السلام عليكم
دُغَاد
الدغاد: الدغد المرضي، حيث يتشعب لدى المرضى بعكس غيرهم، فهو لدى المرضى يتجاوز الكف والقدم إلى مواطن كثيرة جدا، فهو يصل البطن، والصدر، والظهر، والساق، وبالجملة يمكن أنْ يحدث في مواطن كثيرة من الجسد، ويتميز عندما يُحَك، بأنَّه يحتاج شيء خشن لكي يُحك، فالأشياء الملسة لا تؤتي ثمارا طيبة في الحك..
لمزيد من التوضيح، إليكم ما يلي:
مثال على هذه المدغدة: مَدْغَدَة أقْرُوحية:
مثال روتي ومفسي:
أ- مرَّ ثبار بمدة مرضية، مدغدية، فوصل إلى هذه حيث الشعور بحدتها، بسبب تفكيره فيما يعتريه؛ فكانت نتائج هذا التفكير المَألَمي؛ احْتِدَاد المدغدة المقديحية؛ فالتفكير المألمي: موتري، فمروتي – أقول مروتي لأنَّ التوتر ينزل من جانب ويبقى من جانب آخر، والجانب الآخر هنا هو الروات -..
أمثلة على هذه المدغدة: مَدْغَدَة أقْسُوحية:
أ- أصيب شمَّال بالـ"روات" منذ شهرين، ولم يكن يعمل عملا دائما، حيث أخضعه المرض لنفسه (المرض)؛ فكان تفكيره يكاد لا ينصرف لغير المرض؛ وذلك لإخضاع المرضُ له، فهو عندما يجلس يشتد المرض؛ وذلك لمجرد أنَّه يتألم من المرض، المَقْرُون بالدُّغاد من بعض وجوهه، بينما عندما يقوم ليعمل شيء ما – ممَّا لا يحتاج لتصبار – يخفّ المرض عنه؛ لأنَّ التألم معدوم، أو يكاد، فالدُّغاد أيضا معدوم، أو يكاد؛ فتوصل إلى أنَّ زيادة الدُّغاد – والمرض عموما - مَقْرُونة بخَفَم (خضوع التفكير للمرض)، وما يصاحبه من تألم، وكذلك قد توصل إلى أنَّ انخفاض الدُّغاد – والمرض عموما - مَقْرُون بالعمل – أظن أنَّ 99% من المرضى يصلون إلى هذه النتيجة، هذا إنْ لم يصل إليها كلهم -؛ وبناء على هذه النتيجة قرر ألاَّ يفكر في المرض على الإطلاق، ويُشغل كل وقته بالعمل، بحيث يقوم من النوم ليذهب إلى العمل، وينتهي من العمل ليبدأ النوم، ولكن الذي عَمِلَ عنده أخبره أنَّه سيسرح أربعة عمال، وهو واحد منهم، فعاد شمَّال إلى تفكيره بالمرض؛ فاحتد مرضه، فقال: لا بد من الانشغال عن المرض، والتألم، فبدأ يشاهد برامج تلفازية غنائية، من التي لا تَوَتُّر فيها – إلى حد ما -، ويسمع سور من القرءان، وفي الوقت عينه، لئلاَّ ينخضع للمرض، ولا يتألم، وبهذا توقف المرض عن الاشتداد، فقلَّ الدُّغاد الذي تجاوز القدم والكف، ليَحْدُث في مواطن أخرى..
