هذا ما يقرره أي زائر للمنطقة العربية في أيامنا هذه, فهو لا يرى في واقع الحال مواطنين ــ وهذا ما يبدو من النظرة الأولى والاحتكاك الأول ــ وإنما رعايا مجرد رعايا. أناس نسوا منذ زمن طويل, وبفعل الممارسة المستبدة, الفرق بين استلاب الرعية وبين حقوق والمواطنين. أناس رضوا, أو على الأقل, عودا النفس على الرضاء بكونهم رعايا, والقوا جانبا عناء التفكير بمعرفة الفوارق بين أن يكونوا أفرادا من مكونات الرعية, وبين أن يكونوا مواطنين شركاء في الوطن. وذلك طلبا للسلامة بعد معاناة من استبداد وقمع جسدي وفكري عمره عقود. وبعد فرض تربية أجيال بأكملها على ممارسة دور وطقوس الرعية الصالحة في معايير الأنظمة الاستبدادية.
المواطن في عصرنا هذا, في غير منطقتنا هذه, لا يرضى عن مواطنيته بديلا , ولا يتخلى عما تحمله له باعتباره جزء من السيادة السياسية, وبأنه هو نفسه مع مجموع المواطنين الآخرين من يختارون, بطريق الانتخاب العام النزيه وبالإرادة الحرة التي لا تشوبها شائبة, الأنظمة والحكام. المواطن الحديث صاحب حقوق : حقوق الإنسان لكونه إنسان, الحقوق المدنية, الحقوق الاجتماعية.. وملتزم كامل الالتزام بالواجبات التي عليه تجاه المجتمع والدولة كدفع الضرائب واحترام القوانين...
المواطنية ترتب حقوقا للفرد والعائلة و الجماعة, فالمواطن, كونه عضو كامل العضوية في الدولة, يملك حق المشاركة الكاملة وغير المنقوصة في الحياة اليومية والمستقبلية للمجتمع والدولة . وهي في أسس المشروعية. وعليها تبنى الروابط الاجتماعية, ولا ينفصل عنها مبدأ المساواة أمام القانون. مرتبطة وثيقا بالديمقراطية بحيث لا يمكن تصور مواطنية حقيقية في غير أنظمة ديمقراطية حقيقية.
المواطنية ليست فقط وضعا قانونيا, فهي زيادة على ذلك روابط اجتماعية تقوم بين الشخص والدولة التي تمنحه أهلية ممارسة مجموعة الحقوق السياسية, إلا في حالة تجريده بإدانة جزائية, صادرة عن قضاء نزيه, من ممارسة كل أو بعض هذه الحقوق.
كما أنها تتضمن قيما تقليدية مثل الاحترام المتبادل بين المواطنين, والحفاظ على الكرامة الإنسانية للجميع. والاهتمام بالممتلكات العامة وكأنها الممتلكات الخاصة لأي مواطن ولكل المواطنين. احترام, واهتمام منبعثين من الذات الواعية والقناعة, للقوانين والأنظمة النافذة.
المواطنية لا تعني مجرد التعايش بين أفراد تجاوروا جغرافيا. المواطنون ليسوا مجرد أفراد متجاورين في مجتمع عليهم التعايش فيه بحكم هذه التجاور ووفق متطلباته, وإنما هم مجموع الرجال والنساء المكونين لهذا المجتمع مرتبطون بتاريخ مشترك, وثقافة مشتركة, وهدف مشترك, ومشروع مشترك, وطرق حياة مشتركة, ومصير مشترك. وهذا ما يفرض عليهم التضامن الاجتماعي والتآخي لما فيه المصلحة العامة. وتحمل المسؤولية الفردية والجماعية.
المواطنية لا تقتصر على حمل جنسية الدولة المنتمي إليها الفرد وإنما تعطيه الحق في مشاركة فعالة في حياة هذه الدولة. فللمواطن الفعال دور أساسي ليقوم به, متمثل بالتصويت والترشح . وهنا يلعب المواطن دوره الفعال والأساسي في مجتمعه. يعبر عن رأيه بحرية مطلقة, ويساهم في اختيار أو عزل الحكام, ويشارك في صياغة التوجهات السياسية الأساسية في السياسة الداخلية والخارجية لبلده, ويبدي رأيه فيها بكل الوسائل التي يكفلها له الدستور والقانون.
المواطنية تعطي المواطنين حق تشكيل الأحزاب السياسية, والانضمام إليها, حسب قناعاتهم, وحق تشكيل الجمعيات المدنية, والنقابات, بهدف الدفاع عن حقوقهم وعن المصالح الاجتماعية والاقتصادية والمهنية.
المواطنية تفرض المساواة بين المواطنين أمام القانون وفي المحاكم, وفي الوصول إلى العمل والوظيفة, حسب معايير الكفاءات والجدارة, في مسابقات وإجراءات معلومة ومنشورة.
المواطنية لا تقوم على الإقصاء بسبب العرق أو اللون أو الجنس أو المعتقد الديني, ولا تعترف بامتيازات لفئة معينة وحجبها عن أخرى.
المواطنية توفر لكل مواطن, عامل أو عاطل عن العمل, الحق في العلاج الصحي, والضمان الاجتماعي, وتكفل حق التقاعد والشيخوخة للجميع.
عندها يصبح للعبارة المعلقة على جدار بلدية تولوز, على سبيل المثال, والتي أعلنها جان جوراس Jean Jaurès حين شغل منصب مساعد رئيس البلدية المذكورة (1890 ـ 1893) معنى حقيقيا : "هنا يفتخر المواطن بحمل لقب مواطن".
