دور المجتمع والثقافات
في
بناء نهضة الأمم
الأستاذ: عبد الحليم ريوقي
المجمع الجزائري للغة العربية
جامعة الجزائر -02-
مقدمة:
تشكل الثقافات عاملا مهما في نهضة الأمم ورسم الحضارات، فمنها تنطلق ووفقها تصنف وتدرس، والمجتمعات تعرف بثقافاتها، فهي تشكل هويتها وانتمائها، والديانات باختلافها تركز تركيزا مطلقا على الثقافات، " فإن أول تكليف نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أهم أسس التثقيف، [ فأول ما أنزل عليه من رب السموات والأرض قوله تعالى: ] ﴿ اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم ﴾ [1]، كان هذا النص قاعدة الإصلاح الأولى التي صنع النبي صلى الله عليه وسلم بها نواة مجتمع حضاري حوَّل مجرى التاريخ في منطقة لا تمتلك أنموذجاً للحضارة" [2]، والملاحظ هنا أن المجتمع العربي بعد الدعوة لم يتخل عن ثقافاته كلية، أو عن نظمه، بل هذبت، فالثقافات المنافية لقيم الإسلام زالت، وبقي أكثرها، " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ" [3]، الأخلاق هنا بمعنى: علاقات وتعاملات، القيم، تنظيمات، قوانين...، فهذه كلها تقوم على الأخلاق، - ومن هنا تتجسد فكرة أن المجتمع بثقافته القائمة على تراكمات، وتجديد يخدمها، وهي من تحدد مسار الأمم - فلنلاحظ أن الفكرة المتعلقة بالنهضة على جميع المستويات لا بد أن يحتضنه المجتمع ككل على الأقل الأغلبية منه -، بعدها بسنوات قليلة فتح العرب بلاد فارس وبلاد الروم، وتوالت السنين فشهد العرب حضارة فكرية وعلمية على جميع المستويات ساد بها العرب العالم وتقدم بسنوات بعيدة بل سحيقة عن الأمم الأخرى، وما دراستهم للطب عندنا وكثير من العلوم حتى سنوات قريبة منا إلا دليل على هذا، مع عدم نسيان أن الثقافات العربية آنذاك عرفت امتزاجا بينها وبين ثقافات أخرى مجاورة كالثقافة الفارسية والهندية واليونانية، على مستوى استعمال الألفاظ، والأساليب وأنماط العيش والعمران، والنقد والفكر والأدب، غير أن هذا الامتزاج لم يؤثر على معالم الثقافات الأم، هذا التأثير والتأثر هو حتمي – بفعل الحروب، التجاور، التجارة، الأسفار، والمصاهرة...- وواجب بما يخدم الثقافات، لا بما يهدمها.
الدين له تأثيره واسع على المجتمعات والثقافات،" فكل الثقافات مدينة للأديان في تكوينها وتوجيهها، سواء أكان هذا الدين سماوياً أم وضعياً، كما هو واضح في ثقافات الشرق والغرب ولاسيما الإسلام الذي له تأثيره العميق والشامل في ثقافة أمتنا العربية عن طريق عقائده الإيمانية، وشعائره التعبدية، وقيمه الخلقية، وأحكامه التشريعية، وآدابه العملية، ومفاهيمه النظرية، حتى إنه يعد مكوناً مهماً لثقافة غير المسلم الذي يعيش في المجتمع المسلم، وهو ينضح على تفكيره ووجدانه وعلاقاته، شعر أم لم يشعر، مما دعا الزعيم السياسي مكرم عبيد في مصر إلى القول: أنا نصراني ديناً، مسلم وطناً" [4].
يتحكم الدين في معالم الثقافات ويوجهها تحكما وتأثيرا فالدين هو الكل والثقافة هي الجزء في أي مجتمع، وهذا راجع طبعا لمدى تمسك المجتمع بالدين [5]، يقول ت.س. إليوت T.S. Elyot: "حاولت أن اكشف عن الصلة الجوهرية بين الثقافة والدين وأوضح ما في الكلمة من نقص حين تستعمل لدلالة على هذه العلاقة بالذات وأول دعوى هامة أقيمها هي أنه لم تظهر ثقافة إلا بجانب الدين، ومن ثمة تبدو الثقافة نتيجة من نتائج الدين أو الدين نتيجة من نتائج الثقافة طبقا لوجهة نظر الناظر" [6]، ما أردنا قوله: أن الثقافة يقصد بها عدة مستويات أهمها الدين، اللغة، العادات، التعابير الإنسانية، الثقافات السابقة، التطلع المستقبلي الثقافي، فهم ومعرفة الثقافات البائدة والجديدة...
أما اللغة فهي تضمن التواصل الثقافي وغيره من التعاملات، فالثقافات هي مجموعة من التعابير الإنسانية والدينية والاجتماعية...، فاللغة هي قالبها لرسم تلك التعابير، ووسيلة اتصال فعالة في الثقافات وفي التأثر والتأثير الثقافي، فلا يمكن تخيل ثقافات من غير لغة، " فانطلاقا من أن الثقافة تتضمن الجانب الفكري أو المعنوي في الإنسان فإن علاقتها باللغة تصبح أكثر من عضوية [7]، كما يتبين من التعاريف المختلفة الموضوعة للغة حيث ورد في هذا الخصوص أن اللغة هي " التعبير اللفظي عن الفكر سواء كان داخليا أم خارجيا" [8]، فاللغة هي وسيلة للتعابير الإنسانية برمتها، - نقصد باللغة بشقيها الفظي وغير لفظي-.
والناظر في عنوان المداخلة يمكن أن يطرح عدة أسئلة: 1- لماذا لا نفصل بين الثقافات والمجتمع.؟. 2-لما نتكلم عن جمع ثقافة (ثقافات)، ولا ندرج كلمة ثقافة فقط؟.، ولماذا لم يجمع المجتمع فيقال مجتمعات ؟.
وجوابنا أن الفصل بين المجتمع والثقافات أمر مستحيل بدليل أن الثقافات تعيش في المجتمع محتضنها الأول، فيه تنمو، تندثر، أو تتجدد،...، والثقافات معلم من معالم ومميزات المجتمع بل هي الحكم الأول عليه وفيه، فلا يمكن بأي صورة من الصور فصل المجتمع عن الثقافات،" إن الجدلية بين ثقافة المجتمع وقيمه لا يمكن أن تنفصم، وكل تنمية للثقافة لا تنطلق من قيم المجتمع الذي تطرح فيه هي عقيمة "، [9] وجوابنا على السؤال الثاني، هو أن أي مجتمع به ثقافات متعددة، وفق جهويات متعددة بينها مسافات فاصلة كبيرة توجب ثقافات متغايرة، قد تتفق في جوانب لكنها تختلف في جوانب أخرى، ومن المفارقات هنا أن هناك جهة واحدة بها عدة ثقافات قرأنا عنها وشاهدناها بأم أعيننا.
وتعدد الثقافات في المجتمع الواحد محكوم بتعدد الديانات، اللغات، الجهويات، الأقليات...،يمكن أن نورد مثالا عن تعدد الثقافات وفق الدين، كحال مصر بها ثقافة قبطية ( مسيحية) وأخرى مسلمة، سوريا ولبنان بهما ثقافة مسيحية وأخرى مسلمة، وهي ثقافات متعايشة بحكم التاريخ ومتساندة متعاونة بل متكاملة لخدمة الأمم ونهضتها، هي ثقافات تأثرت فيما بينها بحكم التجاور في السكن والعمل...، وعلى سبيل المثال في تعدد الثقافات من حيث اللغة نجد الثقافة العربية، والثقافة الأمازيغية، بالجزائر، وكذلك بالمملكة المغربية، وعلى سبيل المثال على تعدد الثقافات وفق جهات معينة نجد" السودان مثلا تتعدد به الثقافات إذ يمكن حصر الثقافات بها [ وفق جهات معينة منه] وهي:
- ثقافة المستقرين على ضفاف النيل في شمال ووسط السودان
- ثقافة سكان السافانا في وسط السودان.
- ثقافة البجا في شرق السودان.
- ثقافة الفور في غرب السودان.
- ثقافة النيلين في جنوب السودان ( النيل الأعلى وبحر الغزال).
- ثقافة جبال النوبا في غرب السودان ( كردفان).
- ثقافة الأزاندي في جنوب غرب السودان.
- ثقافة مابام انجسنا في جنوب شرق السودان [10].
والثقافات وإن تعددت من حيث الدين أو اللغة أو الجهة أو العرقيات أو الأقليات فهي تتأثر بعضها البعض، وتوجد قواسم مشتركة من حيث الألفاظ، التعابير، والعادات والسلوكيات،... لكن تبقى معالم كل ثقافة قائمة بذاتها، وكذلك نورد ثقافات الأقليات، والعرقيات المختلفة، والإيديولوجيات في الأمة والدولة الواحدة، هذا أولا، ثانيا أصبحت الجاليات من الدول الأخرى تشكل ثقافتها داخل ثقافات الدول المهاجر إليها، ففي بريطانيا أو فرنسا ستجد حتما ثقافات عربية متعددة، ثقافات باكستانية، وأخرى هندية...،نظرا لكثرة المهاجرين إليها وتكتلهم في بقعة واحدة حتى أصبح ما يعرف بالشوارع والأحياء المحسوبة على ثقافة معينة، فذا الحي العربي، وهذا الشارع الجزائري، وهذا الحي الصيني، أضيفوا لما أصبح يسمى بالمدن وفق الأقليات والمهاجرين المقيمين فيها. ومن هنا لا يمكن التكلم عن ثقافة واحدة." فهناك العديد من الثقافات الفرعية داخل المجتمع الواحد فهذه الثقافات الفرعية تتجانس فيما بينها، ولكنها تختلف عن الثقافات الأخرى، وهم جميعاً في أطار الكلية والشمولية يتوافقون ويتشابهون تحت ثقافة مجتمع واحد. فمدى التشابـه في طرق الحياة والعادات، والتقاليد، والأساليب الحياتية، والقيم، والمعتقدات، هو الذي يخلق التجانس داخل المجتمع، والعكس صحيح" [11].
وإذا ذهبنا للشق الثاني المتعلق بعدم جمع المجتمع في الأمة الواحدة، فجوابه أن الأمم تتكون في بعض الحالات من مجتمعات متعددة، وكل مجتمع له صفاته وخصائصه، ومع هذا لا نستطيع الجمع كأن نقول مجتمعات الأمة كذا وكذا لعدة اعتبارات، أولا هذا الجمع مدعاة للتفرقة والتنابذ والخلافات، والجمع يحيي الفتن والنزاعات فالدعوة تكون للم الشمل والوحدة عند قولنا مجتمع والأمر يحمل على نقيض الأول والثاني، ثانيا وهو الأمر المهم قد تكون هناك عدة عوامل ساهمت لتكون هناك عدة مجتمعات تعيش في ظل أمة واحدة تحت تأثير عدة عوامل تاريخية سياسية دينية...، وأكثرها تاريخية، وبما أن الحال اقتضى أن تكون تحت ظل أمة واحدة خاضعة لنفس الحاكم والتوجهات والدساتير والقوانين، فهي تعيش بكافة الحقوق والواجبات، أضف إلى هذا أنها تمتلك نفس التاريخ المشترك ونفس المنطلقات والأهداف، وعند هذا تذوب تلك الفروق بين المجتمعات وتصبح مجتمعا واحدا، في الحقيقة هناك ما يميز بينها كاللغة أو الدين أو الثقافات لكن هذه الجوانب لا تشكل فرقا في ظل الأهداف المنشودة الواحدة وظل الخضوع لحاكم واحد وجب طاعته، ونفس القوانين التي تطبق على الجميع، ويتساوون في الحقوق والواجبات، المجتمع يعرف بمنطلقاته وأهدافه، فمتى كانت واحدة أصبح أهل الثقافات المختلفة مجتمعا واحدا، وليس مجتمعات.
- ما هي عوالم تشكل ثقافة المجتمعات؟، ما الذي يحتاجه المجتمع لتحصيل ثقافة بمستوى معين تربط بين الأصالة والمعاصرة ؟، أو بمعنى آخر ما هي مقومات مجتمع ليحصل ثقافته المنشودة تصنع نهضته وحضارته؟.