ب- كان شافر قد بلغ مبلغا كبيرا في الفُعال، وبسرعة من وقت بِدْء المرض؛ ذلك أنَّ الأحول التي مرَّ فيها مَهَّدَت له طريق التوحش، بحيث جعلته لا يستأنس بأحد، بل ومن العجائب أنْ تَعْرف أنَّه قال وهو في هذا الحال: كيف يصاحب الناس بعضهم بعضا؟!.. سأل هذا السؤال بصيغة ليست استنكارية خالصة، ففيه بعضا من وجوه الأسئلة غير الاستنكارية، وهو يعلم أنَّه كان منهم، ولكنَّه لم يستثن نفسه منهم؛ ذلك أنَّ المرض وَحَّشَه، وكان من حيث لا يدر أنَّه يعوض التوحش بفُراح عندما يسمع أُغنية تعجبه، ففُراحه فوق الحد بسبب الروات الذي يضخم الأشياء، حيث يصير أقرب إلى السكران، ولكن بعد فُراحه هذا بوقت قليل يصير إحْزُوانيا؛ فيُشْدَوْدَد المرض؛ فتعجب من حاله الذي يكون في أقصى الفُراح – المريض يشعر أنه فرح كثير ملذوذ، ولكن عندما يعرف طبيعته؛ فإنَّه يبدأ يمقته، فيصير حاله كله حُزان، أو يجعل لهذا حدا -، ثم بعد وقت قليل يصير في الإحْزُوانيا حادا، وسأل نفسه: ما السبب والعلة التي تجعلانني في فُراح وبعد مدة قليلة أصير إحْزُوَانيا حادا؟ هذا السؤال جعله يتذَّكر سؤاله السابق - وهو: كيف يصاحب الناس بعضهم بعضا، وكيف يتصاحبون؟ -، فشك في صحته، فهو كان منذ عدة أسابيع يصاحب الناس، ويصادقهم، ولا يستوحش منهم، فاشْدَوْدَدَ حُزانه على نفسه؛ فأيقن أنَّ الذي هو فيه: ما هو إلاَّ مرض خبيث، فبدأ يبحث عن الأسباب التي أفضت به إلى هذا المرض، فأوغل بعيدا ليبحث عن المرض، حيث عاد إلى الماضي ليمسك ولو بشيء بسيط، يعلق عليه المرض؛ فيجعله سببا، فقد كان ينتقل من شيء تافه إلى آخر أتْفَه ليعلق عليه مرضه، فهو يعلم سبب – لا تعني عله، بل هي الملزوم عندنا – مرضه، ولكنَّه يأبى إلاَّ أنْ يجعل هذا السبب سببا من سلسلة أسباب، تمتد بعيدا في الماضي، فكانت الحلقة الأخيرة من هذه السلسلة من الوضوح، بحيث تخدع راصدها، فتظهر له على أنَّها هي السبب الأول، أما التي أرى – الآن – أنَّها أسبابا كانت فاعلة في الماضي، قد كان شُعَيْرية، تتمظهر في حزن تارة، وفي غضب تارة أخرى، بل إنْ لم تكن هذه مظاهر ابتدائية لها، فلا شك أنَّ ما أوصل إلى هذه الحلقة لم يكن مشعورا، فشبَّه هذه الحالة بإطار سيارة دخل فيه مسمار، فلم تتوقف مباشرة بعد أنْ دخل المسمار فيها، بل استطاع صاحب السيارة أنْ يقود سيارته دون أنْ يشعر بشيء سيئ، ولكن عندما قطع عدة كيلو مترات، شعر بثقل في حركة السيارة، فأوقفها، ونزل فإذا بالإطار قد فقد الكثير من هوائه، ولكن حدث ما لم يكن يتوقع: فقد رأى الذين يستوحش منهم من الذين يكون معهم أحيانا، يتوترون عندما يكون بينهم، بينما قبل أنْ يكون بينهم، بل حتى في بداية وجوده بينهم، لم يكونوا متوترين، فاقترن في قلبه أنَّ وجوده بينهم مَقْرُون بتوترهم، كما اقترن وجوده بين بعض الناس بتوترهم، فزاده هذا يقينا بأنَّهم يمكن أنْ ينعدوا من المريض، فلم يعُد يذهب إليهم كثيرا، ولكنَّه اضطر أنْ يبحث عن من يقاسمه دفع تكاليف البيت، فوضع اعلانا عن وجود غرفتين للإيجار، فجاء إليه اثنان، فاسْتَقَرَّا في بيته، ولكنَّ ظهر عليهم تجهُّم بعد عدة أيام من وجودهم معه، فبدأ حالم يحك قدمه على زاوية سجاد درج البيت، فرأه شافر حين حك قدمه، فقال له: هل في قدمك طينا، فتنظفه على سجاد الدرج؟
فأجاب حالم: بل أشعر بشيء يحكني في قدمي..