أما هنا , في المنطقة العربية القائمة أنظمتها على الرعوية, هل من فخر أو اعتزاز:
ـ إذا كان الحاكم قد نصب نفسه أو نُصّب, أو انتصب, بمقويات أو بدونها, وبعيدا عن كل مشروعية, وعن كل إرادة شعبية حقيقية, وأقام دولة رعوية ؟
ـ إذا كان يُنزّل بإرادته المنفردة ومشيئته المستبدة " قوانين ومراسيم وأوامر" واجبة التنفيذ والطاعة دون اعتراض أو مساءلة أو التفكير بذلك؟
ـ إذا كانت المؤسسات في حالة وجودها مؤسسة لتكون امتداد للحاكم من صنعه ومن أدواته لتأطير ومراقبة رعاياه, وليس لخدمتهم ورعايتهم؟
ـ إذا كانت الرعية تساق عن بكرة أبيها في حافلات وشاحنات وغيرها من وسائل النقل الفردية والعمومية, بما فيها التركتورات الزراعية, وسيرا على الأقدام, في كل الفصول, لمسيرات مليونية احتفالية لتأييد أقوال وأفعال الحاكم, وانتصاراته المزعومة هنا وهناك؟
ـ إذا كان أزلام الحاكم ومعاونيه والمتكسبين من خدمته يستمدون منه سيف التسلط على أفراد الرعية بالاعتداء على كرامتهم وحرياتهم وأملاكهم, فيطلبون الرشاوى بالفم المليء وبعلم وسمع الجميع. تعميما للفساد والإفساد؟
ـ إذا كان غير مسموح لأفراد الرعية تكوين أحزاب سياسية, أو جمعيات مجتمع مدني, أو نقابات حرة تدافع عن مصالحهم الاقتصادية والمهنية؟
ـ إذا كان يُلوّح لأفراد الرعية بحقوق سياسية فيقتاد الحاضرون, جمعا, للعبها, ممثلين لانفسهم, وفي الوقت نفسه للغائبين والمهاجرين والمهجرين, ودفعهم لصناديق الاقتراع في المناسبات الانتخابية الاستعراضية والاحتفالية, لانتخاب مرشحين معينين سلفا, ناجحين سلفا, وبنسب مقررة سلفا؟
ـ إذا كان أفراد الرعية محرومين من قضاء عادل ونزيه يقفون أمامه متساوين, حسبما تقتضيه الدعوى العادلة في دولة القانون؟
ـ أذا كان أفراد الرعية عرضة دون تمييز لمراقبة وملاحقة أفراد الأمن على اختلاف أنواعهم ومهامهم, يدخلون البيوت دون تكليف قضائي, أو استئذان أخلاقي, دخول الفاتحين على "غلابا" مستسلمين؟
ـ إذا كُتب تاريخ الشعوب والأوطان بأقلام كتبة السلطان, وجُعلت بدايته مع بداية تنصيبه, وأمجاده من فعله وحده أو أفعال أجداده, وإخفاقاته من فعل وخيانة غيره؟
ـ إذا كانت سياسة بث التفرقة, وتعميم ثقافة الخوف والخضوع والخنوع, وتفتيت اللحمة الأسرية, والمساس بالقيم, واستباحة المحرمات, ممارسات يومية, تحل محل التضامن الاجتماعي والتكافل والتآخي؟
ـ إذا كانت صور وتماثيل الزعماء تدخل البرلمانات ودور القضاء (دون أدنى اعتبار لفصل السلطات), وبيوت العبادة , والصالات والمضافات والحمامات. وتبنى لها وحولها خصيصا الحدائق والساحات, ولا تخلو منها الشوارع والأزقة مهما ضاقت, ولا غرف نوع الجميع وملحقاتها, مذكرة بأنهم هنا, وهنا قد يمروا ويدخلوا ويعبروا مرشدين أو فاتحين أو منذرين؟
ـ إذا كانت التربية والثقافة السائدة لا تصلح لإنشاء قوانين ومبادئ أساسية تساهم في خلق المواطن وتكوينه, ومحبة الأوطان؟
ـ إذا كان الوصول للعمل والوظيفة ليس حقا للمواطنين وإنما منة ومكرمة, ومشروط بدفع الرشاوى, وبشروط الطاعة والولاء والانتماء, ورد الجميل للراعي سيد البلاد والعباد؟
ـ إذا أصبحت قصوى طموحات غالبية أفراد الرعية لا تزيد عن الرغبة في هجرة الأوطان بحثا عن لقمة عيش شريفة, وعن كرامة مصونة, وأمان واطمئنان في أوطان الآخرين فيما وراء البحار؟
فإذا كان هذا هو واقع الحال أليس من حق الزائر, أو المقيم, أن يعلن: هنا لا يبالي الإنسان إن كان مواطنا أو مجرد فرد في رعية تطبعت على رعوية مستسلمة, آسنة, تمجد راعيها وتعليه إلى درجة التنزيه, وإحلاله محل الوطن والمقدسات؟.
أمام هذا, لو بعث جوراس نفسه حيا في أرضنا العربية, ألا يكون عمله الأول هو لحس عبارته المذكورة " هنا يفتخر المواطن بحمل لقب مواطن", ويعتذر للجميع عما ارتكبه من زلة لسان.
فهنا, وهنا فقط, بقي على حاله المكان ولم يتغير الزمان.
فهنا, وهنا فقط, الم تجتمع كل المبررات والأسباب لولادة جديدة للإنسان, ولحراك المكان وتغيير الزمان, ولإحلال حقوق المواطنية محل استلاب الرعية؟.
د.هايل نصر.
التعليقات (0)