مواضيع اليوم

ذاكرة تحترق

عوني عارف ظاهر

2012-10-13 13:07:19

0

 

ذاكـــــــــــــرةٌ تحتــــــــــرق"
  • ا
    القصة ألفائزة بالمرتبة الاولى بجائزة نجاتي صدقي بالقصة القصيرة على مستوى الوطن والتي نظمتها وزارة الثقافة. (على هامش معرض الكتاب الدولي )...بقلم منار عبدالله برهم/ طمون 
 
 
في ليلة هدأ فيها كل شيء، إلا من صخب القمر الذي يفترش السّماء، وطقطقة لوح الزّينكو، المستند إلى برميلين صدئين، فوقه نجلس، نتهامس، أشد ركبتي إلى صدري، أحشو رأسي بينهما، تلتف يداي حول ركبتي، تتشابك الأصابع كغصني دالية.
يطقطق قلبي والزّينكو كلما تحركت، وتهزهزالريح آخذةً معها منديلها الأرجوانيّ، قتتراقص خصلات شعرها كفراشة، يقترب منّا القمر كامرأة فضولية، وكأن كلّ ما في الكون يستحثها لتنطق...
أخذتني بحضنها، قبلتني كما لم تقبلني من قبل، تغلغلت أصابعها بشعري الذي قلما أحلقه.
وبعد صمت عميق
نطقت ..
"ولدي..لقد مرّ زمن طويل، ربما يضاهي سنة ضوئية –أطول من أن تُقاس- كلّ ما أرجوه الآن كيساً عميقاً، أصبُّ فيه ذاكرتي التي كادت تتفتق، وزهرة حنّون لأتوقع ولداً أم بنتاً هذه المرة.
أركض كغزال بريّ إلى آخر الزقاق الطويل، تثرثر النساء، يصلين على النبيّ، يتهامسن كناموس
- الله يحميه
- آه، الله يصبّرها، ويرزقها دزينة ولاد.
أنادي محمد وعمر وسعيد وعلي، نركض كقطيع غزلان، تغوص أحذيتنا بالطين الذي لم يجف بعد، ها هي مدرستنا ذات الباب والنوافذ الزرقاء