كلمة الثقافة في فكرنا العربي لها أربعة معان رئيسة:
الأول: بمعنى الحذق والفهم وسرعة التعلم، " ثَقِفَ الشيءَ ثَقْفاً وثِقافاً وثُقُوفةً: حَذَقَه، ورجل ثَقْفٌ وثَقِفٌ وثَقُفٌ: حاذِقٌ فَهِم، ويقال: ثَقِفَ الشيءَ وهو سُرعةُ التعلم. ابن ريد: ثَقِفْتُ الشيءَ حَذَقْتُه". [12]
الثاني: بمعنى الظفر والإدراك، "وثَقِفْتُه إذا ظَفِرْتَ به [ أو أدركته ونلت وتمكنت منه]، قال اللّه تعالى: ﴿فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون ﴾ [13]- [14]"، وبهذا المعنى جاء قوله تعالى:﴿ واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم﴾ [15].
الثالث: بمعنى الذكاء والفطنة، " ففي حديث الهِجْرةِ: وهو غلام لَقِنٌ ثَقِفٌ أَي ذو فِطْنةٍ وذَكاء، والمراد أَنه ثابت المعرفة بما يُحتاجُ إليه". [16]
الرابع: بمعنى التقويم والإصلاح، "وفي حديث عائشة تَصِفُ أَباها، رضي اللّه عنهما: وأَقامَ أَوَدَه بِثِقافِه؛ الثِّقافُ ما تُقَوَّمُ به الرِّماحُ، تريد أَنه سَوَّى عَوَج المسلمين". [17]
إذن معنى الثقافة في الفكر العربي هو إما حذق وفهم، وسرعة التعلم، أو إدراك، أو ذكاء وفطنة، أو تقويم وإصلاح،إذن الثقافة هي إدراك للنفس أولا ثم للمجتمع ثم للعالم ومن ثم للإنسانية جمعاء قديمها وحديثها وبكل مستوياتها وتفاصيلها وتشكيلاتها، ومعها يكون الفهم والتبرير والأخذ بما ينفع والاعتبار بما يعتبر، والتعامل بذكاء وفطنة، مع تقويم وإصلاح.
هذا في اللغة العربية، أما في اللغة الإنكليزية، فكلمة culture التي تترجم إلى العربية على أنها الثقافة والتهذيب والحراثة، وقد يعطونها أحياناً معنى الحضارة، هذه الكلمة جذرها cult ومعناها: عبادة ودين، ومن مشتقاتها cultivation ومعناها: حراثة، تعهد، تهذيب، رعاية، و cultural ومعناها ثقافي، مستولد [18]، ومن ثم فتعريف الثقافة في الفكر الغربي مرتبط بالدين وهو ما أشرنا له سابقا، أو أنه رعاية وحرث، فمعلوم أن الرعاية والحرث يعقبه الحصاد، فهو يصب في خانة الإدراك من أجل الفهم.
ومن المفكرين الغربيين الذين عرفوا الثقافة نجد تايلور E. Taylor قد عرف الثقافة بما نصه: "هي الكل المركب الذي يشتمل على المعرفة والعقائد والفن والأخلاق والعادات وغيرها من المقدرات والعادات، يكتسبها الإنسان بوصفه عضواً في جماعة في مجتمع ما" [19]، والتعريف المعاصر للثقافة يصب في أن الثقافة هي ما تعني الشمول المعرفي للإنسانية" [20]، والثقافة متصلة بالحضارة فهما وجهان لعملة واحدة كل طرف هو قالب الآخر " فالثقافة وثيقة صلة بالحضارة التي هي حياة المجتمع في جميع عناصرها وأشكالها ومظاهرها، وهي تمثل مكاسبه وإنجازاته وقيمه والمعاني التي تنطوي عليها حياته" [21].
و راف لينتون R. Lintonيقدم تعريفا أكثر ملائمة لمفهوم الثقافة إذ يقول: "بأنها مظهر للسلوك المكتسب، ولنتائج السلوك، يشترك في مكوناتها الجزئية، أفراد مجتمع معين، وتنتقل عن طريق هؤلاء الأفراد إلى الجيل القادم، الثقافة هي البيئة التي صنعها الإنسان لنفسه، وتتضمن خصوصاً: (اللغة، العادات،التقاليد، والنظم الاجتماعية)" [22].
عندما نريد أن نحدد معالم ثقافة المجتمع ينتابنا إحساس بأن الأمر ليس هينا، فالعلوم والمعارف من الثقافة، العادات والتقاليد من الثقافة ( عادات الزواج، الاحتفالات الدينية والموسمية،...) المسرح، القصص والأساطير، الرقص، الغناء الشعبي وغيرها من مظاهر الأكل، اللباس، المعتقدات الفكرية والدينية والاجتماعية، والعلاقات بين أفراد المجتمع، أيضا القوانين المنظمة لأفراد المجتمع تبنى وفق ثقافته وعرفه، وهي من صميم ثقافته، فكل ما سبق مظهر من مظاهر الثقافة، بل حتى التطلع الثقافي والفكري للمستقبل هو جزء من الثقافة، والفهم الجيد للثقافات الأخرى سواء كانت سابقة أو معاصرة وإن كانت أجنبية فهي جزء مهم من الثقافة، إدراك النفس ومبتغاها وإصلاحها وتقويمها، إن على المستوى الفردي أو الجماعي هو وجه من أوجه الثقافة.
