د. غازي القصيبي.. وروعة الحياة والرحيل
خليل الفزيع
مساء مرنق بالحزن، ذلك الذي زُفّ إلي فيه نبأ وفاة القصيبي غازي، حين خيم الأسى وتطاولت ألسنة اللائمين، فالموت حق، والجزع منه مذموم، لكن الحزن لا ينتظر تأشيرة دخول إلى القلوب، بل يقتحمها رافعا راياته السوداء ليزرعها في صميم الفؤاد.. مرفرفة ومعلنة قتام الدنيا في لحظة الرحيل:
خفف ملامك فالفؤاد حزين
والقلب أمسى تعتريه شجون
يا من يلوم بحبه أَفلا يرى
أن الجميع بحبه مفتون
قالوا: وودعها الحياة فقلت: لم
يرحل وفينا من هواه حصون
ما بين تصديق النبأ والشك فيه، تنثال هواجس التفكير في احتمالات الانهيار والانبهار، فكيف للقامات الشامخة أن تنهار؟ ومازال الانبهار بها في أوج تألقه؟ كيف للذين تعودوا الركض في دروب الطموح والإصلاح والتنوير أن تكبو بهم جياد الحياة؟ وأن تذبل زهور الإصلاح، وأن تخبو مصابيح التنوير، لأن القدر وضع حدا لزيتها النازف من نبع الوفاء، إنها سنة الحياة التي لا مفر منها:
قالت نواميس الحياة بأنه
قدر قضى وجميعنا مدفون
اليوم أورق بامتداد حياتنا
حزن عظيم حده مسنون
والقصيبي في ميزان الإبداع ترجح كفته على كثيرين من أقرانه، فهو في شعرة ونثره مرآة نفسه التي لا تناقض فيها، حيث الانسجام التام مع الذات، وما توفر في منتجه الإبداعي من صدق العاطفة وسمو المشاعر ودقة التصوير وسلاسة التعبير، كل ذلك يوحي للقارئ انه ينهل من ثقافة أصيلة، منحته هذا التميز، وقادته إلى قمم الإبداع وهو ثابت الخطى وراسخ العزيمة في بلوغ ما لم يبلغه آخرون، جسدوا التناقض وركبوا أمواج النفاق، لتقذف بهم هنا أو هناك في أحضان أصحاب الشأن الرفيع وذوي المقام العالي، وبفقد القصيبي فقد الأدب العربي علما من أعلامه البارزين، ورائدا من رواده المتميزين:
وبكت عيون النثر في تأبينه
وترمدت بعد الرحيل عيون
ناحت قوافي الشعر في توديعه
والشعر بعد رحيله محزون
غازي المبدع في حياته هو غازي المبدع في شعره ونثره.. شمعة احترقت لتنير دروب الآخرين، ومنهلا عذبا يروي ظمأ العطاشى، ونخلة هَجَرية قطوفها دانية، بل واحة أحسائية استظل بفيئها الكثيرون، فمن ذا ينكر روعة إبداعه، ورصين فكره، ونزاهة تفكيره، وسداد رأيه، وإعجاب كل من عرفه حتى الذين اختلفوا معه، لأن قوله وعمله وجهان لعملة ذهبية واحدة:
وجمعت إبداع السلوك يحيطه
إبداع حرفك.. نهجه مأمون
وطريق التحديث والإصلاح حافلة بالذين يرون في بوادر التحديث، ومحاولات الإصلاح.. تهديدا لمصالحهم بل لوجودهم، لأن هذا الوجود مرتهن بتلك الأدوار التي يمثلونها.. عنفا وصخبا وتكفيرا، وإذا فقدوا هذه الأدوار.. فقدوا مبررات وجودهم، فكان الصراع بينه وبين بعضهم ضاريا، وهذا هو الحال بين دعاة التجديد ودعاة التجميد على امتداد التاريخ، ولا أحد يستطيع تعطيل حركة التاريخ:
حاربتَ في ثقةٍ تخلفَ من يَرى
أن التقدمَ في الحياة سكونُ
جاوزت طيش الغارقين بوهمهم
واجتزت صعبا تعتريه حُزونُ
يا غازي.. الجهل الذي جابهته
مازال ينمو شره المجنونُ
د. غازي القصيبي صوت المواطن.. صوت آماله العريضة، وأحلامه الكبيرة.. آماله وأحلامه في أن يخرج من العتمة، ليرى من الحياة جانبها المضيء، في زمن كثر فيه فساد الذمم، وعمت فيه فوضى الاحتيال على المخلوق والخالق، وتلاطمت فيه أمواج النزوات الجارحة، والرغبات الجامحة في الاستيلاء على القيم والمبادئ، وإيداعها في سجون الأطماع النهمة، لتظل تحت سيطرة القبضات الحديدية حيث الذات هي محور العالم:
سيفُ المواطن إنْ يجورَ زمانه
والدهر دوما بالوفاء ضنينُ
نجمٌ تألق في سماءِ وجودِنا
حين انبرى للتائهين يعينُ
جنحت خيولٌ للخلاف فساسها
حتى استقرت واستقام حَرونُ
إن أنس لا أنسى يوما زار فيه مبنى جريدة "اليوم" القديم قرب مقر مؤسسة السكة الحديد بالدمام.. كان وزيرا للصحة، وحينها انهالت المكالمات الهاتفية على الجريدة من كل حدب وصوب، ما بين من يسأل أو يستفسر أو يطلب أو يشكو، وكان رده على كل من هاتف هادئا ورزينا وواعدا بالقضاء على كل أسباب الشكوى ومعوقات التطوير في القطاع الصحي، ويومها كان مجرد ذكر اسمه في أي مؤسسة صحية.. كفيلا بأن تعتري مسئوليها صحوة عارمة نحو التطوير وتحسين الخدمات المقدمة للمواطن، فقد آمن أن المسئول ـ كل مسئول ـ إنما هو في خدمة المواطن في كل الحالات والظروف، وكانت هذه فلسفته في كل المناصب التي تقلدها.. أستاذا جامعيا أو سفيرا أو وزيرا، تبنى هم المواطن، وانتصر لقضايا الإنسان، وانحاز للحق والمحبة والسلام:
في كل حقل أنتَ سرتَ بظلِهِ
حفتْ بكَ الآمالُ والتمكين
ومن قال إن القصيبي قد مات ينسى آثاره التي ستبقى ما بقي للإبداع الجميل هواته، وللفكر الأصيل دعاته، وللثقافة العميقة روادها، وللطموحات الكبرى عشاقها، فإن رحل د. غازي القصيبي عن دنيانا جسدا، فهو باق فكرا وأدبا وسلوكا إنسانيا راقيا، وهو جدير بأن يكون قدوة لأجيال وأجيال، تستلهم من سيرته جوانبها المضيئة، ومن فكره جذوته المتقدة، وهذه هي روعة الرحيل، أن يكون طريقا للبقاء وامتدادا لحياة حافلة بالمنجز المبدع، ومليئة بالحب الحميم، ومكتنزة بالعطاء السخي للإنسان والحياة:
لا يفقدُ الناسُ المفارقَ إنْ لهُ
في كلِّ قلبٍ صاحِبٌ وخدينٌ
فما أقسى المصاب.. وما أجمل البقاء في ذاكرة الناس والتاريخ!. لك الرحمة أيها المبدع حياة وفكرا وفنا جميلا ورائعا لا يضاهى. وما أروعك يا غازي في حياتك ورحيلك.
التعليقات (0)