صائب خليل
مساء الثالث والعشرين تشرين الثاني 2009، وبروكسل تغتسل بالمطر وانعكاسات أضوية الشوارع، وأنا أبحث عن قاعة محاضرة أقامها "مركز السياسة الأوروبية" (European Policy Centre) لـ "هانز بليكس"، الرئيس السابق للجنة التفيش عن أسلحة الدمار الشامل في العراق.
تحدث الرجل إلى حضور لا يزيد عن مئة شخص في قاعة صغيرة عن حال العالم، وقال أن الأسلحة النووية مازالت خطراً يهدد السلام العالمي، والحكومات التي تصرف ألاف المليارات على التسلح ، لأميركا حصة منها تقارب نصفها، بينما يتقاسم النصف الآخر بقية العالم كله.
ولمّح المفتش السابق للأسلحة معاهدات التسعينات التي لم تفعّل، وبدأ الإنزلاق إلى العودة إلى التسلح في بداية القرن الحالي، ورفض الكونغرس الأمريكي معاهدة منصات التجارب النووية وانسحبت الولايات المتحدة من اتفاقية الصورايخ المضادة للصواريخ البالستية، وتوسع الناتو بما لا يخدم السلام العالمي، وازدادت التهديدات الأمنية بعد 11 سبتمبر وغزو العراق، وانتهى مؤتمر نزع السلاح عام 2005 بجدل حاد، وفشلت محاولات تحريم الإتجار ببعض أنواع الأسلحة الشديدة الخطر، ورفضت كوريا الشمالية التخلي عن برنامجها النووي بالرغم مما عرض عليها من حوافز، مثل ضمانات ضد اي هجوم خارجي وإعادة العلاقات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة واليابان ومساعدات من الغذاء والطاقة.
أسف بليكس أن الدول الكبرى لم تبدأ بنزع أسلحتها النووية وفق "معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية" رغم أن كل من أوباما ومدفيديف يعترفان بأن هناك إلتزام قانوني على الدول النووية بالبدء في نزع سلاحها. وقال أن مما يعرقل الإتجاه إلى نزع السلاح بشكل عام هو قوة لوبي السلاح في الولايات المتحدة وأنهم يملكون الملايين ورجال الكونغرس بحاجة إلى ذلك المال.
وبدّد الرجل أيضاً الدعاية "الإرهابية" عن خطر احتمال بيع كوريا للتكنولوجيا النووية إلى الإرهابيين كالقاعدة، بالقول أن تكنولوجيا كوريا قديمة جداً، كما أنه ليس من الممكن عملياً لمنظمات لاتحكم دولاً أن تمتلك أو تشتري السلاح النووي.
وحين جاء الحديث عن إيران، كان جلياً من أسئلة الحاضرين، أنهم ينقسمون بين الخبيث والخائف فعلاً، لكن بليكس أتخذ موقفاً مبدئياً، فقال: "يمكننا أن نفهم اندفاع إيران إلى تطوير سلاح نووي عندما كانت في حرب مع العراق، أما اليوم فلا يوجد ما يهددها في دول الجوار" ثم استدرك قائلاً: "هل ترى إيران في الولايات المتحدة خطراً عليها؟ لن يكون ذلك غريباً عندما تقول الولايات المتحدة بأن "جميع الخيارات موضوعة على طاولة البحث" في الوقت الذي تدور فيه بواخرها قرب السواحل الإيرانية.
وأشار بليكس إلى أن الإتحاد الأوروبي عرض على إيران عضوية منظمة التجارة مقابل تخليها عن برنامجها النووي، لكن ذلك لم يكن كافياً وتساءل: لماذا لا تقدم الولايات المتحدة على تقديم حوافز لإيران مشابهة لتلك التي قدمتها إلى كوريا الشمالية، مثل ضمان عدم مهاجمتها وإعادة العلاقات الدبلوماسية معها؟
ورداً عن سؤال فيما إذا كان تسلح إيران سيثير سباقاً نووياً في الشرق الأوسط، أجاب بالشك، لكنه ألمح إلى أنه بالمقابل فأن امتلاك دولة أخرى غير إسرائيل لليورانيوم المخصب، قد يقنعها بتغيير موقفها والقبول بمعاهدات تخلي الشرق الأوسط من الأسلحة النووية، فهي لا ترى حافزاً لذلك الآن!
وسأل أحدهم بخبث، فيما إذا كان الدين الإسلامي هو ما يدفع إيران لتطوير الأسلحة النووية، فأشار بليكس إلى "أن المرشد الأعلى خامنئي قال بالعكس من هذا وأكد أن السلاح النووي ضد مبادئ الإسلام" وأن إيران تقول أنها تطور وقوداً نووياً فقط، و"علينا أن ننتظر لنرى."
