استوقفتني هذه الحكمة لما تحمله من صور مثيرة تنطبق على واقعنا ، و ما أكثر هذه النماذج التي تعاني معاناة حادة ، و قد أصابها الوهن و الفشل و الحقد و الحسد ، و بما أنّها فشلت قديما و لم يعد لديها ما تقدمه و إن كان في الحقيقة لم تقدم شيئا يذكر لصالح المدينة إلا قليلا من التفاهات و كثيرا من الخيبات... ستستمر على هذه الحال وديدنها أن تركب غيظها و حقدها و تظن نفسها مستورة وقد بات أمرها مكشوفا ، و لأنّ نفوسها مريضة لا يملأها إلا البغض و لا تملك غير قاموس من الأحاديث السوقية و لا يمكنها مع ذلك أن تبدع أو تكتب أو تقدم خيرا أو جميلا كما يكتب الخيّرون ، سيظل موقفهم ترَصُّد ما يتجدد من أسباب السعادة لهذا أو ذاك و لا يتمنونه ، يتجسسون عن كل كبيرة أو صغيرة،مطاردون من أنفسهم يريدون الإفلات من قبضة مشاعرهم الخائبة المستولية عليهم ولهذا تراهم على حذر، ويتوقعون أن تدهمهم الألسن في أية لحظة، سواء اتجهت إليهم أو لم تتجه، وسواء أكانوا هم المقصودين بها أم غيرهم؟ (يحسبون كل صيحة عليهم.) وهكذا المخطئ لا يفارقه أبداً وجه خطئه في يقظة أو منام. وفي المثل: (كاد المريب أن يقول خذوني) وصدق القائل:
كأن فجاج الأرض وهي عريضة
على الخائف المكروب كفة حابل
إن هذا التوجس والتخوف بمثابة شهادة شهدوا بها على أنفسهم، وحكم أدانوا به أنفسهم قبل أن يدينهم أحد ، فمتى اقتنصوا شيئا يفرحون به إن كان مسيئا لغيرهم و يحزنهم إن كان مفرحا "و من راقب الناس مات همًّا "لأنّ حاجزا توطّن في دواخلهم منعهم من مجرد التفكير في أمر يصلح أن يكون خيرا فنفسره بسلامة عقل و صحة سريرة ، و الأغرب من هذا اعتقادهم بما يكتبون شيئا له معنى و لتفاهته لا يصلح أن نسميه لفظا ، ومن ذا الذي يرضى لنفسه أن يكون إنسانا سويا يلتقي الناس صباح مساء في داخله ذل امرأة و يتخفى وراءها ، حقيقية أو مجازا يستغل اسمها ليحقق سلوكا عدوانيا لا يستطيع مواجهته باسمه الحقيقي إلا أن يكون حاقدا و قد غلبته الخيبة ، و لا يفعل ذلك إلا بليد لاعتقاده بأنّ الناس يحسنون الظنّ به و أنّه نزيه و شريف و لكن أنى يتحقق ذلك و هو يعيش مرارة الإحباط و الصدمات المتوالية القريبة منه و البعيدة ، كلّما جدّ خبر يفرح المدينة الجميلة ينزل عليه كالصاعقة و يظل وجهه مسودا من الغيظ (حسدا من عند أنفسهم)، و حفاظا على كرامته أمام من لا يعرفونه و هم قلة لأنّ المدينة الجميلة تعرف حقيقة أمره المكشوف وهو أول من يعرف هذه الحقيقة و يدرك تمام الإدراك بأنّه خائب و يسلك مسلك الجبناء و تافه أمامهم في تلك اللحظة و في كل اللحظات ما بقي مع هذا أو ذاك و الفضيحة تنتظره لتعتصره ككل مرة لأنّها ليست الأولى و لا الأخيرة ، ويحرص على ألا يترك أثر ذَكر تقوده أنثى لجأ إليها حقيقة أو مجازا و كل حديث يخوضه مع هذا أو ذاك يشعره بالخوف فيقضي ساعاته على أعصابه متوترا منفصما ، كل ذلك من وراء قاعدة فاسدة و اختلال في التوازن ، و من العجز أن يصارح نفسه قبل غيره بالحقيقة التي يعيشها أو المرض الذي يعانيه و يظن ذلك بطولة قد توهمها و لا يمكن أن يكون ذلك إلا انهزامية قارة في داخله ، أو يعتقد ذلك ذكاء لفرط الحالة واستفحال المرض ولا يمكن أن يكون ذلك إلا صفة من صفات الأغبياء ، إننا نعالج نفوسنا بالصدق و الصراحة بما نواجهه يوما بعد يوم ، و قياسا على ما نراه أو نقرأه عن هؤلاء أو أولئك ، نتحسّر كثيرا لخيباتهم لأنّهم خابوا في المدرسة فلفظتهم مبكرا لفشلهم و محدودية مستواهم العقلي و الدراسي ، أما الدراسي فنتيجته واضحة لأنّه لم يستطع الاستمرار في تحصيل العلم و الأخلاق ، و الدليل ما يعانيه اليوم في هذه المرحلة من العمر و الثاني فإصابته بمرض الوهم و اعتقاده بأنّه ناجح في نظره و المدينة (ساخرة)تدرك بأنّه من الفئات التي استغنت عنها المدرسة ليتركوا أماكنهم للراغبين و الطامحين و ما أكثرهم في هذه المدينة الجميلة ليتشكل منهم نخبتها ، و بتعاون الجميع من خيرة أهلها حاصرتهم نخبتها فاختاروا هم زوايا المدينة يتخفون وراء أوهامهم الكثيرة متحسّرين فاقدين للأمل .
و لكن و بصراحة ، في كثير من المناسبات يكره هذا النوع من الأشخاص مواجهة الحقيقة و يرفضها، فإذا عجز عن مواجهة الآخر لكون حجته قوية و كلامه منطقي واجهه بأساليب تعكس حالة نفسية مريضة وبردود أفعال كثير منها الهروب لضعف الذات و قلة الأدوات و خواء العقل ، باختصار غياب الشخصية السوية حال بينهما ، اللهم إلا إذا فكر مليا في الطريق الذي يسلكه والهدف الذي يرسمه ليترك أثر الخير له و لغيره – و لا أظن فئة من هذا النوع تخطط لحياتها تخطيطا سليما- إذن من العجز أن تخطط لغيرها ، و النتيجة أنّ الدناءة لا يمكنها الاستمرار في مواجهة العظمة ، فللناس عقول سليمة يتابعون بها الأشياء و الأخبار عن كثب لا يمكن للفاشلين و الخائبين أن يستغفلوهم – و إن بدا لهم صمتهم نعمة - لعلمهم بسلوكهم و يومياتهم ، حتى فيما يفكرون فيه من خيبات أخرى التي يتناقلها أهل المدينة في بيوتهم العامرة في مقابل زواياهم الخربة ، يرفض الشعر الشعبي تداولها و الفصيح معالجتها و السرد طرقها ، وإن كان بالنسبة لهم لذّة الدناءة كما قيل لا تكون إلا في التفتيش عن أخطاء العظماء .فبئس اللذة على بئس السلوك .
التعليقات (0)