نقهقه، نتذمر، نجلس على السور، نقهقه من جديد، نسكت، ندخل الصف تبعا لأومر عصا الأستاذ العصبي.
تبكي أمي، تتلعثم الكلمات، تصطدم بمطبات كثيرة قبل وصولها لأذني، يقرع قلبي والزينكو، ولا أتوقف عن تكوير نفسي، علّي أتحوصل داخل قطرة ماء أو فكرة وأطير بعيداً..
يدخل الأستاذ الصف
- "السلام عليكم"
- "وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته"، نلحن العبارة، فتكون طويلة كحبل بئر عميقة، علّها تأخذ شيئاً من وقت الحصة التي لا تنتهي إلا بخروج الروح.
كتب بطبشورته البيضاء على السبورة الخضراء، كتب حروف اللغة كلّها، وقال: "بعدما تعلمنا الحروف، سنتعلّم اليوم قراءة الكلمات والجُمل".
لمعت أسناني اللبنيّة، وفكرة في رأسي، كتب الأستاذ على السبّورة "فلسطين" أعادها الطلاب مرتين أو ثلاثة، وقرأ كل طالب اسمه، وقرأتُ أنا "مصطفى محمد أبو عامر".
رفعتُ أصبعي كأقحوانةٍ نبتت بين الشوك، "أستاذ، أريدُ أن أقرأ المدن على هذه الخريطة"
انفرد وجه الأستاذ، انفكت العقدة بين حاجبه، فابتسم لأول مرة، قرأت،
"يا..يافا، الفاااا...الفالوجة، ....خانيوونس، ....تلر..تل الربيع...."
صفّق الأستاذ ومعه طلاب الصف، سريع البديهة أنا، وذكيّ كذلك، لست غبيّاً كما يقول لي جارنا دوما.
عدوتُ كغزالٍ فرّ من مفترسه، طرتُ كصقرٍ تعلّم الحذر من الفخاخ المنصوبة في السهل.
قررتُ أن أغير طريق العودة للبيت فأنا أملك كلمات، وذكاء، ولن أتوه حتماً، مشيت عبر أزقةٍ أسوأ من زقاقنا الطويل، لفرط سرعة قدماي، وصلت المدينة، ابتهجت لما رأيت من يافطات كثيرة، قرأتها...مخبز العودة، ملحمة الوفاء، دكان الحريّة، ...
وعلى الحائط "من بحر دماء الشهداء نصنع دولة"
سابقت الشمس في رحلتي تلك، مررت برقعة من الأرض خضراء كورقة زيتون، دافئة كحضن أمّ، تنتصب فيها قبورٌ بيضاء، وأخرى حُدّدت بحجارة التفت حول مكان الجثة المدفونة.
هناك تنتصب القبور والأشجار كتوأمين متناقضين، يعانقها فلا تلمسه، يراقصها فلا تتعب، ينازعها فلا تهجره، يحاول أن يتطاول لها، فلا يطول، وتأبى هي النزول، وكأنهما وجدا ليستنشق أحدهما الحياة ويبقى الآخر لاهثاً لها.
بينها مشيت، قرأت كل أسمائهم، بعضها لم أستطع قراءته، فقد بَهُتَ سواد كلماته، قرأت الأعوام، ولأني كنت قد حضرت حصة حساب عن الطرح والاستلاف مع ابن عمي الاكبر مني بسنتين، وطبعاً لأني سريع البديهة، حسبت أعمارهم.
يبدو أن الشمس تعبت مني وبدأت تتزحلق وراء الجبل البعيد، لم أتعب، وإنما هناك شيئاً انتفض داخلي، كرعشة كهرباء، جذبني كمغناطيس قويّ، فازداد تركيز الذكاء عندي، والأدرينالين في جسدي، فقرأت وحسبت...
خمسة قبور صغيرة، تصطف كسرب حمام، يحتضنها السّرو، وينحني النرجس على جوانبها، ودوريّ يرفرف فوقها وكأنه يحرسها..
يوسف محمد أبو عامر/أشرف محمد أبو عامر/وليد محمد أبو عامر/هدى محمد أبو عامر/تقى محمد أبو عامر.
يصطفون من الأصغر للأكبر، من الستة شهور إلى الخمس عشرة عاماً
توقفت الأرض عن الدوران، وانسكبت بديهتي التي كانت سريعة في فوهة مغارة، تساؤلات عقيمة تفقأ قلبي، والقمر.
أركض، أهرب، أقرأ، أحسب، أصرخ، أبكي، أغوص في الطين حتى رأسي، أتوه عن الزقاق الطويل، أتحوصل، كنت فراشة، صرت يرقة، اختبأت داخل قشرة، أطير عن المخيم، أهبط فوق نفسي، أطوي ذاتي، الحروف تصفعني، الأعوام تفتت نفسها وتتناثر في حلقي كملح، أركض ولا أصل، القمر والقبور تلاحقني،
أمي..أمي..أمي..مخيمي،.. يا لوح الزينكو...
تنوح أمي، ويطقطق الزينكو وقلبي وقلب أمي، ولا زال القمر يقترب كامرأة زاد فضولها عن اللامعقول
- "هم أخوتي إذن"
- "أنت ذرة الحياة التي انهمرت من السماء، أنت قطعة النور التي أضاءت مُهجتي.
قبل سنة ضوئية ويومان وسويعات، قصفوا المخيم، ظنناه قصفاً لساعات مثل كلّ مرة، لكن، هذه المرة كل شيء غير، هربنا من ملجأ لملجأ، واحد، اثنان، ثلاثة، اخيراً استقرينا في واحد مع أكثر من مئة آدميّ، من مخيمنا والمخيمات المجاورة، جاء ليلٌ تبعه نهارٌ، وليلٌ، وليل، وليل..ونحن تحت الأرض. كنتُ أرضع أختيك التوأم، وأخوتك يلتفون حولي، كنحلات تحمي عسلها... هذا كل ما أذكره
كنت أنا الوحيدة التي نجوت من بين المئات، الكل احترقوا، كانوا مترامين فوق بعضهم كفراخ مشوية، متفحمين كأخشاب أكلتها النار لوقت طويلٍ طويل.

سحب القمر خيوطه وانزلق وراء الجبل البعيد، لملمت الريح هزيزها، ورحلت إلى حيث لا أعلم، صمت الزينكو رغم دويّ دموع أمي التي شطفت المخيم وقلبها، أما أنا فسجنت دموعي، وأخرست طقطقة قلبي، ألصقت وجهي ببطن أمي، وهمست:

"هيّا أيتها التوائم، أخرجي بسرعة، فنحن هنا، ننتظرك بشغف"


بقلم: منار برهم



التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات