تخيلوا أن هناك قوم يعيشون في مجتمع بلا أي دين أو ملة ..
تخيلوا أن هؤلاء القوم قد عرفوا الأديان الأخرى، السماوية منها والوثنية، وعرفوا رسالاتها وفلسفاتها وكتبها ورسلها وماتأمر به وما تنهى عنه، ولكن رغم ذلك فضلوا بكامل إختيارهم نبذها كلها، وانتهجوا عوضاً عنها حياة تخلوا من أي حكم ديني يلزمهم بأي شيئ. فهم أحرار في معاملاتهم وفي سلوكياتهم وفي علاقاتهم وفي أخلاقياتهم وفي مآكلهم ومشاربهم وفي كل تصرف آخر لهم في الحياة. لايحدهم أي دين أو مذهب، ولايغريهم منه أي فوز أم مكسب. لاتضبطهم إلاّ أنفسهم، ولاتلزمهم إلاّ قوانين وضعية تطبقها سلطات علمانية لادينية لاتستند في تشريعاتها إلاّ على ماتمليه عليهم ضمائرهم ومااكتسبوه في الحياة من خبرة وحنكة وتجارب.
ماذا سيؤول إليه مصير هذا المجتمع ياترى في غياب الواعز الديني والرادع الرباني؟ ماذا ستكون نتيجة غياب الخوف من الحساب وعدم الإكتراث بالثواب أوالعقاب؟
إنعدام العفة والفضيلة وتفشي الفساد والرذيلة؟ إنعدام الضمير والأخلاق وإرتفاع في العنف والقتل والنهب والسلب والخداع؟ إنحلال وتفتت أسري يؤدي إلى تفتق وتمزق في النسيج الإجتماعي؟ تزعزع وانحدار ينتهي بخراب ودمار؟
لأن هذا هو المصير الذي يروجه الأطباء الكواكس(1) الذين أقدموا على تحصين الناس من تلك الشرور بلقاحات تكبيل الحريات والحجر على التفكير وفرض الأحكام والتهليع والترويع. فهل هناك نموذج من واقعنا الحاضر لمثل هذا المجتمع العلماني اللاديني "الفاسق" لكي نرى بأعيننا ذاك المصير الكارثي الذي سوف يحل به؟
نعم توجد عدة نماذج والمجتمعات الإسكندنافية بعضها، ولنأخذ الدنمارك كمثال.
الدنمارك هو ذلك المجتمع الذي بدأت به هذا البوست لاعتباره من أشد المجتمعات علمانية وأقلها تديناً في وقتنا الحاضر، وربما في تاريخ البشرية أيضاً. ولنقرأ بعض الإنطباعات البسيطة لأحد المقيمين الأجانب فيه من خلال تجربته السابقة هناك ومن خلال إقامته الحالية فيه. يقول الكاتب واسمه فِل زوكرمان في مقالة أقتبس منها بعض الملاحظات هنا مع بعض التصرف في الترجمة:
"لقد رجعت مرة أخرى لأسكن في مدينة آرثوس، ثاني أكبر مدينة في الدنمارك، وكما لمست من تجربتي السابقة هنا، أشعر بالدوار من إرتفاع مستوى العقلانية والإنسانية والتحضر والأمان والهدوء الذي يسود كل شيئ. دعوني أمدكم ببعض الأمثلة:
أصيبت أبنتي الكبيرة بنوبة من الكحة فأخذتها إلى الطبيب. ولما وصلت هناك رأيت أن العيادة كانت نظيفة وممتعة للنظر، ولم أضطر إلى الإنتظار فدخلنا على الدكتور الذي كان لطيفاً معنا وأظهر دراية واحترافاً بالتشخيص. لم يكلفنا العلاج شيئاً عندما انتهينا لأن الخدمات الطبية هنا مجانية تماماً توفرها الدولة للجميع وتسندها بالضرائب. ولاأعتقد أن من الممكن أن تكون الرعاية الصحية عندهم أفضل مستوى من ذلك.
