صيحتنا البعيدة
أتذكر الآن ذلك بوضوح على الرغم من مرور أكثر من ثلاثين سنة على حدوثه، فقد هاتفنى بالأمس، على غير انتظار، وفى ساعة متأخرة من الليل، أحد الأصدقاء الذين عايشوا تلك اللحظة المُلتبَسة البعيدة، وكان صوته مثقلا بالحيرة وبعض الرعب، أخذ يذكرنى بتلك الصيحة وأصدائها فى ذلك اليوم، وظل يكرر سؤالى كأنه يلقى السؤال على نفسه الشاردة المفزوعة: إذا ما كان ممكنا أن تكون تلك الصيحة وأصداؤها قد ظلت كامنة هناك لأكثر من ثلاثين سنة، وتنتظر شروطا ملائمة لتعاود لتتحرر وتعاود الانطلاق! أم ماذا؟ أم ماذا؟ ظل يكرر السؤال..
منذ سبع وثلاثين سنة، كنا طلابا متمردين ومفعمين بروح النقد الجامح وإن لم نتخل عن طبع المزاح والمرح اللصيق بتلك الفترة من زهرة العمر، وبتلك الخلطة العجيبة من الجدية والمزاح سهرنا نتسامر ونتباحث فيما يجرى من أحوال بلدنا والناس، ووجدنا أنفسنا ننحدر من قمم الرفض الصارمة إلى سفوح الحزن والرغبة فى التفريج، نُجمِع على أن هذه أحوال تُبكى، ونمثّل أننا نشرع فى البكاء كالأطفال، لكن ما نلبث حتى ننفجر ضحكا من أنفسنا على أنفسنا. نضحك ونقول إن المكان غير مناسب للبكاء، وكذا الوقت، ونستدرج أنفسنا بأنفسنا، فنختار ونحن نضحك مكانا فيه نبكى! نعُيِّن المقابر كأجمل مكان للبكاء! ونحدد صباح الجمعة، لنبكى «بكاءً صافيا أصيلا، براحتنا، بين أحبابنا الموتى، وفى صمت القبور»!
مؤكد أننا لم نكن فى أعماق قلوبنا نتضاحك، لأننا فوجئنا ببعضنا بعضا، صباح الجمعة، فى المكان الذى تتجه إليه أقدام كل الداخلين إلى المقابر، لانصباب كل شوارعها فيه، ولانفساحه قليلا، ووجود مقاعد الموزايكو المظللة بالأشجار حوله، ذاك الميدان الصغير الذى يتوسطه نُصُب الشهداء من جبس متواضع ركيك التصميم، تظاهرة صفوف مقابره الجيرية الملتحمة، ذات الطابق الواحد والنسق الواحد، كأنها قطارات متوقفة مهجورة، تغمرها شمس دافئة عطوف، وتحوطها مدافن تشع بالبياض والسكينة.
ويبدو أننا كنا خجلين من بعضنا البعض إلى حد بعيد، ومرتبكين حيال مزحتنا التى انقلبت إلى غرابة، لأننا انطلقنا نهرج.. يطارد بعضنا بعضا ونحن نتصايح، نلعب صياد الحمام بين المقابر كأطفال مجانين، وندخل فى لعبة الاختباء ومحاولة التعرف على بعضنا البعض بالأصوات لا أكثر.
ولابد أننا كنا خائفين، خوف كل البشر من المقابر، حتى ونحن نأتنس باللعب، لأننا اندفعنا نرفع أصواتنا أعلى ما يكون ونحن نتنادى، وكل من يسمع نداء باسمه يسمّى من يناديه. تجأر أصواتنا فى السكون المشمس، ويرجِّعها الصدى برنين مخوِّف، فنهيج تناديا حتى تختلط الأصداء بالأصوات. لكننا نكتم أنفاسنا فى لحظة ونحن نتلفت فى مخابئنا مأخوذين..
لقد انطلق على غرة منا صوت من الأصوات يهتف، فاندفعنا لا شعوريا نردد الهتاف وراءه، مرة واحدة، لم نكررها، بينما هجمت أصداء الهتاف تتراجع بكثافة آتية من كل صوب، وكأن الموتى فى مراقدهم قد فزعوا يرددون جملة الهتاف: «تسقط الحالة الهباب»، فترددها الأصداء باختزال: «باب باب باب باب»!
على الهاتف بالأمس ،أبديت استغرابى وبعض الرعب عندما عرفت من صاحبى سبب رعبه واستغرابه ودافعه لمكالمتى بعد غيبة، وفى مثل هذه الساعة المتأخرة من الليل، فمنطقة مقابر بلدتنا فى يوم العاصفة الترابية الأخيرة، حملت إلى البيوت والناس من حولها مع عويل الريح وصفرة التراب حشدا من الأصوات تصرخ: باب باب باب باب! تماما كالأصداء التى باغتتنا فى أعقاب هتافنا أو صيحتنا البعيدة تلك!
عرفت من مُهاتفى أنه سرت مع الرهبة بين الناس أقاويل تردد أن أرواحا لضحايا مغدورين محبوسة فى المقابر، كانت تستصرخ من يفتح لها ثغرات فى محابسها لتخرج، وقيل بل هى عفاريت أهاجتها وأبهجتها الرياح، فراحت تعبث بالبشر وتتلاعب بهواجسهم. فهل كانت تلك أشباح أصواتنا التى تركنا هتافها وأصداءها هناك؟ منذ أكثر من ثلاثين سنة؟
«ربما» قلت لصاحبى على الهاتف بحزن وحيرة، ووجدته يردد ورائى بصوت أسيف فى عمق اللى: «ربما»!
التعليقات (0)