فقال شافر في نفسه: مسكين، فربَّما الذي في قدمه مدغدة، فدخل شافر إلى الصالة حيث التلفاز، فجلس على كنبة، وقد كان جُهامي، وضُياقي، وهذا جعل حالم الذي لحقه إلى الصالة يحك جسدة كثيرا، وفجأة شعر حالم بموجة كهربية تجتاح جسدة، وقد تكررت هذه الموجة عدة مرات في الصالة عندما يكون شافر فيها، فبدأ حالم ينظر إلى أكثر زوايا الصالة، وقال في نفسه: هذه صالة مَنْحُوسة، بل نَاحِسَة، ولن أدخلها مرة أخرى، بل سأبقى في غرفتي، وقد حك قدمه من الدغد، لا بل الدُغاد على سجاد الدرج عندما كان ذاهب إلى غرفته، ولكن لم يجد شيئا يسليه عندما يريد التَّسلي، فاشترى تلفازا ووضعه في غرفته، ولكن بعد عدة أيام شعر أنَّ الشعور الغريب الذي اعتراه في الصالة بَدَأ يعتريه في غرفته أيضا، فصار ينظر إلى الغرفة بجُهام، وقال في نفسه: يبدو أنَّ البيت كله مَنْحُوس، وناحِس!..
أما بشأن عطَّار صديقه، فلم يصل إلى نفس حالته، بل أقل بكثير؛ ذلك أنَّه لا يجلس في البيت كثيرا، فهو مشغول، ولكنَّه صار يجلس مع شافر لأنَّه في عطلة دراسية، فكان يلهو مع شافر، ولكن بعد عدة أيام، بدأت المدغدات في قدمه، فحاول حكها على قدمه الأخرى، ولكن بلا طائل، فذهب ليحكها على السجاد الذي على زواية الدرجات، وقد وجد حالم يحك قدمه على الدرج أيضا، فأراد أنْ يكالمه ولكن حالم مُقِل في الكلام، فالضُياق الذي في صدره ينفره من التكالم؛ وذلك لأنَّه يُظهِر ضُياقه، وهو لا يريد أنْ يُطْهِرَه، ولكن عطَّار شعر بأنَّ حالم ليس على ما يرام، وقد ظن أنَّه لا يملك مالا، ولكن حالم قال: بل أملك ما يكفيني، وذهب إلى غرفته، بلا أنْ ينطق بكلمة أخرى، على عكس عادته الاستئذانية، وقد شعر عطَّار بأنَّ حال حالم ليس على ما يرام، رغم أنَّه يملك مالا، وناجح في امتحاناته، فناداه شافر ليُشاهِد برنامجا مَلْهَوِيا، فضحك كثيرا، لولا حضك شافر الذي كان يعيق اتمام الضحك، وليس هذا فحسب، بل يوتره أيضا، وما قام عطَّار إلاَّ وشعور غامض يجتاحه.. ولمَّا تكرر هذا الشعور، استقل بغرفته المجهزة بتلفاز، ولكن الشعور لازمه، فقال: هذا بيت مَشْأمي، وقد رحل منه دون أنْ يَسْتأذِن أحدا من الذين في البيت، ولكن لازمه الشعور الغريب – ضياق ومغاص وثقال – في بيته الذي رحل إليه، وزاد دغاده، بحيث صار الحكاك في قدمة وكفه وظهره ويداه، وذلك لأنَّه استسلم للمرض تماما، حيث أطال التفكير فيه، فأراد أنْ يخفف من شعوره بخروجه من البيت، فقد صار عنده قرين أُلام، فذهب إلى حالم وشافر، فلم يجد إلاَّ شافر الجُهامي، فسأله عن حالم.
فقال له: كاد حالم أنْ يقتلني بمسدسه، ولكني مسكته فأخذت المسدس منه، وسألته لماذا أردت قتلي؟
قال: أردت أنْ أقتل نفسي، فقلت لديَّ شافر في الأسفل، فلماذا لا أقتله ومن ثم أقتل نفسي؟
فعلمت أنَّه ليس على ما يرام، وأخذته لنزهة، ولمَّا تنزهنا ورأيت بعضا من جُهامه قد زال، لم آمنه على نفسي ولم أعُد معه إلى البيت، وقد أخطأت لأنني لم أُخفِ المسدس عنه بل بقيَّ على الطاولة ، فذهب هو إلى البيت أما أنا فقد ذهبت إلى صديقي، ووقت غروب الشمس رجعت إلى بيتي، فوجدت الشرطه قد أغلقت الباب، وسألتهم عن السبب، فقالوا: أنَّ أحد سكان البيت قد انتحر، فأصابني وقتها ضُياق، ومُغاص، وخُناق، ودُوار، وقد أخذوني إلى المشفى، ولكن قبل أنْ نصل إلى المشفى كان الدُوار قد توقف، ومع هذا فقد أخضعوني لفحوصات، ولم يجدوا عندي مرضا، فأحالوني إلى طبيب نفسي، فسألني: ما مُصابك؟
فقلت، أصابني دُوار عندما علمت أنَّ صديقي انتحر.
فقال: وهل تشعر بشيء آخر؟
قلت: لا فأنا أول مرة أشعر بدُوار، وأنا سعيد جدا في حياتي، ولم أعان يوما من هذه الأمراض..
فقال الطبيب: زُرني بعد اسبوعين.. ولكن لم يأتِ المعاد بعد، فبكى عطَّار واعتراه ضُياق، ومُغاص، وخُناق، وصار يخبط بقدمه على الأرض، بسبب روات سرى في رجله، فذهب عطَّار إلى بيته حُزاني أسافي..
بعد هذه الأحداث عَلِمَ إلى أي حد هو خَطِر على الناس، وعلى الذين يُخَالطهم تحديدا، فقال في نفسه: أنَّ الرَمَذ (ربط المرض بأحداث مضت، مثل: أحزان، التعرض إلى شتم، وسوء المعاملة أحيانا) خطأ؛ وذلك لأنَّ كل الناس تمر بهذه الأحوال، وكثير من الناس يُعَامَلون مُعَامَلة سيئة جدا، لم يصابوا بهذا المرض، ثم نظر إلى الذين سكنوا معه في البيت وقد كانوا سعيدين – رغم قيام الاحتمال أنّهم مرضى، ولكن لو أخذت هذا الاحتمال على اليقين فربَّما عليَّ أنْ أنشر المرض لكل الناس لكي لا يبقى هذا احتمال، وهذا غير مقبول -، ولم يصابوا بجُهام إلا عندما ساكنوني، وكالموني؛ ولهذا فلا وجه لربط مع يحدث معي بحادثة حزن أو عضب فيما مضي، أو البوح بسر كُتِمَ معي؛ فرُماذي خطأ، وليس رُماذا صوابا..، وعلى افتراض أنَّه صوات فلا يجب الابتعاد كثيرا، فالمرض يمكن أنْ يبدأ ويصل القمة في أقل من خمسة أشهر..
ثم أنَّ النزذ (انزال قياس: شيء حدث مع شخص مشابة لحدث يحدث مع شخص آخر، بحيث ينزل المقيس منزل المقاس عليه) الذي قمت به خطأ؛ ذلك أنَّ الذي يحدث معي سببه المرض، أما الذي قست عليه، فهو يعيش حياته بلا أدنى عائق، ولو كان الذي يَحْدُث معه مثيل للذي يَحْدُث معي لمَّا كانت حياته على النحو الذي أراه.. هذا ما حدث مع شافر واللذين سكنا معه، يا صفَّار..
ج- كان ظافر قد أوغل في الفوقلة، بحيث صارت حُراكات رأسه، تُلْفِت كثيرا، العمال الذين يعملون في نفس المحل الذي يعمل فيه، وقد كانوا يضحكون عليه في البداية، ولكن تماسكه، ولا مبالاته من ضحكاتهم، عادت عليهم بما لم يتوقعوا، فأجواء العمل أصبحت موترية، فهذا يحك جسده، وذاك يلحس شفته، وغيره بدأت منه حُراكات رأس، وآخر صار عندما يمر من جانب ظافر ترتجف رجلاه، بل لازمته هذه الرجفة حتى عندما كان يَخْرُج من العمل، وعلى إثر ما حَدَثَ، قرر صاحب العمل طرد ظافر من العمل، فجلس ظافر في البيت بلا عمل، فزاد مرضه، وصار الدُّغاد يَحْدُث في القدم والكف، بل والساق والفخذ، إلخ، فصار يفكر بالانتحار، فطال تفكيره بالانتحار، حتى ترسخ هذا التفكير في قلبه، وصار يأتيه في وقت لا يريد أنْ يأتيه؛ وذلك لأنَّها صارت رُفَاك انتحاري (كُرارة فكرية – انتحارية هنا -، أي فكرة تتكرر كثيرا، بحيث تستولى على صاحبها، فلا يجد فكاكا منها).؛ فمُرَاك انتحاري؛ وقد انتحر على إثره..
