مواضيع اليوم

دوقــو..

حسين جلبي

2012-12-08 22:48:30

0

كنت أراهُ أحياناً يجري مقلداً صوت محرك سيارة صانعاً بيديه شبه دائرة على شكل مقود يديره في مختلف الإتجاهات، كان وجهه يمتلأ لذلك باللعاب و يترك خلفه زوبعة من عجاج.
لم يكن الأصحاء يثيرون الإنتباه و يشكلون (شيئاً ذو قيمة) في تلك البقعة من الأرض فكيف بشخصٍ معاق مثله، و فوق ذلك منتمٍ إلى شريحة إجتماعية دنيا، تبين ذلك عندما فُقد أثره لعدة أيام، حيث لم يهتم له أحد سوى والدته، إلى أن عثروا عليه في حفرةٍ 
قرب سكة القطار و هو في حالةٍ يُرثى لها، فقد كان مُصاباً بإعياء شديد و كان بطنه منتفخاً من شدة البرد.
لكن أمه كانت تحبهُ، لقد إلتقيتهما مرة وجهاً لوجه أمام محكمة الجنايات بالحسكة عندما كنت محامٍ متدرب في دعوى مقتل شقيقه على يد عمه/ حماه في ذات الوقت، كانت أمه مطلوبة للشهادة في القضية مع زوجة إبنها المغدور، و يبدو أنها كانت حريصة على أن يكون دوقو برفقتها هناك، عند إدلائها بالشهادة هجمت كنمرٍ جريح على القفص الذي يتواجد فيه المتهم و لم تترك لأحدٍ الفرصة لقول شئ، في تلك المعمعة لم يهتم أحد لوجود دوقو بل أن هناك من لم يهتم بالمشاعر الإنسانية لتلك الأم المكلومة ربما بسبب وضعها الإجتماعي المذكور، بعد أن أحاطت بأقوالها بكل جوانب الجريمة تركت القاعة برفقته، و بالمناسبة فقد ذكر كل من حضر جنازة إبنها المغدور إنها جعلت منها ما يشبه المناحة التاريخية بسبب البكائيات التي أبدعت في إلقاءها منذُ لحظة إخراج الجثة من البيت إلى لحظة دفنها.
دوقو و أمثاله كانوا بسبب إعاقاتهم عاراً على مجتمعنا الذي ينظر إلى الإنسان نظرة تقدير و إحترام فقط عندما يكون كامل الأوصاف و إبن حسبٍ و نسب.
هنا حيث أقيم تعلمتُ مثل آخرين في مجتمعنا الجديد قيماً مختلفة هي إحترام جميع الكائنات الحية إنساناً كانت أم حيواناً أم نباتاً، لا بل حتى الجمادات لها مكانتها أيضاً. لم نعد نشعر مع مرور الوقت بالفروقات بين البشر فقد تلاشت جميعها، كما أصبح صعباً للغاية التمييز بين المستوى الإجتماعي للناس و معرفة الأغنياء من الفقراء بسبب المساواة التي توفر فرصاً للجميع لتحسين أوضاعهم و الظهور بالمظهر الذي يرتضونه لأنفسهم، و إذا صدف و إلتقينا معاقاً مرةً فلا نشعر بإعاقته بسبب توافر الوسائل التي تساعده على التغلب عليها، لا بل في الكثير من الأحيان يصبح هؤلاء مصدر حسد للأصحاء بسبب الإمتيازات التي توضع في خدمتهم.
أتذكر أنني كنت قبل سنوات في متجرٍ لشراء خزانة ملابس، و عندما إنتهيتُ من الدفع كان يعيق حركة العربة التي أدفعها شخصٌ واقف على بعد أمتار، أشرتُ له بيدي (أن تحرك) ليخلي لي الطريق، و عندما لم يستجب صحتُ عليه منبهاً و لكني تخيلت أنه لم يسمعني، و عندما ذهبتُ إليه إكتشفت في يده عصىً يستعملها فاقدي البصر، عدت أدراجي دون أن أنبس ببنت شفة، ربما كان تصرفي سيختلف بسبب العادات الإجتماعية عندنا و كنتُ سأكون بسببها فظاً.
لكني لم أسامح نفسي حتى هذه اللحظة بسبب ذلك التصرف الذي سببه سوء الفهم.
قبل أيام تلقيتُ إتصالاً من مشفى الأمراض النفسية في المدينة لأساعدهم في الترجمة لشخص قادم من أحد البلدان العربية منذُ حوالي عقدين من الزمن، تخيلتُ قبل أن أذهب أنني سألتقي بشخصٍ على شاكلة دوقو أو أحد مجانينا الكثر الذين تشكل إعاقتهم نكتة نضحك عليها كتعويضٍ عن الفشل الذي يتلبسنا من قمة رأسنا حتى أخمص قدمينا، لكنني وجدت شخصاً آخر لا يختلف عنا في الشكل على الأقل حيثُ كان حليق الذقن، مرتب الشعر يرتدي ثياباً جميلة و فوق ذلك ترافقه ممرضة لطيفة رائعة الجمال تهتم به كثيراً، كان يمكن لدوقو و الآخرين أن يكونوا على نفس الحال لو لم يكن مجتمعنا مُعاقاً.
ينشر العديد من الأشخاص صور دوقو و آخرين لديهم حالة مشابهة على صفحاتهم ليقوموا بالسخرية منها عن طريق الإجتهاد في إختراع نكت سمجة حولها، و رواية كلامٍ تافه على ألسنة أصحابها.
أدين هذا العمل اللإنساني و أدعو الجميع، إن لم تتوافر لديهم الرغبة في مساعدة هؤلاء المساكين، إلى تركهم و شأنهم على الأقل، عملاً بمبادئ و قيم إحترام حياة الإنسان التي تنص عليها جميع الشرائع السماوية و القوانين الوضعية.

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !