الليلة هي ليلة 7 أكتوبر 73 حيث كان علي قافلتنا في الوحدة التي أتبع لها أن تعبر القناة إلي الشاطئ الشرقي الحبيب الذي كنا ننظر إليه في حب وشوق ونتساءل: هل نضع أقدامنا علي هذا الشاطئ يوما؟ هل نعبر هذا الجسر العالي الضخم إلي سيناء فنعبر حاجزين : الماء والجبل الذي علي شاطئها؟ كان حلما بعيد المنال ونحن في سن الشباب ....وتعلمون أن الشباب بطبعه متعجل ولا يجيد الصبر كما نجيده اليوم ونحن علي أبواب القبور....كانت أنظارنا ترنو إلي هذا الشاطئ الذي تدنسه أقدام الصهاينة قي إهانة لم يشهد المصريون لها مثيلا ......كنا نراهم بالعين علي قمة الجبل المسمي خط بارليف في أبراج المراقبة حتي بدأت حرب الاستنزاف ...كنا نسمع عن عبور بعض القوات للاستطلاع أو إجراء بغض العمليات القتالية المتفرقة في حرب الاستنزاف ولكن العبور الشامل لم يكن في الحسبان... كان العبور الشامل في عقول قادة الجيش الكبار فقط وقد نجحوا في إخفاء وتمويه يوم العبور بذكاء شديد واختاروا هذا اليوم بذكاء أشد ...وصلت قافلتنا بعد رحلة قصيرة من الكيلو 104 طريق مصر السويس الصحراوي إلي معبر 152 علي قناة السويس والذي سمي فيما بعد معبر الشهيد أحمد حمدي تخليدا لواحد من أشجع أبطال وشهداء حرب أكتوبر والذي تشرف نفق السويس بحمل اسمه بعد ذلك ليكون بوابة العبور عبر الزمن الآتي حاملا ذكري هذا البطل التاريخي ويصبح نفق الشهيد أحمد حمدي من إنجازات يد التشييد المصرية مزينا بهذا الإسم الكريم ...كان الوقت بعد صلاة العشاء تقريبا وكان عبورنا في سبع شاحنات ومعها سيارة القائد الرائد شاكر الذي حدثتكم عنه في الحلقات السابقة وعبرت أول سيارة وبعدها الشاحنات تباعا ...كانت الشاحنة التي أعبر بها سيارة ورشة من نوع زيل الروسية ...ونحن في الثلث الأول من المعبر انفلتت (دواسة السرعة) ربما نتيجة للضغط عليها بقوة من قدم السائق محمود الميكانيكي استعجالا للوصول إلي سيناء حلمنا الدائم...سارعت إلي الطلب منه ألا يلتفت إلي هذا العطل فسوف أستعمل يدي في الضغط علي الدواسة حتي نعبر وفاتني أعظم منظر ما زلت أحزن عليه أنني لم أتمكن من رؤية المعبر ولا مياه القناة أثناء العبور لانشغالي بالدواسة وانكفائي عليها لكي لا نعطل المعبر فليس هناك وقت لا للانتظار ولا الإصلاح ولكني في النهاية استطعت أن أري فتحة العبور التي صنعها سلاح المهندسين العسكريين باستعمال القذيفة مصرية الصنع (بلح) والتي تعتبر إنجازا عسكريا نابعا من العقول المصرية الفذة التي لا تعرف المستحيل وباستخدام خراطيم المياه ومضخات المياه بالغة القوة لتعلن أن الماء أصبح سلاحا لا يستهان به وأن المصريين هم أصحاب الحلول التي لا تخطر علي بال ...عبرنا إلي الشاطئ حتي ابتعدنا عشرات الأمتار فقط ومن عجب أننا رأينا من قبلنا ورأينا أنفسنا ننكب جميعا ودون استثناء علي الأرض ساجدين شكرا لله ...لم يكن مشهدا مقررا ولا أمرا عسكريا بل تصرفا أجمعنا عليه دون أي اتفاق...وسمعنا تكبيرات الصلاة والتهليل والتحميد طوال الوقت حتي أذان الفجر ومن العجيب أن نداء صلاة الفجر الذي ظل غائبا عن هذه البقعة من أرض مصر ست سنوات من 67 إلي 73 والذي انطلق في هذه الليلة وبالتأكيد في الليلة السابقة لمن عبر قبلنا كان له طعم لم نستمتع به بعد ذلك ولا قبل ذلك كان أول نداء للصلاة يدخل القلب قبل أن تسمعه الأذن...نعود إلي المعبر.....بعد أن عبرنا وسجدنا وحمدنا الله لم يكن يهمنا بعد هذه اللحظة أن نحيا أو نموت فقد حقق الله لنا النصر والعبور فلم يعد في الآمال أمل آخر إلا الاستمرار في التقدم وتثبيت النصر وبعد ذلك فليكن ما يكون....... ذهبنا سريعا إلي موقعنا المقرر من قبل قادتنا في الثانية عشرة تقريبا منتصف الليل وكان علينا أن نقوم بعمل لو طلب منا في غير ذلك الوقت ما استطعنا أن ننجزه في عشرة أيام...وصدقوني آمنت في تلك الليلة أن الإنسان وخاصة العربي وخاصة المصري ليس له حدود في العطاء ولا يعرف الكلل ويتغلب علي أصعب الظروف ولم تتغير فكرتي هذه بل تأكدت بعد أن رأيت صورة الأنفاق التي يصنعها الفلسطينيون فقلت نعم هناك من يتسابقون معنا في عمل المستحيل....تصورا يا إخوتي أننا نحن أفراد هذه الوحدة الصغيرة التي لا يتجاوز عددها 27 أو 29 فردا بما فيهم القادة والضباط لا أذكر تماما العدد لكنه بالتأكيد بين هذين العددين حفرنا سبع حفرات واسعة عميقة لدرجة أنها تخفي الشاحنة الكبيرة فلا يظهر منها شيء علي الإطلاق ....وتم حفر هذه المخابئ في ليلة واحدة حيث انتهينا من العمل مع بزوغ الفجر.....وإلي ذكريات اليوم التالي إن شاء الله
التعليقات (0)