المُرَاك: كُرارة عملية، أي عمل يتكرر كثيرا، بحيث يستولى على صاحبه، فلا يجد فكاكا منه.. سببه أنَّ صاحبه ينسى ما إذا عمل عمله أو لا، وهذا يتعلق بمدى انصياع المريض للمرض، فكلما كان المريض، دائم التفكير في مرضه، بحيث يُزاد مرضه وألمه من تفكيره في المرض؛ فإنَّ نسيانه يرتفع، والعكس بالعكس، ولكن هذا لا يعني أنَّ النسيان ينقطع عنه تماما، بل يمكن أنْ يبقى منه، لأنَّ وجود المرض دون أنْ يُدِيم التفكير فيه، وينتج عنه زيادة مرض من أتجاه، وتألم من اتجاه آخر، كاف لأنْ يجعله ينسى، والنسيان هنا ينصب على الأحداث القريبة دون البعيدة، ولكن إنْ كان المريض يعرف سلوك المرض جيدا، فإنَّه يتخلص من المُراك ، بإستثناء لو عَمِل في شيء خطير – الكهرباء مثالا -، ولم يكن متأكدا من صحة عمله، فإنَّه يكرر التأكد من أنَّه عمل عمله على الوجه الصحيح، وربما بعد تأكده عدة مرات، لا يُتَمِّم العمل، ويوكله إلى شخص مختص بالعمل الذي يقوم به، كما ترون فهذا الأخير المراك عنده منصب على عمل شيء خطير غير متأكد من صحة عمله فيه، لأنَّه علمه فيه قليل، وهذا يمكننا ألا نسميه مراكا، ولكن المرض يلعب دوره؛ فهو يُضَخَِّم من الخوف الناتج عن خطأ في العمل..
النسيان ناتج عن الإنشغال الشديد بالمرض، فغير المريض عندما ينشغل بشيء كثيرا بشيء معين، وعَمِلَ عملا آخر، بلا أنْ يديم تفكيره فيه، فإنَّ العمل الثاني معرض كثيرا للنسيان، فإذا كان هذا يحدث مع غير المريض، فكيف يكون الأمر مع المريض، المشغل بالمرض من اتجاه، وزيادته من اتجاه، والتألم الناتج من اتجاه، والأفكار التي تدعوه للإنتحار من اتجاه، والأفكار التي تدفع الأفكار الإنتحارية، كما ترون فالمريض دائم التفكير عن المرض ولوازمه..
يمكن للناس أنْ يستولوا على حقوق المريض الذي يعاني من المرض، فأبناء الحرام كثيرون في هذا الزمان..
د- سافر سابر "د س" إلى إحدى الدول طلبا للعلم، ولكن ماله الذي يصله شهريا، يكاد لا يكفي أجرة غرفة شهريا، فكيف بأجرة جامعة؟!، ومواصلات، إلخ، فلم يُفَكِّر بالعودة إلى بيت أهله، بل بقيَّ هناك، فأخذ يَحْزَن على حاله من حاله، وداوم على حُزْنِه، إلى أنْ صار حُزَانا، فصار أعراض المرض تظهر الواحدة تلو الأخرى، كأنَّها في سباق، وكان الدُغَاد من بينها، فأخذ يحك مكان الدغاد كثيرا، حتى أصيب بملل، من كثرة الحك، ولكن حاله هذا لم يغيبه تماما عن وضعه المالي، وقد سافر إلى مدينة غير التي كان يسكنها، لعل الحال فيها يتحسن، ولكنَّه لم ينال مطلوبه، فذهب ذات يوم إلى مسجد لأهل الدعوة، في المدينة التي سافر إليها، لا ليُصَلِّي، بل ليَبْحَث له عن مأوى، فماله لا يكفي لسد تكاليف غرفته التي استأجرها، وبقية لوازم الحياة الضرورية، ولكنه لمَّا دخل المسجد صَلِّى مع المصلين، ولمَّا انتهى من الصلاة جلس جانبا، وسأل الذي بجانبه: هل يُسْمَح بالنوم في المسجد، فقال اسئل ذاك الرجل المسؤول، فسأله، وكان جوابه: إذا أردت الخروج - أقل أيام الخروج المنظمة ثلاثة أيام، وأكثرها أربعة أشهر، وأوسطها أربعين يوما - فنعم، وإلا فلا، فاستغل الأولى لا ليَخْرُج، بل لينام في المسجد، بضعة أيام على الأقل، فلم ينسَ أنَّه جاء للدراسة، فنام ليلته الأولى، وذهب