بقلم/ ممدوح الشيخ
"الحكم على شيء فرع عن تصوره" قاعدة ذهبية في علم أصول الفقه، ومنها يمكن أن نشتق "إصلاح شيء فرع عن تصوره" فلا أمل في إصلاح سياسي في العالم العربي دون معرفة بالـ "شئ" الذي نصلحه، وعبر تجربة حكم نخب التحرر الوطني تبلور نموذج سياسي لخص المفكر الإسلامي المرموق الدكتور أبو يعرب المرزوقي أهم سماته في تعبير "التحديث الاستبدادي والبهائية المتخفية" حيث دخل الثوريون العرب تجربة "إصلاح" – أو تحطيم – الشعوب بدلا من إصلاح الدولة وذلك حتى يصبح المواطنون متوافقين مع شكل للدولة معد ومستورد من أوروبا هو خليط تلفيقي من النموذجين الفرنسي والألماني للدولة القومية.
غير أن الدولة التي بدأت – أو حاولت أن تبدو – دولة قانون تحديثية سقطت أقنعتها فإذا هي دولة تنظيم سري أكثر همجية وبربرية مما يذهب الخيال، والصدمة الأولى لم تكن عربية بل كشف عنها سقوط نظام حكم الرئيس الرواندي هابيريمانا بنهاية الحرب الأهلية الرواندية (1994) فالسقوط غير المتوقع للنظام لم يتح فرصة للتخلص التام من وثائقه وحمل الكشف عنها مفاجأة كانت القوى الأوروبية المتحالفة معه تعرفها وتشاركه التستر عليها.
فالرئيس الرواندي السابق هابيريمانا كان مرتبطا بعلاقات وثيقة مع العائلة المالكة البلجيكية وفرنسا واستنادا إلى دعمهما المطلق تحول إلى الرئيس/ الملك ورغم هذا فإن القوة الحقيقية كانت تكمن في يد زوجته أجاسي التي كان الروانديون يلقبونها باسم شخصية رهيبة من تاريخ بلادهم وقد أحاطت نفسها بمجموعة من "متحجري القلوب" وكونت مافيا شديدة الإحكامسميت "أكازو" أي حكم القلة ومعناها "المنزل الصغير" وحسب أحد المنشقين على هذه المافيا ذات الخطاب الثوري فإنهم تعاملوا مع الدولة كشركة خاصة يحق لهم أن ينتفعوا منها قد ما يستطيعون، أما الرئيس وقادة "الحركة الثورية الحاكمة" فوقعوا في شباك هذه المافيا.
ولم تكن هذه المافيا السرية من صناعة العقلية الشعبية التي تبحث عن الغامض والسري والمثير بل أشارت إلى وجودها تقارير رسمية من بينها تقرير جوهان سويفن سفير بلجيكا (1992) في رواندا الذي جاء فيه أن هذه الجماعة السرية تخطط لإبادة التوتسي. ولم تكن السرية مقصورة على رواند القابعة في قلب أحراش أفريقيا ففي فرنسا التي كانت تدعم هذه المافيا السرية استصدرت قرارات رسمية بمضاعفة المساعدات الفرنسية لرواندا ثلاثة أضعاف وبقيت القرارات التي تخص رواندا سرا حتى تظل فرنسا غير مسئولة عن جريمتها. وعندما اغتيل الرئيس هابيريمانا كانت السيدة أجاسي على أول طائرة فرنسية تقلع من مطار العاصمة حيث تعيش في شقة فاخرة بباريس!!!!
وقد تصورت عندما كتبت عن الظاهرة لأول مرة مجتهدا في صوغ تعبير "دولة التنظيم السري" أنني أدخل بابا غير مسبوق، غير أن حوارا مع الروائي العراقي المعروف محيي الأشيقر كشف لي عن عمل مهم في هذا السياق هو كتاب "دولة المنظمة السرية" للسياسي العراقي حسن العلوي الذي كان من قيادات البعث ووصف في كتابه جانبا من البنية السرية للنظام العراقي و"المناطق المحرمة" في السياسة العراقية التي لم يكن يسمح لأحد من خارج الحلقة الضيقة بدخولها، وما كشف عنه كتاب العلوي ووثائق النظام الرواندي السابق أن القضية تتجاوز المنطق التآمري والهوس بالسرية والغموض اللذان يرفعان في وجه من يحاولون لفت النظر للأهمية الجدية لطبيعة السرية للممارسة للسياسة العربية خلال نصف القرن الماضي.
وقضية السرية تعيد للذاكرة أسماء مثل: "جماعة تركيا الفتاة" في تركيا و"تنظيم العروة الوثقى" الذي أسسه جمال الدين الأفغاني وكانت باريس محطة مهمة في مساره، و"جماعة الكتاب الأحمر" في الشام والعراق، و"التنظيم الطليعي" في مصر، وكذا الأدوار الحاسمة التي قامت بها أقليات في التاريخ العربي الحديث، وفي هذه الحالات جميعا نحن أمام عملية "ترانسفير" للسياسة من الجهاز الإداري للدولة إلى بنى سياسية موازية تتسم بالغموض وتمسك بخيوط القرار السياسي عبر آليات خفية. وإذا كانت الحقائق في دولة القانون توجد في الوثائق – أو هكذا ينبغي أن يكون – فإنها في دولة التنظيم السري تكون ملك أشخاص وهنا تغيب الوثيقة والحقيقة معا، ومن يتابع المناقشات التي تشهدها دول عربية عديدة حول الوثائق الرسمية وقلتها وصعوبة الوصول إلى القليل الموجود منها يدرك أن "تغييب الحقائق" أصبحت ثقافة عامة وأن التعليمات الشفوية والتفاهمات الضمنية قد حلت محل الإجراءات القانونية التي هي أول معالم دولة القانون.
والازدواج في دولة التنظيم السري يتجاوز البنى السياسية إلى الأجندات السياسية، ففي ظل نظام شمولي لا مكان فيه لمعارضة أو مساءلة كالنظام البعثي أو الناصري لا معنى لدولة التنظيم السري إلا أن تكون هناك أجندة سياسية لا يمكن إعلانها، ومن ثم تصبح عملية "الترانسفير" من المعلن إلى السري ضرورة، وعلى الأرجح هذا هو المبرر الحقيقي لوباء التوريث الذي يجتاح جمهوريات المنطقة العربية، حيث تحل "أسرة" محل التنظيم السري وتبقي الحقيقة/ الوديعة تنتقل من جيل لجيل داخل هذه الأسرة على نحو ما كان يحدث في تقاليد الكهانة الفرعونية.
وعندما تسعى الولايات المتحدة الأمريكية عبر "مبادرة الشرق الأوسط
الكبير" لإدخال الشعوب طرفا في العملية السياسية فإنها بذلك إنما تسعى لهدم دولة التنظيم السري وهي على الأرجح راغبة في ذلك متوجهة إليه عن قصد، فاختيار النظام العراقي كان مدروسا بعناية وتشير القلاقل السياسية التي أعقبته إلى أن الضربة أصابت بيتا مملوءا بالأفاعي فخرجت في معركة أخيرة دفاعا عن الوجود. بل لعل "دولة التنظيم السري" تكون التفسير الوحيد لما يحدث في العراق من عنف منظم شرس قادر على اختراق الدولة العراقية الجديدة، فالنظام البعثي سقط وتلقت دولة التنظيم السري العراقية بسقوطه ضربة قوية لكنها لم تتحطم، وكما كانت قادرة وهي في الحكم على أن تفرض على العراقيين ما تشاء بالحديد والنار فإنها الآن تحاول أن تفرض على العراقيين ما تشاء بالسيارات المفخخة.
وقد كشفت وثائق مخابراتية رفع عنها حجاب السرية قبل سنوات أن أجهزة المخابرات الغربية استخدمت رواية "دكتور زيفاجو" الشهيرة سلاحا في الحرب الباردة على نحو واسع وترجمتها ونشرتها على أوسع نطاق لكشف الطبيعة الدموية للنظام السوفيتي البائد، وفي ضوء هذه الحقيقة وتجارب أخرى مماثلة فينبغي الانتباه لدلالات الانتشار الواسع لرواية "شيفرة دافينشي" لدان براون وهي مما يطلق عليه البعض "رواية مصنعة"، فمحتواها التاريخي صحيح وهو نتاج جهود عشرات الباحثين، وبالتالي فهي عمل تأريخي في قالب روائي، والرواية تحكي قصة الصراع بين محافل سرية أوروبية والتأثير الكبير لهذه المحافل في التاريخ الأوروبي، ومن ثم فإن توقيت النشر والضجة الصاخبة التي أثارها النشر، قد تكون محملة برسالة للشعوب العربية لوضع خط يفصل بصرامة بين "السرية اللاعقلانية" التي تمتلئ بها الثقافات الشعبية شرقا وغربا وبين "دولة التنظيم السري" التي يبدو أنها ينبغي أن تشغل العقل التحليلي العربي إن كان حقا مشغولا بقضية الإصلاح
التعليقات (0)