دولـــة البكّــائـيـن
مصعب المشرّف
3 فبراير 2021م
على غير عادة المطربين الذين دائما ما يؤكد معظمهم الغيرة على بلادهم وعشقهم لتراب أرضهم وتوظيف عاطفتهم الفطرية الجياشة لأجل شعبهم . خرج المطرب كمال ترباس من خلال قناة الهلال يبكي وينوح على قرار والي الخرطوم بإيقاف الحفلات الغنائية الخاصة والعامة مثلها مثل غيرها من التجمعات التي بالإمكان التخلي عنها في ظل وباء الكورونا.
كنا نتوقع أن يكون البكاء والنحيب ذاك لأجل عيون الشعب ومصلحة الشعب . ولكن الذي حزّ في النفس أن البكاء والنحيب والنواح ذاك إنما كان لأجل الذات . وخوفاً وهلعاً وإشفاقاً على ضياع رفاهية ومداخيل فلكية شخصية إعتاد عليها كمال ترباس من خلال عشاق الأغاني الشعبية الأثرياء.
ربما يلتمس البعض لكمال ترباس أنه إنسان بسيط متواضع الثقافة والوعي والإدراك . وأنه من خريجين مدرسة الحياة الذين لاينظرون للإمور بمنظور الهم العام والتضحيات. ويظل سعيداً بحاله أو كما قال المتنبيء:
ذو العقلِ يشقىَ في النعيم يعقلهِ
وأخو الجهالةِ في الشقاوةِ ينعَـمُ
وقول إبن المعتز:
وحلاوةُ الدنيا لجاهِلِها ..
ومرارةُ الدنيا لِمَنْ عَقَلا
ماذا يعرف ترباس عن الطب والعلوم والعدوى والأوبئة والفيروسات حتى يطالب بتعديل قرارات وزارة الصحة المتعلقة بالحد من تفشي وباء الكورونا ، الذي ما انفك يحصد أرواح السودانيين ليل نهار ، ولا عزاء للضحايا ولا إحصاء بدقة وشفافية؟
بكاء كمال ترباس وتهديده بالهجرة إلى أرض العرب الأثرياء لم يجد إستجابة إيجابية لدى الشباب الذي يشكل 60% من مجموع الشعب و 82% من نشطاء وروّاد وسائط المعلوماتية الألكترونية الحديثة. بل على العكس مما ظن ترباس ولم يكن يتوقع . فقد صادف البكاء ذاك نفس الذي صادف بكاء الوزير السابق غندور من سخرية مردّها أن كليهما كان يبكي على ليلاه وليس من أجل البلاد.
وكان الذي عزز من السخرية في حالة كمال ترباس أن وسائط المعلوماتية التي لا يعرف لها صاحب ومالك ؛ ولا رئيس ولا مدير تحرير قد سارعت إلى بث مقطع فيديو يأكل فيه ترباس بنهم سرويس كامل من الشواء مع العسل و "الشطة الشينة" ؛ قدمه له أحد معجبيه التقليديين . ربما يكون سمسار أو صاحب مطعم أو تاجر مواشي.
والشاهد أن كمال ترباس قد لحس تهديده وابتلع كلامه ولم يهاجر . بل على العكس دفعته الغيرة والخصومة المزمنة مع منافسه محمود علي الحاج إلى تكريس الصنقرة بالبلاد ، والحرص على إنتخابه رئيساً لإتحاد فن الغناء الشعبي. بدعم من عوض الكريم عبد الله و القـلّع.
وخلافاً لردود أفعال الشباب السلبية وعدم إكتراثهم ومسارعتهم للسخرية . فقد هالنا ما نقلته القناة القومية في موجز الخامسة ونشرة التاسعة الرئيسية أمس الثلاثاء 2 فبراير عن توافد قيادات من وزارة الداخلية إلى مكتب رئيس الوزراء حمدوك بهدف إستصدار قرار يعيد فتح صالات الأفراح والمناسبات (السعيدة) من جديد .... وبزعم الإلتزام فيها بالشروط الصحية التي تحد من عدوى فيروس الكورونا ....... ويا بلاش.
مباشرة كان التفسير في وسائط المعلوماتية أن الدوافع التي تقف خلف هذا التوافد على أعلى مستوى . والقرار الذي من المتوقع صدوره ؛ إنما كان إستجابة لدموع كمال ترباس.
إنها كارثة حقيقية إذن ، حين يكون لمطرب شعبي مثل هذا الأثر في العبث بصحة الشعب والعباد. ولا يحدوه في ذلك سوى منفعته الشخصية.
للأسف فإن في هذه الإستجابة العاطفية من وزارة الداخلية لمطالب هي ترتبط في الأساس بقرارات صحية متخصصة
... تثير هذه الإستجابة الكثير من التساؤلات حول ماهية الصلاحيات الموكلة لوزارة الداخلية من جهة . وللوالي من جهة . ولوزارة الصحة من جهة أخرى .
من هو المسئول عن تقدير وتقييم وإصدار قرار يتعلق بالحجر الصحي ومكافحة الأوبئة؟
هل هي وزارة الداخلية أم وزارة الصحة؟
وهل وزارة الداخلية معنية بحفظ النظام العام وتعقب المخالفين له أم أنها تمتد سلطاتها وصلاحياتها إلى تجاوز صلاحيات الوزارات الأخرى المعنية في مجال تخصصها ؟
ووزارة الصحة بوجه خاص يجب أن تظل بعيدة كل البعد عن الإملاءات والمجاملات . وحيث لا يمكن أن يدعي أحد أنه بمستطيع أن يحل محل الطبيب في عمله وتقييمه دون دراسة وشهادة وإجازة.
كنا إذن نتوقع أن تبادر وزارة الداخلية بتحويل مجرى دموع كمال ترباس لتصب في ديوان وزارة الصحة . وبناءاً على تقييم وزارة الصحة يكون التوصية وعلى مكتب الوالي إصدار القرار ... وما على وزارة الداخلية سوى التنفيذ.
هي إذن جوانب ينبغي إعادة النظر فيها . وبما يجعل من بلادنا هذه تمضى حثيثاً في طريق المؤسساتية والحد من تداخل السلطات ، ولما يتسبب به هذا التداخل من تكسير للقوانين والقفز فوق مصالح العموم والإضرار بالشعب البسطاء والجهلاء منهم خاصة بكيفية إنتقال فيروس الكورونا وهل ثمة علاج وإمكانيات متاحة لذلك في البلاد أم لا؟
ومن الناحية الصحية تظل حفلات الغناء في الصالات المغلقة الأكثر خطراً لجهة إنتشار عدوى الكورونا . فالرقص والتلاصق خلاله . وحركة الجسد العنيفة التي تنجم عنه تؤدي إلى كثرة الشهيق والزفير وتزايد معدلات البخر والرذاذ الرطب الساخن الذي يخرج من الفم والأنف وكافة المخارج والفتحات الأخرى . وهو ما يعتبر البيئة المثلى المساعدة لإنتشار وإلتصاق فيروس كوفيد 19.
لا يعقل أن يتم تكسير قوانين ولوائح تمس الصحة العامة لأجل مطرب إشتط في تقييم نفسه وحجمه . وظن أن الشمس لا تشرق إلا لأجله ولمصلحته الخاصة ، ولا تغرب إلا بإذنه ومزاجه.
وكذلك فإن على كل مواطن أن يعي ويدرك دوره (الفاعل) في المجتمع سواء أكان مطرب أو موسيقي أو تاجر ومعلم وجندي وصاحب ملهى ومقهى ومطعم ... إلخ. فالحياة الإجتماعية لا تعني التحايل من أجل المكسب المالي فقط بأي أسلوب وخصماً على المصلحة العامة. فلربما لو نجا شخص بمفرده من الفيروس. فإن زوجته لن تنجو وهلم جرا من الأبناء والآباء والأسرة والعائلة.
الرئيس حمدوك نفسه لا يخلو موقفه المهادن هذا من إنتقاد . فقد كان عليه أن يحيل من فوره ووقته القيادات في وزارة الداخلية التي توجهت لمقابلتة مباشرة . كان عليه توجيهها للتنسيق مع وزارة الصحة وولاية الخرطوم.
وذيول القبول بمثل هذه التجاوزات على أعلى مستويات سيمتد أثرها إلى الولايات الأخرى ، حيث لاتوجد في بعض المستشفيات كهرباء ولا تتوفر في الصيدليات مقشّعات ولا بنادول.
السؤال المنطقي بسيط يتمحور في الآتي:
واقع الأمر فإن وزارة الداخلية غير منوطة بتحمل مسئولية إصابة أي مواطن أو أجنبي بفيروس الكورونا .
وطالما كان الأمر كذلك . فإنها كجهة تقتصر صلاحياتها على تنفيذ القوانين وإعتقال المخالفين . فإن المتوقع منها أن لا تقحم نفسها في أمور لا تتحمل في الأساس مغبتها وتبعاتها .
و ....
# نعم لبناء دولة المؤسسات.
التعليقات (0)