وذكر بليكس أن إيران اشترت وقوداً نووياً من الولايات المتحدة في زمن الشاه، وأن تلك الحكومة دفعت ثمن الوقود. وحين جاءت الثورة الإسلامية لم يتم لا تسليم الوقود, ولا اعيد إليهم المال، لذلك رأى الإيرانيون أنه يجب أن يحصلوا على ذلك الوقود بأنفسهم.
رغم أن بليكس تطرق إلى ما يقلق إيران، فأنه كان بشكل عام كان يركز على حقيقة بعد إيران من القنبلة النووية، سواء من خلال تصريحات قادتها أو من الناحية العملية. أما بالنسبة للحضور، فقد كان الشك والقلق يبدو عليهم من نوايا إيران وضرورة منعها من حقها في انتاج الوقود النووي لأنه قد يتحول يوماً إلى قنبلة نووية. أما حقها في إنتاج السلاح النووي، فهو امر مرفوض ومفروغ منه، فمثل ذلك الحق لهم هم فقط وإسرائيلهم. وهذا زاد من رغبتي في تحدي هذه الفكرة الشوفينية المتعالية، فكان سؤالي هو خاتمة المحاضرة:
"السيد هانز، شكرا لك على كل المعلومات القيمة، التي بينت لنا مدى الخطر الذي يحيط بالعالم وأسباب ذلك الخطر. لقد تمتعت بهذا النقاش الصريح، حول فيما إذا كان الإيرانيون ينوون بناء قنبلة نووية أم لا، وأرجو أن تسمح لي بنقل النقاش إلى مرحلة أعلى من الصراحة، ليس حول نوايا إيران، وحقها في امتلاك التكنولوجيا النووية السلمية، وإنما حول حق إيران في امتلاك القنبلة النووية نفسها في عالم قلت أنت أنه غير آمن. دعني أطرح السؤال عليك بالصيغة التي طرحها المؤرخ الأمريكي اليساري الراحل، "هاوارد زن". يقول زن : "عندما نسأل سياسيينا لماذا تستمرون في تطوير المزيد من الأسلحة النووية ولديكم الآلاف منها، يجيبون بأن من الضروري أن نحصل على "رادع نووي". إذن لماذا ليس من حق إيران أيضاً أن تحصل على رادع نووي؟ لماذا يحق لنا أن نحصل على ألاف الروادع النووية ولا يحق لإيران أن تحصل على واحد فقط منها"؟
تنحنح هانز بجسمه الممتلئ تملأ وجهه ابتسامة طفولية محرجة، ثم قال: "ليس لدي ما أقول سوى إننا نعود بهذا السؤال إلى حقيقة المقاييس المزدوجة الغربية. لقد قال أوباما أنه ليس هناك أمة في العالم لها الحق في ان تقرر أي الدول لها الحق في امتلاك السلاح النووي وأيها لا تملك هذا الحق، وبقي أن ننتظر تطبيق هذه المبادئ."
هكذا أنتهت الأمسية، ولن يحتاج بليكس أن ينتظر اكثر، فأوباما قال منذ زمن أن امتلاك إيران لقنبلة ذرية "غير مقبول"، وأنه مستعدّ لإستعمال مختلف الطرق لحماية بلاده من خطرها. أما وزير دفاعه بانيتا فقال قبل أيام أنهم "لن يتحملوا إيران مسلحة نووياً".
بعد أيام من تلك الأمسية، حصلت على نسخة من التقرير الذي أعده "مركز السياسة الأوروبية" عن المحاضرة، والذي وزع على المشاركين والصحافة، فوجدت أن معظم ردود السيد بليكس فيما يتعلق بإيران بالذات قد تم إيجازها إلى شكل أقرب إلى ما يقبله الإعلام الغربي، أما سؤالي وجوابه عليه فقد حذفا تماماً من التقرير! فالحق في الردع النووي، مثل أمور أخرى عديدة، حق حصري بأميركا وإسرائيل وأتباعهما، ويجب أن لا يطرح على طاولة النقاش!
لا أكتمكم أني كنت سعيداً بقذف سؤال المؤرخ الكبير هوارد زن بوجههم، وسعيد بجواب بليكس، وكنت سعيداً أيضاً أنهم لم يتحملوا أن ينشروهما في تقريرهم!
http://www.beladitoday.com/index.php?aa=news&id22=3186
التعليقات (0)