قرأت هذا الأسبوع أكثر من ألف مقولة من مقولات أحمد بن نعمان، وتوقفت عند المقولات التي تعكس مضمون العلاقة بين الجزائر وفرنسا لغويا.
ولذا كان بإمكان اللغة أن تأخذ جنسية غير جنسيتها الأصلية فهي اللغة التي تكتب بغير حروفها الأصلية.
وقد استفسرت حول اللغة التي كانت تكتب بها خطب مسؤولينا الكبار عندما يجبرون على الحديث بالعربية في مناسبات رسمية أو وطنية أو دينية وتبيّن لي أنها حروف لاتينية، وتساءلت: هل تستطيع هذه اللغة أن تنقل الأصوات العربية؟
ولم أستغرب ذلك، باعتبار أن من كانوا يقومون بذلك هم رموز الوطنية والثورة الجزائرية، ولكن ما استغربه هو أن هذه العادة ماتزال حتى الآن لدى بعض الموظفين السامين في الدولة الجزائرية، ولا أستغرب ممن يجاهرون بالحديث بالفرنسية باسم الجزائر في المحافل الدولية فهم من بقايا الاستدمار الفرنسي في الجزائر، وتجسّدهم مقولة: "فرض الفرنسية على الأجيال هو احتلال بلا قتال"، أو مقولة أخرى: "فرض الفرنسية على الجزائر أخطر من الاحتلال السافر".
لكن ما ذنب الجزائر! إذا كان فيها من هو فرنسي ويدافع عن الفرنسية ولكنه يحمل الجنسية الجزائرية؟ وما ذنب الشعب الجزائري إذا كانت الفرنسية تحتل المقابر والشوارع والمحلات وبطاقات الأعراس وحتى مؤسسات الدولة، لقد صارت الجزائر اليوم ملخصة في مصطلح جديد فرضه "جازي" على مشتركيها وهو "عيش La vie"، وبغض النظر عن الخطإ اللغوي فهو يعكس ازدواجية اللغة، والخطاب اللغوي في معظم المنابر الإعلانية والإشهارية في الجزائر.
الجريمة "اللغوية"!
من يستطيع أن يتخلى عن لغته يستطيع أن يتخلّى عن هويته، ومن يستطيع أن يتخلى عن هويته تصبح الخيانة لديه "وجهة نظر".
والكثير ممن يتمسّكون باللغة الفرنسية بحجة أنها "غنيمة حرب" أو "مكسب وطني"، هم الذين قاموا بتضليل الرأي العام بالادعاء بأن اللغة "محايدة" أو "بريئة"، وهم الذين كانوا يطالبون بالأمازيغية لغة وطنية وهم الذي يكتبونها بالحروف اللاتينية إلى جانب الفرنسية.
إن جوهر المشكلة في الجزائر هو اللغة، فإذا لم نحرر الجزائر من اللغة الفرنسية، فإننا سنبقى رهينة الآخر وهو فرنسا الاستعمارية.
لقد حرمت فرنسا الجزائريين من لغتهم العربية 132 سنة، ولم تستطع أن تجعل من الفرنسية لغة المواطن الجزائري، بالرغم من أن الثورة أعادت الاعتبار للفرنسية كما يقول فرانس فانون، بعد أن كانت لغة منبوذة شعبيا.
والدليل هو أنه من سنة 1830م لغاية 1847م أصدرت فرنسا 13 جريدة بالفرنسية (خلال 17 سنة) ولم توفق في اقتناع الجزائريين، فاضطرت إلى إنشاء جريدة بالعربية وهي "المبشر" عام 1847. والدليل الثاني، هو أنها أنشأت إذاعة بالفرنسية عام 1924 وحتى عام 1943 لم تستطع أن تكسب جمهورا، فلجأت إلى إنشاء قناة بالعربية، وحين فشلت في كسب الجزائريين لجأت إلى إنشاء قناة بالأمازيغية عام 1948، ومع ذلك بقيت اللغة الفرنسية منبوذة، ومن يستخدم العربية في القنوات الفرنسية منبوذا.
والحقيقة هي أن نجاح جمعية العلماء المسلمين وحزب الشعب الجزائري بقيادة مصالي الحاج، يعود الفضل فيه إلى استخدام العربية ومخاطبة الجمهور بلغة القرآن الكريم.
فهل تستطيع الفرنسية أن تبقى مرفوعة الشأن في الجزائر بعد أن بدأ الأفارقة يتخلّون عنها؟ إن الأموال التي تضخّها فرنسا من أجل تعميم الفرنسية والكتاب الفرنسي خيالية، ومع ذلك لا تستطيع أن تقبل تسويق الكتاب الجزائري باللغة الفرنسية في فرنسا بسبب أنها تخاف من الكتاب المصنوع في الجزائر، وتسوق للكتاب المصنوع في فرنسا.
ولا أذيع سرّا إذا قلت إن الحكومة الفرنسية تمنح حقوق ترجمة كتب ساستها إلى العربية وتدعم تسويقها في العالم العربي، وقد علمت ذلك من مدير دار عويدات.
كما أن الأفارقة كانوا يرفضون الكتاب الفرنسي المطبوع في فرنسا، فاضطرت الحكومة الفرنسية، عبر سفارتها في الجزائر، إلى طبع عدد من العناوين في الجزائر حتى تسوقها في إفريقيا.
لكن مشكلة الجزائر أن محلاتها ودكاكينها في العاصمة وعدد من المدن الشمالية، ما تزال تعتقد أن التسويق لها هو العنوان باللغة الفرنسية، وهو اعتقاد خاطئ.
ولو أن البرلمان كان "وطنيا" لأجبر حكومة أحمد أويحي على تطبيق قانون تعميم استخدام اللغة العربية الذي كان أول من دافع عنه في حكومة سابقة.
ولو كانت الحكومة تحترم الدستور لما تجرّأت على إرسال وثائقها القانونية إلى البرلمان باللغة الفرنسية.
كل الشعوب تعتزّ بلغاتها، إلا قادة الشعود العربية الذين يعتقدون أن لغتهم العربية غير قادرة على حمايتهم. والحقيقة التي لا تقال أن مستوى التدريس باللغة العربية في الجامعات الجزائريو بدأ يتراجع، وأن مستوى التدريس باللغة الفرنسية هو الآخر في تراجع، وتخيّلوا معي أن دكتورا يدرّسه طالب جامعي لم يحصل على الليسانس في مدرسة حكومية عليا حتى يحصل على الماستر.
وتخيّلوا معي كيف أن أبواب الجامعة تغلق في وجوه الجيل الجديد من حملة الشهادات بحجج ربما أعود إليها في حديث لاحق. ما يؤسف له أن مشروع الفرنسية فتحت له نوافذ في الجامعات الجزائرية تحت عنوان "الماستر"، وفي انتظار استيراد أساتذة للفرنسية، نتساءل: أي مستقبل لجامعات لا تنتج فكرا ولا علما وإنما تمنح شهادات للتوظيف؟.
عن الشروق الجزائرية
التعليقات (0)