والملاحظ فيما سبق أنها هذه المظاهر تنتقل من جيل إلى جيل بالرواية والممارسة والملاحظة وتكوين ملكة ثقافية من الوسط الذي يعيش فيه الفرد والمجتمع تتشكل أساسا من ترسبات وتراكمات، تزداد مع الزمن كبرا بحكم تأثر المجتمع بثقافات أخرى أو تجديد بعضها أو اندثار بعض منها، أو بروز جوانب أخرى، وهو أمر وارد في كل الثقافات، بحكم الاحتكاك، السفر والتجارة، المصاهرة، الحروب والغزو، الهجرة، الهيمنة الاقتصادية، " وجدت منذ عصر النهضة في المجتمع العربي أقلية[ ـ كانت أقلية أما اليوم فالأغلبية ـ] تدعو تصريحاً أو تلويحاً إلى تقليد الغرب جملة وتفصيلا، بهدف الخروج من وضعنا البئيس، إن بعضهم يفسر هذا الميل بالقانون الاجتماعي الذي ذكره ابن خلدون، القاضي بأن المغلوب مجبول على تقليد الغالب في كل شيء " [23]، أو حب تقليد أو إعجاب بمظهر من مظاهر ثقافة أخرى، المهم أن الثقافة تعدل في مظاهرها من حين إلى آخر بحكم عوامل متعددة، ومثال على ذلك أن الإسلام أقر للجاهليين في بعض المظاهر من جاهليتهم، لكنه نفى وحذف مظاهر أخرى تتعارض مع الدين والأخلاق والقيم.
والمحافظة على مستويات الثقافة مرهون بتواصل الأجيال، نقصد هنا ما يسمى بالتنشئة الاجتماعية،" فإنه لا يوجد تعريف جامع مانع لمفهوم التنشئة الاجتماعية. ولكن من الممكن أن تعرف التنشئة الاجتماعية على أنها منظومة العمليات التي يعتمدها المجتمع في نقل ثقافته بما تنطوي عليه من مفاهيم وقيم وعادات وتقاليد إلى أفراده [24]، وهناك من يمزج بين مفهوم التنشئة الاجتماعية ومفهوم التنشئة الثقافية حيث ينشأ الفرد داخل إطار الثقافة ويغرس القيم الثقافية للمحيط الذي ينتمي إليه، فتنتقل إليه الخبرات من جيل الآباء إلى جيل الأبناء" [25]، والآباء هنا هم المسؤولين المباشرين ويعتبرون القوة الأكبر لعملية التنشئة من خلال تعليمهم لأبنائهم التي يفترض أن تتم ممارستها من عدمه والتي من الممكن أن تختلف من ثقافة إلى أخرى [26] ، ومن المؤكد أن لكل معلم من المعالم ثابت ومتغير، والثقافات لا تنأى عن هذا الجانب، فالثقافات معرضة للاحتكاك بغيرها والتأثر بمظاهرها أو بعض منها حسب الحالات والخصائص.
معنى هذا المحافظة على التراث الثقافي بين أفراد المجتمع مؤشر جيد على صحة المجتمع، ومنبع زاخر لقوته وتواصله، وتقدمه، وهنا نسجل أمرين ، الأول هو أن من المظاهر الثقافية تندثر، والأمر الثاني مظاهر ثقافية تجد على المجتمع، في الأولى نقر بأن هناك مظاهر تختفي من المجتمع لأنها تتنافى مع قيم المجتمع أو مع الدين أو أصبحت في طي النسيان بحكم التحضر وتقدم الوسائل، فكيف نتصرف معها حينئذ، التصرف هنا وجب تقييدها تدوينا أو تأليفا أو تسجيلا أو تصويرا لأنها ستصبح من الماضي ووجب معرفتها لأنها جزء من المجتمع وتاريخه، وعلى سبيل المثال هناك مظاهر ثقافية حذفها الإسلام لكن وجب علينا معرفتها للمقارنة وتصور حياة آبائنا من العرب الأولين، لمعرفة تسلسل التفكير العربي، وربط بين حلقاته، المظاهر التي يمكن أن تتعارض مع تعاليم الأديان وقيم المجتمع وجب أيضا التعامل مع بالحفظ والتدوين، فهي سجل تاريخي للمجتمعات والثقافات، فمثلا الناظر إلى عادات وتقاليد الجاهلية غير السليمة والمنافية للأخلاق والقيم يجعل الناظر فيها أكثر تمسكا بدينه وقيمه، فيحس أن الدين الإسلامي إشعاع ونور، لأنه قضى على مثل هذه المظاهر، وعلى العكس من هذا فقد ترد بعض المظاهر الثقافية على ثقافات أخرى لعدة عوامل تاريخية، سياسية، نزوح، حروب، تجارة، تجاور حضاري...،- أما اليوم فالتأثر أصبح منشودا عند الأغلبية، ويحدث بشكل يكاد يكون يوميا، وبشكل سريع وفق أساليب اتصال حديثة وسريعة التأثير، التلفاز والهوائيات المقعرة، الإنترنيت، الهواتف المحمولة... -، فإذا كانت هذه المظاهر الواردة تخدم ثقافاتنا، أو على الأقل لا تضرها فمرحبا بها، أما إن كانت تتعارض مع ثقافاتنا وقيمنا، فوجب الحذر وعدم تبنيها، لكن وجب معرفتها ودراستها فمعرفة ثقافات الآخرين جزء من بناء الثقافات.
الثقافة خاضعة لمتطلبات العصر، وسائله، قضاياه...، وتتأثر كثيرا بالمستويات الأخرى: الدينية، الاجتماعية، السياسية...، فالثقافة هي كل متكامل، وهي العنصر الحساس جدا في كل حلقات المجتمع ومستوياته وتركيباته، فالعصر الذي نعيش فيه هو عصر أصبح ضيقا في جوانب وواسعا في جوانب أخرى تعددت، واختلفت اتجاهاته،" له ايجابياته وسلبياته فإيجابياته تتمثل في أنه:
- عصر العلم والتكنولوجيا.
- عصر الحرية وحقوق الإنسان واستقلال الشعوب.
- عصر السرعة والقوة والتغيرات السريعة، والتطورات الهائلة.
- عصر الاتحاد والتكتلات الكبيرة.
- عصر التخطيط والتنظيم لا الارتجالية والفوضى والتواكل.
- عصر اقتحام المستقبل، وعدم الاكتفاء بالحاضر، فضلاً عن الانكفاء على الماضي.
وهو أيضاً عصر السلبيات:
- عصر غلبة المادية والنفعية.
- عصر تدليل الإنسان بإشباع شهواته.
- عصر التلوث بكل مظاهره.
- عصر الوسائل والآلات، لا المقاصد والغايات.
- عصر القلق والأمراض النفسية [ الحسد، الحقد، الجشع...]، والتمزقات الاجتماعية [ حروب، تناحر...].
