الذي يراه في المحيط المائي، والغناء هنا لا يشبه واحدة من جزئيات المكان بل يتسع إلى ما هو أبعد من ذلك ليكون صورة للانهاية التي يبعثها الماء في النفس، هذا غناء المقطع السابع أما في المقطع الذي يليه فالغناء يشبه خفق النوارس وفي العشرين نجد صحين يغني مقلدا حشرجة الشاطئ ويتنهد من عصف الريح، الأمر الذي ينكره عليه العرّافون وباعة السمك ( الجلابة) ويصفونه بميت الحدقتين، وكأن جفاف الطبع لا يناسب الغناء.
ويعود بنا كيوش دائما إلى البدايات وكأنه يريد أن يقول ببدائية الحياة في الأهوار، ونستطيع أن نلمس ذلك من مفردات مثل (من فجر النطفة - من غبش النسغ - ترنيمة الخلود - آدم - حواء).
وفي دوامة الحديث عن الامتداد الذي توحيه الأهوار في نفس الشاعر لا يمكن أن نغفل دلالات مفردة مثل الماء ، وظهورها بمعان متعددة لم تستهلكها أفكار الشعراء، إذا نظرنا إلى العلاقات الاستبدالية بين الجمل وإلى مرونة الأشكال التعبيرية في النزوح من معنىً إلى آخر. ففي المقطع العاشر نرى أن مشحوف آدم يغرق، والغرق في الماء، والماء هنا لا يساوي غير الهور. وتميل عليه حواء دلالة على المشاركة الوجدانية بين عنصري الكون (حواء و آدم) وتربت بيدها المبتلّة، واليد المبتلة تساوي المعمّدة بالماء أي الطاهرة والماء كما أسلفنا هو الهور، إذن فالشاعر يريد أن يوصلنا إلى طهارة ماء الهور المعنوية. وبتقدم النص نجد أن هذه المعادلة تكون أكثر وضوحا في قوله(سينسينا الماء الجنة)، وبالرجوع إلى القصة نجد أن النص يقول بأن في الهور من الجمال والخير ما يوازي ما في الجنة، بحيث ننسى الجنة فيه، وهذا ما يؤيد القول السابق بطهارته، وليس أدل على الجمال الموجود فيه من قوله في الفصل الحادي والعشرين: شهواني حد الثورة فوح الماء، وقوله : فاللذة ماء ..يتلوه الماء. وقد كنا توصلنا في ما سبق إلى أن الماء الذي يتلوه الماء يساوي التتابع ويساوي التكرار وهو الامتداد بعينه، إذن فهو اللذة التي تنسي آدم وحواء ( عنصري الكون ) جنتهما التي غادراها.

 

 

 

 




التعليقات (1)

1 - بغداد

كرم الله شغيت - 2013-08-18 18:01:27

لماذا مقالاتي تظهر في مدونة باسم عمار العراقي ولا تظهر بالمدونه التي باسمي؟

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !