ديكور الديمقراطية ومهزلة الانتخابات ... إبراهيم أبو عواد ... نشرت في جريدة القدس العربي ... لندن ، 18/2/2010م .
إن الأنظمة القمعية العائشة على جماجم الشعوب الصامتة التي لا تعترض على انتحارها اليومي المتكرر، تنظر إلى الشعب على أنه فئران تجارب، وأعضاء في جوقة تقديس الحاكم، وتمجيد الحكومة التي وجودها كعدمه. وهي لا تتوجه إلى الشعب إلا إذا كانت تريد منه شيئاً، فتعمل على تمثيل دور الراعي المخلص للأمة، وتسوق شعارات الوحدة الوطنية وحقوق المواطنة، وتقوم بصناعة مستقبل افتراضي مشرق في عوالم الأحلام، تختفي فيه العنوسة، ويجد العاطلون عن العمل وظائف مناسبة، وتتعزز الوحدة الوطنية، وتلاحم قوى الشعب، ويحب الشعب الحاكم، ويحترم الحاكم الشعب. وهذه الدعاوى العريضة المستهلكة محاولات بائسة لذر الرماد في العيون، لأن الشعارات المرفوعة من قبل الأنظمة الاستبدادية هي مجرد كلام في الهواء لتلميع صورة النظام أمام الرأي العام في الداخل والخارج. لكن الشعب يعلم أن لا أحد يخطب وده إلا في زمن الانتخابات. فالمواطن العاطل عن الوطن مجرد رقم بين الأرقام، حيث يتم اختزال أهميته الوجودية في صوته الذي يمنحه، وبعد أن تنتهيَ مهزلة العرس الديمقراطي يذهب الساسة برفقة الحاشية إلى حفلات العشاء في الفنادق الفخمة بسيارات المرسيدس ابتهاجاً بنجاح المسيرة الديمقراطية، أما المواطن فيعود إلى بؤسه، واللهاث وراء كسرة الخبز، وإطعام أبنائه الجياع، والتفكير في موعد نهاية الشهر لاستلام الراتب. وهذه اللعبة المملة من فرط تكرارها إنما تدل على أن الديمقراطية في الوطن العربي مجرد ديكور لا أكثر ولا أقل، وأن عقلية الحاكم العربي البدوية ما زالت تقود البلاد والعباد إلى الهاوية السحيقة. فالحكومة تريد أن يذهب الناس إلى صناديق الاقتراع أمام وسائل الإعلام، خصوصاً الأجنبية، لكي يبدوَ النظام الحاكم ديمقراطياً ورومانسياً ويحترم حقوق الإنسان، مع أن نتائج الانتخابات محسومة سلفاً، إذ إن التزوير هو النشيد الوطني للمستبدين. أما المرشحون فهم يريدون اكتساب الأصوات ليزداد نفوذهم، وتتعمق شهرتهم، ويتصدروا المجالس الرسمية أمام الكاميرات، ونراهم على شاشات الفضائيات يلقون النظريات السياسية الجديدة التي لا تسمن ولا تغني من جوع، لأن الشعب الجائع الذي يقوم بعملية الانتخاب، سيزداد جوعاً بعد الانتخابات، وتذهب الوعود أدراج الرياح، ويختفي نواب الشعب في أبراجهم العاجية. لأن الديمقراطية في الوطن العربي عبارة عن تقليد أعمى فاقد للمعنى، لأن الحقوق السياسية للمواطن العربي ضائعة بحكم الدستور الذي تم تفصيله حسب مصلحة عِلية القوم.ولم يعد يكفي شراء أصوات الناخبين عبر التلويح بالمال والعصا. بل تعدى ذلك إلى نظرية قديمة جديدة في السياسة، وهي استثمار الدماء في صناديق الاقتراع من أجل تحقيق مكاسب سياسية. ونجد العديد من تطبيقات هذه النظرية. فمثلاً اغتيال رئيسة الوزراء الباكستانية بينظير بوتو تم استــــثماره بحرفية عالية لجمع أصوات الناخبين، وحشد المؤيدين الداعمـــين لحزب الشعب (حزب بوتو) الذي حقق فوزاً ساحقاً رغم أنه لا يــملك رؤية إستراتيجية لانتشال البلاد من مأزقها الخطير. واللافت للنظر أن حزب الشعب قد عارض بشدة تأجيل الانتخابات، وذلك لكي يستغل حدث الاغتيال في قمة لمعانه قبل أن ينطــــفئ، ويستثمر سياسياً في الدماء الســاخنة لرئيسة الوزراء القتــــيلة قبل أن تبرد ويتفرق الناخبون وقد فترت عواطفـــهم. لذلك فإن حرارة الدم هي العاطفة الجياشة التي بوسعها جمع أكبر عدد من الأصوات. وهذه اللعبة أفضل من يتقنها هي الحكومة العراقية التي صارت تستثمر سياسياً في المناسبات الدينية، حيث أقامت مشروعها السياسي لجمع الأصوات الانتخابية حول الحسين - رضي الله عنه -، فأضحت عاشوراء، وأربعينية الحسين استعراضاً لنفوذ الأحزاب الشيعية المتصارعة على الكراسي الوهمية، وقدرتها على تجييش الشارع الذي يُعتبَر كنزاً من الأصوات، أما الذين يموتون في هذه الأحداث الدينية بفعل عجز الحكومة العراقية وفشلها في تحقيق الأمن، فلن يذهبوا سدى، فهم يتحولون إلى أصوات انتخابية تصب في صناديق الاقتراع، وتعيد الشارع العراقي إلى المربع الأول عبر التخندق الطائفي.وهكذا تتحول دماء الشعب إلى مكاسب سياسية، وتصبح قيمة المواطن الذي لا يجد ما يأكله محصورة في قدرته على التصويت، فالإنسان في الدول البوليسية عبارة عن رقم بين الأرقام، وسلعة داخلة في عالم الحسابات السياسية لصالح من يملك المال والصولجان. لذلك تغدو الانتخابات في الدول الفاقدة للسيادة عملية احتيال لشرعنة الأنظمة السياسية القائمة بحكم الأمر الواقع، والمستندة إلى الوصاية الأجنبية المتحكمة في موارد البلاد، والممسكة بهرم القرار السياسي من الرأس حتى القاعدة. أما التصفيق والحملات الانتخابية فهي مشروع تجاري، وعملية صراع على السراب، واختراع للشعارات المفرغة من معناها، وعملية مكياج سياسي أمام وسائل الإعلام، لأن الانتماء إلى الكرسي قد حل مكان الانتماء إلى الوطن.
التعليقات (0)