والناس قسمان حيال العصر: منهم من يهرب إلى الماضي خوفاً منه بدل المواجهة، ومنهم من يندمج فيه إلى حد الذوبان، والخير في الوسط حين نستعمل إرادتنا واختيارنا أمام هذه المؤثرات لنأخذ ما ينفعنا وندع ما يضرنا" [27]، والملاحظ في الإيجابيات والسلبيات أنها بنفس القوة هذا عند الدول المتقدمة، لكن عندنا نحن السلبيات السابقة أكثر من الإيجابيات، والسلبيات هذه تهدم ثقافاتنا هدما، وتبترها بترا، وتأتي على الأخضر قبل اليابس، ما أردت قوله هذه السلبيات وجب محاربتها كل حسب طاقته ومسؤولياته، والله المعين في هذا وذاك.
نظرت في كتب التاريخ، و وكتب تكلمت عن نشوء حضارات ونهضات وبدايات الأديان ودعواتها، فوجدتها كلها تصب في خانة بناء ثقافات، فهي الكل المتكامل تنصهر فيها كل المستويات، وبها تبنى الحضارات والأمم...، والمجتمع هو من يتبناها، ويدفعها إلى الأمام أو يدحرجها إلى الأسفل، واستنبطت مما سبق أهم النقاط الواجب مراعاتها لبناء أي نهضة أو حضارة من منطلق المجتمع وثقافاته، فوجدتها ملخصة في عده نقاط أهمها:
أولا: التمسك بالثقافة الأصيلة، ومظاهرها على كل المستويات، لترسيخ الهوية، والانتماء الثقافي والفكري.
ثانيا: مظاهر الثقافة المندثرة لأي سبب من الأسباب وجب تدوينها وتسجيلها.
ثالثا: التنقيب عن مظاهر ثقافية عند المجتمعات الأخرى التي تخدم نهضتنا وفكرنا وتطلعاتنا، ولا يجب تقبل كل مظهر من مظاهر الثقافات الواردة خاصة الهدامة لمجتمعنا المنافية لقيمنا وأخلاقنا.
رابعا: محاولة فرض ثقافتك على الآخر اعتزاز وليس إكراها، وتصحيح بعض الصور المغلوطة حول ثقافاتنا.
خامسا: " إن الله لينزع بالسلطان مالا ينزع بالقرآن"، ومعناها: حاكم عادل ومجتمع متخلق، العدل + الأخلاق= نهضة أو حضارة، وبمفهوم آخر أن بحزم الحاكم تكون النتيجة أسرع من تربية المجتمع.
سادسا: استثمار الموارد البشرية، والعمل على تشبعها بالثقافات الأصيلة حتى تحس بالانتماء والهوية وتخدم أوطانها بشكل جيد ولا تتركه في كل الأحوال، و العمل أيضا على تشبعها بكل الأشكال العلمية والفكرية والتقنية الحديثة لمسايرة الركب، فلا يمكن تخيل نهضة أو ثقافة أو مجتمع لا يربط بين الأصالة والمعاصرة.
أولا: التمسك بالثقافة الأصيلة بكل ما تحمل من دلالات وقيم، لباس، مأكل، تراث ثقافي مادي شفهي، عادات تقاليد، لا ننسى بأن لنا ماضيا عريقا، وجب استثماره لنهضة أممنا، يقول الدكتور زكي نجيب محمود: " ولولا رجوعي إلى ثقافتي العربية لدخلت القبر بلا رأس " [28]، ويجب أن يكون فهم الأصالة متضمنا ما يلي:
1. ضرورة المعرفة والفهم لثقافتنا: فهم هذه الثقافة من مصادرها الأصلية، ومن أهلها الثقات، وبأدواتها ومناهجها الخاصة.
2. الاعتزاز بالانتماء العربي الإسلامي: يشعر المثقف العربي المسلم، الذي ينتمي إلى ثقافة العرب والمسلمين، أنه عضو في جسم هذه الأمة، وأنه متحرر من عقدة النقص التي يعاني منها بعض الناس تجاه كل ما هو غربي، إنه يعتز بلغته، لغة القرآن والعلوم، ويعمل على أن تكون لغة الحياة، ولغة العلم، ولغة الثقافة، وقد كانت لغة العلم الأولى في العالم كله لعدة قرون، فلا يجوز أن تعجز اليوم عما قامت به بالأمس.
3. العودة إلى الأصول: إلى أصولنا وجذورنا العقدية والفكرية، والأخلاقية، ونسعى إلى تحويل اعتزازنا النظري والعاطفي إلى سلوك عملي، إن الاعتزاز يصبح ظاهرة مرضيَة إذا ظل مجرد كلام يردد، وشعارات ترفع، وصيحات تتعالى، لسرد الأمجاد، وتعظيم الأجداد.
4. الانتفاع الواعي بتراثنا: والغوص في حضنه الزاخر، لاستخراج لآلئه وجواهره، ولا يتصور من أمة عريقة في الحضارة والثقافة أن تهمل تراثها وتاريخها الأدبي والثقافي، وتبدأ من الصفر، أو من التسول لدى غيرها [29].
ثانيا: مظاهر الثقافة المندثرة لأي سبب من الأسباب وجب تدوينها وتسجيلها للعودة إليها ومطالعتها ومعرفتها لربط حلق التواصل والمقارنة، لأنها مهما كانت فهي جزء من شخصيتنا، وبها نعتبر ونستضيء المستقبل، فهناك عادات وتقاليد وهي جزء من الثقافات كمظاهر العبادة والزواج والختان، والاحتفالات قد تندثر لسبب ديني تاريخي، نسيان حضاري، فوجب تدوينها، ومعرفتها واجب في الثقافات، فمثلا الثقافة الإسلامية تدعو لمعرفة عبادات وعادات الجاهليين لوجوب مقارنتها ومعرفتها، نلاحظ مثلا أن ابن الكلبي( ت204هـ) ألف كتابا عن الأصنام المعبودة في الجاهلية وصفاتها وكيفية عبادتها، وأماكنها، وكل ما تعلق بها، وقس على هذا، هناك أيضا عادات زواج وختان واحتفالات دينية واجتماعية وجب تدوينها حفظا لها فيمكن أن يأتي عليها الزمان والتي أتى عليها الزمان وجب حفظها بكل الوسائل، تدوين، فيديو، تسجيل صوتي...، لأن معرفتها وفهمها جزء من الثقافة، وحلقة مهمة، سواء تعارضت مع القيم أو الدين...أم لا، فلا يمكن فهم الحاضر ورؤية المستقبل إلا بها، فمثلا معرفة عادات وتقاليد وترهات الجاهليين يزيد المثقف المسلم تمسكا بدينه، وفهم إيماني لحقيقة البعث ورسالة الإسلام، لأن الناظر في ترهات الجاهليين تجعله يحس أكثر بنور الإسلام وإشعاعه لأنه قضى على الترهات والمفاسد على كل المستويات، لكن كيف ينظر فيها، إن لم تدون، وهلم جرا بالقياس على المثال، أضف على هذا أن تلك المظاهر هي جزء من تاريخ المجتمعات وثقافات، فالتاريخ الفكري أو السياسي أو الاجتماعي... له حلقات لا تفهم الحلقات التالية إلا بوجود حلقات سابقة مترابطة غير مفصومة، ولا مفقودة، فالفهم الكلي يستدعي النظر الكلي.
ثالثا: التنقيب عن مظاهر ثقافية عند المجتمعات الأخرى التي تخدم نهضتنا وفكرنا وتطلعاتنا، ولا يجب تقبل كل مظهر من مظاهر الثقافات الواردة، بل إنها تربية وجب أن تكون عند الأمم، وعند هذا وجب التنقيب والبحث في كل الثقافات الأخرى وثقافاتنا أولا في كل ما يخدم مستقبل أممنا ونهضتها، في كل الجوانب والمستويات، "إننا نستطيع أن نقدر للتراث قيمته ودوره في تكويننا النفسي والاجتماعي ونأخذ منه ما تقتضيه حاجتنا اليوم، وأن نقبل على الثقافة المعاصرة فنقتبس من ثقافات الآخرين ما تحتاج إليه ثقافتنا لتحقق معاصرتها ومواكبة الثقافات الأخرى، ولاسيما في ميدان العلوم التقنية والعلوم المستحدثة في السنوات الخمسين الأخيرة، فالمواءمة بين الموروث والجديد يحفظ للأمة هويتها ويجدد طاقتها على النماء والتطور " [30]، ليس عيبا التنقيب في ثقافات أخرى وأخذ ما يلزمنا وما يطورنا وما يجعلنا نساير الركب إن على مستوى التكنولوجيا والوسائل المادية أو حتى على مستوى الأفكار والفكر والمناهج، يتضح الأمر جليا إذا عرفنا أن الفكر الغربي الحديث كله مجموع من ثقافات أخرى بحث عنها الغربيون للخروج من عصر الظلمات، وهاهم اليوم يسودون العالم في كل الحقول.
وليس عيبا البحث عن مظاهر ثقافية أو علمية تخدمنا وترقينا، يقول الله تعالى﴿ وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ﴾ [31]، فالتعارف بين شخصين هو تبادل الأسماء العناوين، الأفكار، المعلومات، يعقبه تبادل منفعي وهو أكيد ووارد، والتعارف المقصود في الآية يصب في هذا الجانب، فهذا التعارف الأكيد أنه ينطوي على تبادل معرفي وثقافي فكري...بما يخدم الجهتين، أضف أن ديننا يأمرنا بالبحث والتنقيب عن مظاهر ثقافية وفكرية وحضارية بما يخدم أهدافنا، ورد في الحديث الشريف عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْكَلِمَةُ الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ فَحَيْثُ وَجَدَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا" [32]، فالحديث حجة في هذا الباب.
نسجل هنا بعض الحجج في هذا الجانب حتى نؤكد أن الأخذ من ثقافات الآخرين ليس عيبا بل هو عنصر أساساي وفعال، لكن بما يخدم الثقافات وينميها، لا بما يهدمها ويتنافى مع القيم والأخلاق، فالمجتمع العباسي تأثر بدول الجوار كالهند والفرس واليونان إن على المستوى السياسي، الاجتماعي والحضاري أو مظاهر العمران والترف والمظاهر الحضارية الأخرى [33]، من مظاهر الرياضة والفنون، والأعياد،... [34]، ومظاهر الفكر كالنقد والفكر والأدب كالتجديد على مستوى اللغة الشعرية ( ألفاظ، تعابير، أساليب...)، والتجديد على مستوى القوافي ( مزدوجات، رباعيات، خماسيات، ومسمطات...)، والأغراض الشعرية ( شعر الفكاهة والتسلية، الشعر التعليمي، شعر الطرد، الرياضة، شعر الشعوبية، العيارون، شعر الشطار،...) وأوزانها الجديدة ( القوما، الدوبيت، الكان ماكان، السلسلة...) [35]، فهذه متصلة بتلك لكن المجتمع في صلبه تقبلها وضمها إلى ثقافته من غير أن يخل بمظهر مجتمعه العام أو ثقافاته، أو يهدم ما سبق ويتبنى الحاضر والوارد منها، [36] فعندما نتكلم عن الفكر نورد أمر الفكر النقدي، الذي كان متعلقا في عصور النقد الأولى عند العرب بالبلاغة، فالأمر يكاد أن يكون مسلما به بين جمهور الباحثين في الدّراسات البلاغية على سبيل أنّ هذه الدّراسات يتنازعها اتجاهان،أو تياران بارزان،أحدهما تيار البلاغيين العرب البلغاء (أصحاب طريقة العرب) في دراسة البلاغة عن أصول عربيّة خالصة،وآخرهما اتّجاه أو تيار العقلانيين،أو المناطقة المتأثّر بالعلوم الوافدة ( المنطق والفلسفة)،على رأس الاتّجاه الأوّل نجد دراسة ابن المعتز ( ت296هـ) في كتابه " الـبديـع"، صاحب أول كتاب في البلاغة، بينما يقف قدامة بن جعفر ( ت337هـ) في كتابه"نقد الشّعر" على رأس أنصار الاتّجاه الثّاني،وتحت كلّ منهما تندرج طائفة من البحوث البلاغية [37]، ففي بداية مشروع البلاغة العربية أو في مسار بنائها لعبت الثّقافة العالمية من خلال التّراث اليوناني والفارسي،والهندي،دورا هاما في ذلك وهو ظاهر للعيان،عن طريق التّرجمة والإطّلاع المباشر، وغير ذلك من سبل الاتّصال [38]،" والمعايير النقدية تبنت المعايير الفلسفية التي تحاول أن تشرع على مدى كتابات أرسطو مقاييس الجودة لرداءة في الشعر والنثر جميعا فيؤلف قدامة كتابه نقد الشعر ويؤلف هو أو غيره كتابا في "نقد النثر"، وأثر أرسطو ونظرياته وقواعده واضح بين في الكتابين [39].
ونضيف هنا أيضا ما كان في حملة نابليون بونابرت على مصر ( 1798-1801)، رأى نابليون عند المسلمين كتبا في الفقه تنظم شؤونهم الدينية والدنيوية، وهو غير موجود عند الفرنسيين والأوربيين، فطلب أن تترجم له بعض كتب الفقه المالكي: موطأ الإمام مالك، رسالة أبي زيد القيرواني، وكتاب مختصر الخليل بن إسحاق الذي اقتبس منه علماء القانون الفرنسي بعض فصول قوانينهم، وهذا ما شهد به الكثير من مؤرخي التشريع الغربي، و في هذا الإطار وجدت بعض الدراسات التي تبين أوجه الشبه بين بعض فصول القانون الفرنسي و مختصر الخليل بن إسحاق في الفقه المالكي.
كذلك نجد أن الفكر اللغوي أو ما يعرف باللسانيات الحديثة عند الأروبيين بنيت على أفكار الهنود في لغتهم السنسكريتية، ويقر بهذا البنويون إقرارا نزيها، وذلك كمثل التمييز الحاسم بين الصوت الدال وتأدياته المختلفة [40]، وأكبر دليل هنا هو أن المؤسس الفعلي للسانيات البنوية الحديثة فردينالد دي سوسيرF. De Saussure ( 1857-1913) ففي بدايات بحثه حول اللغة أصدر كتابين الأول سنه 1879 بعنوان " مذكرة في النظام البدائي للصوائت في اللغات الهندية الأروبية Mémoire sur le système primitif des voyelles dans les langues indo-européennes"، والثاني سنة 1881 بعنوان " استعمال المضاف المطلق في اللغة السنسكريتية De lémplois du génitif absolu en sinskrit"، والتأثر واضح باللغة السنسكريتية الهندية [41].
ودخلت الكثير من المفاهيم اللغوية العربية إلى أروبا عن طريق الفلسفة العربية التي نقلت إليهم الكثير من كتب العلوم من القرن العاشر والحادي عشر الميلادي، وقد تجند لترجمة الكتب العربية عدد كبير من المترجمين في الأندلس وصقلية وأروبا. ( مثل حلقة أوكسفورد)، [42] ومن أشهر المترجمين آنذاك Adelard of bath.- Hermann. -j.de. sévilla-gundisalvi- r. of chester-g.cremonensi-m.scot. [43] ومن العلماء الأروبيين الذين تأثروا بالفكر العربي خاصة اللغوي نذكر اللغوي الإسباني Sanctius واسمه الكامل F.sanchez el –brocence (وهو غير الفيلسوف) وتأثر بالنحو العربي خاصة التقسيم الثلاثي للكلم، وتبنى هذا التقسيم من النحاة الفرنسيين Buffier و Dangeau. [44]
وفي الجانب الآخر قد تجد مظاهر ثقافية دخيلة في المجتمع، لعدة عوامل سابقة، لكن هل يمكن تقبل كل المظاهر الوافدة؟، الجواب طبعا هو لا، كيف نقبل بمظهر هو أصلا يتنافى مع قيم ثقافاتنا دينيا أو أخلاقيا أو اجتماعيا، كانت الأمم السابقة باختلاف مشاربها لا تتقبل أي مظهر يتنافى مع ثقافتها، مثلا نحن العرب تأثرنا بالثقافة النقدية اليونانية، الفرس تأثروا بنمط النثر والشعر العربي، وإن كان الأمر هنا متابدلا، الأوربيون تأثروا بنا أيام عزنا في مظاهر الثقافة العلمية والروحية، حتى قيل إن الغرب به الإسلام وليس به مسلمين، وعند العرب عندهم المسلمين وليس عندهم الإسلام [45] " وفي واقعنا المعاصر ثمة انفصام بين هويتنا وثقافتنا يحكم مسبقاً على مشاريعنا بالعقم، فالوطن العربي تمتلك شعوبه هوية تختلف عن هوية الشعوب الأخرى، ولا يمكن بحال أن تتفاعل مع ثقافتها، بل تنبهت مؤخراً إلى الغزو الثقافي الذي رافق الغزو الإعلامي وأصبح موضوع بحث ونقاش. يطرح هذا في أوساط المؤسسات الثقافية التي تقف حيرى أمام فشلها في الرقي بثقافة الشعوب وتنميتها" [46].
ليس من الواجب أن تأخذ أمة من الأمم مع ما يتعارض مع ثقافتها بل بما يخدمها، ويدفع بعجلة أمته إلى الأمام، نلاحظ اليوم للأسف أن العرب يقلدون الغرب في مأكلهم ملبسهم، وفي قشور الحضارة فقط، حتى قيل القشر قشر حضارة واللب لب جاهلية، لكن السؤال المطروح لماذا لا نقلدهم في علمهم في رقيهم في احترامهم للغير والقوانين في عدلهم، في حبهم للعمل وإخلاصهم وتفانيهم خدمة لأوطانهم، في أمر تقليدنا للغرب في كل شيء ما عدا ما صح من الأمور ورد في حديث شريف، "حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ قَالَ حَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، قَالَ: فَمَنْ" [47].
