أمس مات دوني جورج، الشاهد الأبرز على تدمير التراث العراقيّ تدميراً منهجياً، قبل وبعد وأثناء أحداث التغيير في عام 2003، مات بعيداً عن العراق الذي ينسى سريعاً من أحبه ومنحه أياديَ بيضاً، لنحفرْ هذا الاسم في ذاكرتنا، يكفي أنه أنقذ أكثر من نصف آثار العراق التي سُرقتْ أثناء تفرّج القوات "الصديقة" على المتحف العراقيّ وهو يُنهب على مرأى ومسمع منهم ومن كاميرات تنقل الحدث السعيد لعالم يتشفى.
لم يعد أحد يجهل أن الجشع واضمحلال الوطنية هما جذر هذه الكارثة التي ألمتْ بتراث العراق، منذ عبقرية أرشد ياسين الذي اكتشف فجأة أن المتاجرة بهذه "الأصنام" القديمة تدرّ عليه مالاً وفيراً، وغامر بتهريب القيثارة رمز مجد سومر إلى دولة مجاورة في فضيحة ذهب ضحيتها ثمانية أشخاص قتلوا في حرب بين عصابتين، قبل ذلك بسنوات حين كنا في المعارضة كنا نعرف بعض "المعارضين" الذين تاجروا بآثار العراق وتهريبها إلى تركيا بمساعدة الأبن البكر لصدام، وكنا نعرف أيضاً أن البدو من كلّ عقيدة لا يهمهم أمر تراث العراق وتأريخه، حاول القوميون تشويه العراق القديم حين ردّوا جميع الأقوام التي سكنت العراق إلى عروبة مفترضة، كأنما في أصل عقيدتهم ـ العابرة للأوطان ـ ضرورة اندكاك العراق في هذا الافتراض، ومن ثمّ سلبه أغلى مقتنياته، أعني انفراده عن الشعوب المحيطة به بتأريخ هو التأريخ الأول.
الذين أتوا بعدهم من البداة لم يكونوا أحسن حالاً، كلّ العقائد العابرة للأوطان تعتمل داخلها كراهية للوطن، تأريخه وحضارته، في حوار سابق لنا مع مسؤول لجنة الآثار في وزارة الثقافة سخر هذا المسؤول "المثقف" من الكتابة المسمارية قائلاً بتهكم "ما نفع كتابة البسامير هذه، أمام تراثنا الإسلاميّ؟". صعبٌ أن يتحوّل حبّ العراق إلى عقيدة مادامت العقائد الكبرى تأكلُ وتشرب من فكرة العبور على الأوطان وصولاً إلى أمةٍ عربية أو إسلامية هي دائماً وأبداً في حدود الفرض والإمكان.
لكنّ حبّ العراق كان عقيدة لدى دوني جورج، ربما لأنه بلا عقيدة، أو ربما لأنّه ورث ـ بالأعلاق الدموية كونه من سكنة العراق الأصليين ـ انتماء لهذا العراق الذي غالباً ما يسكنه بداة أجلاف يتنعمون بخيراته ويجعلونه بستاناً لهم ولأهلهم ثم يمحضونه وأهله الكراهية لأنهم مشدودون إلى سواه.
الخلود لمن أحب العراق لوجه العراق.
أحمد عبد الحسين
عن جريدة الصباح العراقية
التعليقات (0)