بقلم :كمال الرياحي
أنت في ورطة، بعد أن جرّدت من أسلحتك وأجبرت على رمي ما تمترست به من مناهج نقدية وأدوات إجرائية ونظريات للتلقي من نوافذ الصدمة إلى بحر الظلمات، وعدت فقيرا عاريا، آدم تطاردك الخطيئة في أرض الصفر وأنت صفر اليدين مشنوق على بوابتها القصيدة من الأذنين. عدت إلى رجفة الخطوة الأولى، تتعلّم المشي بالعينين على أرض شعرية متحرّكة، تأمل أن يسندك أحد، لا يهم الغول أو العنقاء أو ذو القرنين. مسكين أنت أيها القارئ الوحيد في عراء الكلمات، تّرجِمك خطايا الشاعر الكافر بعمود القصيدة، وبالفواتح، والمخارج وبالعلل وبالزحاف، وبالخليل المخلل في الدواة. مسكين أيها القارئ القديم المعفّر برماد الأثافي، حين يلسعك وأنت تحت اللحافِ الاختلافُ. كيف السياحة في أرض الخراب؟ كيف السباحة في الدم المراق والدمع الحريق؟ تصرخ ب حرارة الروح أين المسالك؟ أين الثنايا؟ أين الطريق؟ ما هذه الهدية الملعونة أيها الفاطمي؟ امرأة في ملعقة من علقم ترقص على أنغام خطيئتها، حرّة وتأكل بنهديها. ما ضرّ الحرة إن أكلت بنهديها؟ ها هي القصيدة تأكل ناظمها وناشرها وقارئها، وتفجر مع والدها، وتشهّر بعجزه على الملأ: لم يشبع حاجتي يا سادة! ما ضرّ اليوسف الواقف على أرضه لو هتك المهتوك وتعرّض لعرض القصيدة وخلخل عمودها واستباح عروضها المتفسّخ على أرصفة المتشعرنين منذ سنين؟ ما ضرّ اليوسف لو خرج من البئر القديم ووقف أمام إخوته الكبار وقال: ما أكتبه ليس الشعر الموزون أو الشعر المنثور وما هو بالإعجاز ( فقد ولى زمن الشعراء المنتفخين بأنفسهم – زعماء النظم الزائف و الزلفى- ) ما أكتبه بالفحم هنا والآن – محاولة للحلم وللتحريض عليه وفلسفة للثأر من امرأة ... ولدت هذا الأسطول الهائل ... من حمقى العالم و انتظرتهم – و هي على قلق – حتى أثموا! ... نعم ! لتذلّل أيها الناقد المصلوب على أخشاب الحداثة، على يمينك ابن رشيق وعلى شمالك الجرجاني وتحت أقدامك كل التابعين بلا رؤوس، مقطوعة أذنابهم بذنوبهم، وكل ذنوبهم الاطمئنان المبالغ والتباكي في زمن التشظي و التشاطي. هذه الأرض الصفر تعلن أننا ظللنا قرونا من القول الشعري واقفين في الصفر الذي خلقنا نعد الأثافي ونقطع أوصال العبارة على مزاج الخليل ونصنع لأنفسنا العلل ونزحف على الزحافات؛ ولما انهارت بروجهم لم يجدوا بالصفر غيرنا أحفاده، فسووا بنا أرضهم، ووارونا الخراب. فكيف السكوت على الأمس الكذوب؟ كيف السكوت بعد أن داسنا البقر بقر الحروب؟ ما جدوى السيوف والدروع والرماح والمجاز وغزل الحجاز في عصر تأكلنا فيه الصورة ونحن نتسكع بين المواقع؟ وما جدوى عزلتنا وما جدوى الأبواب في عصر الواب؟ وأي قصيدة اليوم نكتب؟ أي قصيدة نكذب أيها الشاعر؟ استدار اليوسف قائلا: أما القصيدة - وهي تستدعي عموم معارضيها من أساتذة المجاز وما اليه – فقد رأت أن تجلد الأدب القديم أمامهم ... دعت الحطيئة، عروة بن الورد، بشار بن برد، الشنفرى والآخرين ... أن يتركوا كل السيوف، هناك، في الصحراء وليضعوا الحروف مكانها لتقول بالدفق زمانها شرط التقيد بالشروط و من أهم شروطها: عدم الهروب الى الوراء إلى تقمص نخوة البطل العظيم و نحوه عدم التحصن بالتشابيه البليغة أو بما يدعو إلى سحق العدو ومحوه عدم التشدق بانتصارات الحدود و/أو بأندلس تعود و لن تعود ... قف! استعد. إنّك انحرفت. لقد استوليت على بردة الشاعر، هيّا عد إلى انضباطك، وتأبط سوء نيتك واهجم ناقدا ناقما. هكذا صرخ بي شيطان النقد القديم وهو يعدّل خانقة العنق الطويل. أجبت: كيف أستجير بتربة الصحائف الصفراء في حضرة قصيدة بالألوان الرقمية؟ اغرب عن سمائي أيها الرجل القديم واحمل ما نثرت من أرضة ثقلت بطونها بالكلام العتيق. هذه أرض الصفر بكر قصيدة حبلى بالحرام، اركض قد يراك شيوخك فيجلدنوك حتى تستقيم، نحن في حضرة الخطايا، دعنا، وعد إلى ميثاق العمود وتنعم باكتشاف الزحاف وتقص العلل. هذه أرض غريبة قد تتوه يا عزيزي بين زرّ و زرّ. عد يا عزيزي إلى عصر قديم يعقل الكلمات في المخازن والزوايا وينادي بإقامة شرع الله في الخارجين عن الطريق. هذه الأرض يا صغيري بلا طريق. هذه أرض الخارجين عن الطريق. في أرض الصفر، يتأرّض يوسف رزوقة – يتعرض - لأرض القصيدة وعرضها، يرفض الإقامة في جلباب أبيه و التأرض بأرضه. فتنتفض بعقوقه العبارة كما لو كانت أصيبت بأرض – رعدة - لتكتب حمّى الاختلاف والتآمر على تاريخ الأمر المطاع والدرس الشعري القديم، فقد مل التلميذ المسنّ دوره، وحان زمن التنكّر والتفكّر، والمبيت خارج البيت العتيق. حان الوقت للاستقالة من تمثيل دور العبد المطيع للنحوي القديم وللشاعر القديم وللمنظر القديم ولبناء القصيد القديم. حان الوقت لكسر جرار النبيذ القديم ونموذج الحب القديم وتقاطيع الحسن القديم. لم يعد الشاعر ذلك الواقف الباكي أمام بقايا البعر وسود الأثافي وأطلال خيمة كانت تسكنها الحبيبة الراحلة مع نجعها. لم يعد الشاعر ذلك الفارس، الراكب، الشاهر، الرافع، الكاذب ... لم يعد ذلك الذي تعرفه السيوف والليل والأقلام. لم يعد الشاعر ذلك المكبّل في أغلال الخليل أو ذلك المنفي الحزين، الحالم بالوطن البعيد المستحيل. لم يعد ذلك العاشق الشاكي من عين العذول، لم يعد ذلك المنبري القديم الذي يلوك أسماء الملوك والدول التي تدول ولا يدول. الشاعر في أرض الصفر كائن متجبر، متمرد، يواجه الدنيا من خلال حاسوبه بصدر مفتوح لبلايين النبال. يرقص على ملايين الحبال، دون تشدّق بقضايا والتزام. يرتحل في رمشة عين عبر العالم، ويلج القصيدة متوعدا قارئها وناقدها دون نسيب ودون وصف لرحلة أو راحلة. فقد فات زمن البعير والسفر الطويل، هذا زمن الإبحار في المستحيل عبر شاشة المستطيل. شاعر أرض الصفر، غير ذلك الأشعث المزطول، الذي يلهب شلله بالكؤوس ويرتشف الغيبوبة تلو الغيبوبة. الشاعر في هذه الأرض عالم بأسرار العالم، ترتعد لأصابعه الآلة فتأتيه بالصورة إلى فمه حتّى يؤرّخ للثانية المنسية وينحت من ذبذبة السيّال السابح فينا تمثال اللذّة. ويبني بطوب الخيانة العظمى، خيانة عمود الشعر، برج قصيدته. و يهشّم بمطرقة اللام والألف جمجمة أبيه الرّاقد مثل الطاعون في دم دواته والقلم. هل تؤسسأرض الصفر للطور الشعري الرابع بعد العمود والتفعيلة و النثر؟ أرض الصفر أرض رقمية أو قصيدة رقمية لن يفهمها حراس الخليل القدامى، فلا تنفع معها جداول العروض وعمدة ابن رشيق، هي رشيقة دونه، قصيدة مضادّة تبتلع كل التجارب وتنتصب نصبا لنص الغد الذي يحق له أن يجري على ألسنة من ركبوا العفريت ومسحوا الدنيا وعادوا بكلمات ضوئية ترفل في حرير الإشعاع، إنجيل آخر لزمن آخر، نبيه، طفل مهموس بتمزيق تركة الأجداد والمقامرة بأرض ميتة ،سوداء. وينادي العالم لأرض أخرى هناك ... ترقد في عمق الفكرة ... هناك في عمق الرؤيا ... هذهأرض الصفر أرضكم أنتم يا معشر الآن فادخلوها عرايا من النوايا. و هذا اليوسف يرقّعها الخريطة بسيف السّاموراي المدبب ويدعوكم لكي تشربوا على نخبها من دم الذئب الشّهير وتحضروا مراسيم ذبح الأخوة والعشيرة أمام بوابتها الأرض الجديدة، الأرض الجديرة بالكتابة. أرض القصيدة، قصيدة الآن. _________________________ -
مقدمة لكتاب الشاعر يوسف رزوقة المعنون ( أرض الصفر )، صدر في النصف الثاني من شهر جوان/حزيران 2005. كمال الرياحي - تونس Kamelriahi2@yahoo.fr
التعليقات (0)