إنظمت إبنتي الصغيرة إلى مدرسة بعيدة عنا، ولم يكن لدينا سيارة لأخذها هناك. ولكن عدم وجود السيارة لم يسبب مشكلة، فقد وفرت الدولة لها تاكسي مجاناً. ولأن سائقين التاكسيات هنا ينتمون إلى رابطة عمالية، فمستوى أجورهم عالية ولهم منح ممتازة وإجازات كثيرة مما ينعكس على طباعهم الهادئة السعيدة ولباسهم المهندم وسيارتهم النظيفة.
توجد هنا شوارع خاصة واسعة وآمنة للدراجات، أشعر فيها بنوبات من السعادة كل يوم حين أركب دراجتي ذهاباً وإياباً من العمل عندما أرى كيف تعطي السيارات أولوية تامة لركاب الدراجات بدلاً من رفع قبضات اليد غضباً والصراخ عليهم.
ولكن دعنا عن تلك الملاحظات الشخصية ولننظر إلى بعض الحقائق عن حالتهم الإجتماعية. فحسب جميع المقاييس والمؤشرات الدولية، نجد أن جميع الأوضاع في هذه الدولة على أفضل المستويات، من الرخاء الإقتصادي إلى الإنجاز التعليمي، ومن إنخفاض معدل الجرائم ومستوى البطالة إلى إرتفاع مستوى المعيشة ودرجة الرضا والسعادة. هذا المجتمع هو الأفضل على وجه الكرة الأرضية.
ولكن هل توجد عندهم مشاكل؟ طبعاً توجد، لايمكن تفادي المشاكل في أي مكان لأنها تنبع من الطبيعة البشرية. ولكن هنا في الدنمارك، تحل المشاكل بالأساليب العقلانية: بالمنطق، بالحوار، بالنقاش، بالمراقبة وبالتعاطف."
أنا زرت الدنمارك بنفسي عدة مرات في السابق، ولاأعتقد أن هذا الكاتب أعطاها حقها بتلك الملاحظات العابرة، فهي أرقى وأرفع من ذلك الوصف بكثير. ولايحتاج القراء الكرام أن يصدقوني أو يصدقوا الكاتب. بل أقول إحملوا حقائبكم إذا تمكنتم وزروا إحدى تلك الدول ولن يخب ظنكم، أعدكم بذلك.
فهل صحيح أن المجتمعات العلمانية الغير متدينة تنغمس في الفساد والرذيلة والإنحلال الخلقي والتفتت الأسري والتفتق الإجتماعي الذي سوف تنعكس تداعياته على الحالة الإقتصادية والإجتماعية والسياسية متمثلاً بإرتفاع مستوى البطالة والجريمة، وكثرة التسول في الشوارع، وتدهور الخدمات التعليمية والصحية والمدنية، وتزعزع البنية التحتية، وأنتشار الفوضى والفساد والمحسوبية في أجهزة الدولة، وسرقات المال العام وتبديده، والشلل الإدراي، وسيطرة الأقلية الأيليت على الأقلبية المسكينة، واستياء الناس من تلك الأوضاع المزرية وسخطهم عليها .....
لحظة .. لحظة ... تلك التداعيات المهولة ذكرتني بالبلاء الذي تعاني منه دول أخرى، قطعاً ليست علمانية، إنما دينية محافظة .... آآآآه نسيت أسمائها .. أي دول؟ .. أي دول؟ .... هممم راحت عن بالي .. هي دول صغيرة جغرافياً على ماأتذكر، إنما ضخمة مادياً وملتزمة دينياً، تُنبذ فيها العلمانية وتحارَب بضراوة، ولكن بالرغم من تغلغل الدين في جميع شؤون الحياة فيها، فهي تعاني من أغلب تلك المصائب التي تُنسب كذباً وبهتاناً إلى العلمانية ...
مااسم تلك الدول؟
وللكاتب مقالات أخرى على هذا الرابط: basees.blogspot.com/
التعليقات (0)