ليبحث عن مدرسة، ليتعلم فيها "دروس لغة" بقدر ما تسمح له ميزانيته، ولمَّا وصل كلية تدريس اللغة الإنجليزية، استبشر خيرا، فسألهم عن ثمن الدروس، ولم يكن ثمنها أكثر من ثمن الدروس، في الكلية التي درس فيها ثلاثة أسابيع - ولم يدفع لهم، لأنَّ ثمن الدروس التي تعلمها في واحد وعشرين يوما، تساوي مبلغ المال الذي يصله من أهله، فإذا دفعها لهم، فلن يجد مأوى يأويه، خرج منها ولم يعد -، ولكنه بَحَث عن كلية أخرى أجرتهم أرخص، ولم يجد فارقا يُذكر، وذهب إلى المسجد لينام ليلته الثانية، ولما طلع الصباح، خرج من المسجد مهموما، وصار يدور هناك على غير هُدى، ورجع قبل صلاة المغرب إلى المسجد، وصلى المغرب مع المصلين، وكان يوم خميس، فأهل الدعوة يلقون دروسا بعد صلاة المغرب كل خميس، وكان الدرس بإحدى لغات الهنود، فلم يفهم شيئا، وهو على هذا الحال سمع شخص يتكلم باللغة العربية، فتعرف إليه، وكان فلسطيني، فأخذ سابر يسرد له قصته، ووضعه الصعب، لا ليحصل على مال، إنما تنفيس هموم، فقال له الفلسطيني – وكلاهما فلسطيني -: ولماذا لا تطلب لُجُوء سياسي؟ واستدرك، لو حصلت على لجوء سياسي لحصلت على مأوى، وستدرس على حسابهم!
فجن جنون سابر من هذا الكلام، وقال: وما اللجوء السياسي؟
قال الفلسطيني: هو حماية لك من موقف متخذ ضدك، من الدولة التي أتيت منها، في الدولة التي تحصل منها لجوء سياسي؟
فقال سابر: صحيح أنَّ هناك تَمْياز، وعنصرية، ولكن لو فعلت، فسأُوَرِّطُ نفسي، وبعدها فَسَّن سابر، وأصيب بدغاد في كفه، فحكها على السجادة، ولم يستغرب الفلسطيني من فسنه، ولكن استغرب من حكه، ولكنه لم يولِ اهتماما كثيرا بالأمر، وقال: إنَّ ما ذكرته كاف.. ولكن سابر رأى أنَّه لو فعل فإنَّه عُرْضَة للملاحقة، ولكن الفلسطيني لم يَدَع سابر يُفَكِّر كثيرا، وأعطاه رقم محام يعمل بمجال اللجوء السياسي، وفي اليوم التالي، هاتف المحامي، وقال له المحام، أنَّه يكون في منطقة كذا وكذا، فوصل سابر بعد معاناة شديدة، وتكالما، وسأله سابر: ماذا يعنى اللجوء السياسي بالضبط؟ فأجاب بما لا يختلف عن الإجابة التي حصل عليها في المسجد، وقال: هناك غير اللجوء السياسي، ولكن سابر كان مشوشا من المرض، حتى أنَّه بصعوبة تَمَّم حواره مع المحام، وبعد أنْ كَلَّم المحام، لفلف في المنطقة التي كلمة المحام فيها، وقُبَيْل المساء عاد إلى المسجد، ولكن المسؤول علم ما في نفس الذي طلبه النوم في المسجد، أنَّه لا يريد الخروج، فقال له: خُذ ملابسة وإياك أنْ تعود إلى هنا، وقال: "ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين"..
لمَّا خَرَجَ المريض سابر من المسجد، أصيب بمغاص، وضياق، وخناق، وصداع، ورفاف، وثقال، إلخ، فماله لا يكفيه، ولكنَّه استأجر غرفة، واتفق مع صاحب الغرفة على أنْ يُعْطيه بقية الأجر بعد عدة أيام، وفي الأيام التي قضاها في غرفته التي استأجرها، وأخذ يُفَكِّر في ما يمكن أنْ يقوله، وقال والخُناق يعتريه: لو ادعيت أنهم أرادونني حراسة حدود، وأبيت، فستكون ورطتي كبيرة، لو علموا بهذا، فلا شيء من هذا قد حصل، ولكنَّها يمكن أنْ تكون مقبولة أكثر - عند الذين ألجأ إليهم - ممَّا لو ادعيت أمر أهون، وانتهت المسألة عند الادعاء المَوْرَطي..
حاول سابر أنْ يَكْبَح جماح هذا الإدعاء، ولكن للأسف فقد استحال رُفاكا (كرارة فكرية)، وما لبث الرفاك أنْ طُبِّقَ، تحت مرض يعتري المريض من كل اتجاه، وإنْ لم يَشْعُر به غيره، ولكن يمكنهم معرفة حاله إلى حد ما، في بعض الأحيان..
بعد أنْ حَصَل على لجوء سياسي، بعد أنْ صار ادعاءه رفاكا، لم يَسْكُن مرضه، بل اشدت، فهو لا يعرف سلوك المرض، ولا يبالي بالتفكير في المرض، والتألم منه؛ وهذا ما جعل دُغاده يَحْتَد، فصار الدغاد يَحْدُث في جل مواطن الجسد تقريبا، وهذا أحد الحوائل التي حالت بينه واتمام اللغة التي جاء ليدرسها، فقد كان يَظُن أنَّ المرض يمكن أنْ يسكن، ولكنَّه للأسف، فالمغاص صار تمغاصا، والضياق صار تضياقا، والخناق صار تخناقا، والحمام صار تحماما، والعراق صار تعراقا، بحيث يجعل رائحة صاحبة تكراهية، والفسان صار تفسانا، والصداع صار تصداعا، والشقاق صار تشقاقا، والقلاق (عدم الاستقرار في مكانه) صار تقلاقا، والشكاذ صار تشكاذا، العباس صار تعباسا، والهمام صار تهماما، والقُناط صار تقناطا، والحراك صار تحراكا، والحضاك صار تحضاكا، والسراع صار تسراعا، والهياذ صار تهياذا، والدغاد صار تدغادا..
في أحد الأيام عندما عَلِم أنَّ المرض أصبح جزء من جسده، ولا يمكن فصله عنه، خصوصا أنَّه قد بلغ القمة في المرض، قال في نفسه: حياتي قد توقفت تماما، فلا دراسة ولا غيرها، فحالي يحيل بيني والدراسة، فلو كان بإمكاني أنْ أحفظ عشرة كلمات في اليوم الواحد، فالآن لا يمكنني أنْ أحفظ عُشْر كلمة، قال هذا وهو لا يعرف سلوك المرض جيدا، وقد صدق، فالذي لا يعرف سلوك المرض، ويريد قضاء شيء معين، واعتراه وهو في هذا الحال - تضياق مثلا -، فإنَّه يجعل بقية الأعراض تتلوه الواحدة تلو الأخرى؛ لأنَّه يتألم كثيرا..
بعد أنْ قال أنَّه لا يمكن أنْ يَدرس أي شيء، أراد فَرْط ادعاءه الذي ادعاه، وحصل بموجبه على لجوء سياسي، وكان له ما أراد، ولكن جواز سفره مختوم عليه، أنَّه كان لاجئ، فمزق الأوراق من الترفاك (فرط تكرير فكرة مرضية) الذي طُبِّق، وقدمه إلى مسؤولين في السَّفَارة، وحصل على غيره، بعد عدة أيام، عاد والتدغاد يعتريه من جل جسده، وقدمه على وجه الخصوص، التي لا يفتر يحكها في الأشياء الخشنة..
مَدْغَدَة مُقْدِيحية: هي إفرازات رُواتية حادة في مواطن معينة من الجسد، منها: القدم، والكف، وبعض المواطن الأخرى، فهي هنا قد تمددت، واستحكمت، بعكس الفروع السابقة، والفئة السابقة..
دُغَاد مُقْدِيحي: هو دغد مرضي، يتردد كثيرا، ويَحْدُث ليس في القدم، والكف فحسب، بل يتجاوز هذه المواطن إلى غيرها..
صاحبه يحك الموطن المعترى بالدُّغاد بشيء خشن، لكي يزيله، أو يشتته، أو يخفف من شدته..
التعليقات (0)