ذكريات فى مصر التى أحببتها

أعود بذاكرتى  إلى هذا الماضى البعيد  وأتذكر مواقف  وسياسات ومؤتمرات وندوات  تجعلنى أشعر بالكثير من الأسى لما أصاب الوعى المصرى  والفكر والتخطيط فى هذا الوطن .  وبصرف النظر عما  أصاب التجربة الناصرية من كبوات  فإننى أرى أنها كانت بداية مشروع نهضوى عقلانى قائم على أسس وطنية وإنسانية .  ولست أستطيع  الإفاضة  فى شرح اشتراكية عبد الناصر وعدالة توجهها  أوالحديث  عن خطط التصنيع التى بدأها , ولكنى سأشير إلى أنه  أدرك خطورة المشكلة السكانية فى مصر من وقت مبكر جدا  وحاول استباقها ووضع حلول  ناجزة لها  سابقا بذلك الهند والصين .  والذى جعلنى أستعيد ذلك وأطرحه فى هذه المقالة أننى فى تطوافى الدائم  بواحة ذكرياتى القديمة  تذكرت ندوة  أقيمت فى نادى دسوق القابع وسط متنزه زاهى الخضرة  والمطل على النيل فى جمال رائع ومهيب .  كان موضوع الندوة هو : أهمية تحديد النسل  لمستقبل مصر , وكان ذلك فى منتصف الخمسينات , وكانت الدعوة موجهة لممثلين من وزارة الصحة  , وغيرها من المهتمين بالشأن العام  وكذلك لرجال الدين الذين كان منهم شيخ شاب يدرس لنا فى  المعهد الدينى واسمه م توفيق عاشور . وكان رجلا جميل السمت  وشاعرا بليغا .  . وبدأت الندوة  وتحدث المتحدثون عن خطورة الزيادة السكانية على خطط التنمية وعلى تقدم الوطن ورخاء شعبه , . وجاء دور شيخنا  وكما يحتم انتماؤه الأزهرى فقد رفض تحديد النسل بادئا بهذه الأبيات :  أيها الداعون للتحديدِ * قدرة الله فوق هذى الجهودِ  /  لو أراد العلى خلق ألوف * ما منعتم وعدتمُ للسجودِ/  اتركوا الرزق للإله ولكن  *   أكثروا النسل وانعموا بالوجودِ  .   وبالطبع قمنا نحن الطلبة الأزهرين بالتصفيق  تأييدا لموقف شيخنا  وإعجابا ببلاغة شعره  .,  وأنهى شيخنا خطبته بالحديث النبوى : تناكحوا تناسلوا تكاثروا فإنى مباه بكم الأمم يوم القيامة ,  وبعده قام أحد الأطباء  معلقا  وقال أخشى أن يكون الشاعر قد سحركم بشعره    ثم أردف قائلا : إن الرسول  سيفاخر بأمته عندما تكون قوية كريمة عزيزة  ولا يفاخر بأعداد  كثيرة فيهم الجائع والمتسول والمريض  .  -  وهنا أحب أن أذكر الملاحظات الآتية  أولا  كان تعداد مصر فى هذه الأيام حوالى عشرين مليونا ولم تكن قد ظهرت فيها هذه المشكلات الاجتماعية الضاغطة  وكان بعض ملاك العقارات يبخرون وحداتهم السكنية كى تجد من يستأجرها .  ثانيا لم تكن فى مصر أية منطقة عشوائية  ولم يكن هناك  من يسكن القبور . ثالثا لم يقتصر الأمر على تحديد النسل  بل قامت الدولة بإنشاء  مديرية التحرير  باستصلاح آلاف الأفدنة  كما قامت  بإنشاء  محافظة الوادى الجديد  باعتباره واديا يخفف العبء  السكالنى عن  الرقعة الزراعية  فى الدلتا والوادى القديم  ,ويفتح فرصا جديدة للعمل فى الوقت الذى كانت فيه مصر شبه خالية من البطالة  !.      ما الذى حدث بعد ذلك ؟   ورغم أنه يطول شرحه إلا أننى  سأوجزه فى الآتى -1-  تم تبديل مسمى تحديد النسل إلى - تنظيم الأسرة  مراعاة للخطاب الدينى الذى بدأ يصحو مع بداية السبعينات . -2-- تم الاكتفاء ببعض الاعلانات الهزلية مثل حسنين ومحمدين  للدعاية لتقليل عدد الأبناء -3- انتهى الأمر بالإلغاء الكامل لمراكز رعاية الطفولة والأمومة التى كانت تقدم النصائح للسيدات وفى نفس الوقت تقدم لهن أقراص منع الحمل  -4-  تم التغاضى عن البناء على الأرض الزراعية  مما أفقد مصر ملايين الأفدنة الخصبة التى لا يمكن تعويضها -5-  احتلت مصر منزلة متقدمة فى زيادة عدد المواليد  إلى أن وصلت إلى  حوالى التسعين مليونا  , وفيهم من المعوزين والعاطلين والتمسولين  ما لا يمكن أن يكونوا محل فخر للرسول يوم القيامة . - ولا تزال  المشكلة السكانية هى المشكلة الأم فى مصر , ومن رحمها تتوالد كل المشاكل الأخرى  التى لا أعرف وربما لا يعرف كثير من الذين يتواجدون فى موقع السلطة أو الذين يحركهم الشوق للزعامة  ,لا أظن أيهم لديه خطة علمية  للخروج من هذه  المعضلة  التى  لم تكن لتحدث  لو مضت مصر فى  الطريق الذى بدأته منذ الخمسينات  مستخدمة العلم  واستبصار المستقبل  ولم تطبق  مقولة شيخى  الذى كنت أحبه ولازلت نظرا لعلمه وقوة شعره  , وأقول له  يرحمه الله :  إننا اكثرنا من النسل  ولكننا لم ننعم بالوجود