وما لاحظناه حتى عند المثقفين العرب أحيانا بل عند أغلبهم وهي طامة كبرى يرون أن كل العلوم في العصر الحديث ترد إلى ما قاله الغربيون، فيقولون مثلا أن التناص الذي ظهر في النقد الغربي الحديث يختلف عن السرقات الأدبية ومصطلحاتها ومفاهيمها التي تكلم عنها أجدادنا العظماء من العلماء العرب المتقدمين، هم يقولون هذا استخفافا بماضي فكري عربي عريق، ويمنحون الأفضلية للغربيين، مع العلم أن مفاهيم السرقات الأدبية ومصطلحاتها أكثر تفصيلا وإجمالا من مفهوم التناص الذي يعتري جوانبه الكثير من النقص والإخلال، أضف إلى ذلك أن من القائلين من يقول بأن اللسانيات الحديثة الغربية، تخدم اللغة العربية أكثر مما قاله العرب، مع العلم أن أي طالب علم مهما كان مستواه يدرك أنه يستحيل أن تطبق بعض النظريات على اللغة العربية، بل بالعكس إن الكثير من النظريات مستنبطة من العلماء العرب المتقدمين، يؤكد الأستاذ الدكتور عبد الرحمن الحاج صالح، أن نعوم تشومسكي أخذ نظرية العامل ( مصدره باللغة الإنجليزية هو Government) من اللغة العربية ووظفها في اللسانيات الحديثة، بل حتى إن تشومسكي أقر بذلك فيما بعد. [48]
أضف إلى ذلك ما كان من أمر النقد والفكر في بدايات النهضة ففريق قال: بوجوب احتضان النقد العربي الأصيل، وفريق قال: النقد العربي القديم جاف وغير ملائم للعصر، وفريق ثالث أمسك العصا من وسطها، ولكن في الأخير انتصر أهل احتضان النقد الغربي، فالأسلوبية والسميائيات، والتناص والتداولية كلها دراسات غربية، نحن لا ندعو لإهمال النقد الغربي كلية بل نحتضنه من جوانب ما يخدم الفكر وينميه، والباقي لا شأن لنا به، فالخير في تراثنا النقدي،" هكذا يوجد على الساحة العربية تياران يتفقان في الهدف،محو التخلف، ويفترقان في الأسلوب: الأصالة بالمحافظة على الموروث،أم النبوغ في إطار التراث الإنساني المشترك ؟ كان التيار الأول يمثل القديم الموروث في ثباته وشموخه، وكان التيار الآخر يمثل الجديد الوافد في بريقه وإغرائه ". [49]
فمع نهاية عصر الانحطاط وبداية عصر النهضة ظهرت عدة مؤلفات تدعو لتبني النقد العربي الخالص المتمثل في النقد ومنها كتاب " الوسيلة الأدبية إلى العلوم العربية" لحسين المرصفي ( 1875-1897) وكتاب "فلسفة البلاغة "1899 لجبر شموط، وكتب تاريخ علم الأدب عند الإفرنج والعرب وفكتور هيغو 1904 لروحي الخالدي، وكتاب " منهل الرواد 1907 للقسطاكي، و هي كتب بدت فيها محاولات لتجديد العلاقة بالتراث من خلال إحياء النقد القديم المتمثل في البلاغة [50]، وظهر النقد الأكاديمي على يد بعض الدارسين منهم أحمد ضيف المصري الذي ابتعث سنة 1912 لنيل الدكتوراه في الأدب العربي من جامعة السوربون فلما عاد دعا لترك أساليب النقد العربي القديم المتمثل في البلاغة والانفتاح على النقد الغربي كما دعى طه حسين واحمد أمين لتبني النقد الغربي [51].
وكانت جماعة الديوان العقاد و إبراهيم المازني وعبد الرحمن شكري وجماعة باولو التي أسسها احمد أبو شادي، تنادي وينادون أصحابها بضرورة تبني النقد الغربي دون إهمال النقد العربي الخالص المتمثل في البلاغة [52]، والمقصود هنا هو التوسط بين هذا وذاك.
وانفتح النقد العربي الحديث على الأشكال والفنون النقدية الغربية، كمناهج النقد عند المدرسة الشكلانية، والمدرسة البنوية، والسميائية، والأسلوبية...، وبما أن كلامنا حول البلاغة فالبلاغة لها امتداداتها في هذه وتلك، فمثلا يرى بيير جيرو بأن البلاغة هي أسلوبية القدامى [53]، وهذا ما يذهب إليه الدكتور صلاح فضل بأن علم الأسلوب هو وريث البلاغة القديمة [54]، والبلاغة عند الكثيرين هي الشعرية نفسها [55]، وبعض الفنون البلاغية كالتضمين والاقتباس والحل والعقد...، والسرقات الأدبية يربطها الكثير من الدارسين العرب بنظرية التناص، ومنهم من يحاول دمج البلاغة كأداة وكرؤية للنظرية التداولية [56] أمبرتو إيكو يرى أن البلاغة القديمة لها رؤية قديمة اتجاه المتلقي فالبلاغة تفطنت لدور المتلقي في عملية التواصل قبل النظريات الحديثة كنظرية التأويل ونظرية القراءة [57] ومنهم من يرى بأن البلاغة لها امتدادات في فكر المدارس اللغوية واللسانية الحديثة [58].
فإذن ما كان من أمر الفكر النقدي الغربي كله يصب في خانة البلاغة والفكر العربي القديم،أين الخلل أفي تراثنا، أم فينا نحن صرنا نجري وراء أي مظهر غربي مهما كان وفي أي مستوى ؟ وهو أمر ليس إلا في عقول ضيقة ارتمت في أحضان الفكر الغربي بدون تفكير بل بانبهار وتقليد، وما قلنا على الفكر النقدي يسحب على أفكار أخرى فعلم الاجتماع وعلم النفس مثلا لا يمكن تطبيق نظريات غربية على مجتمع عربي مسلم، والأدلة هنا كثيرة، فلماذا لا نركز على فكرنا فهو أعم وأشمل؟،
هل سيصدق هؤلاء القوم أن من الجامعات الأوربية والأمريكية في هذا العصر عصر التكنولوجيا والإلكترونيات، تعمد لكتب ابن سينا والرازي...لحل مشكلات طبية استعصت عليهم، وهو ما معناه أنهم تبنوا ثقافة البحث والتفتيش في كل الثقافات والعصور بما يخدم مجتمعهم، أعرف الكثير من أطبائنا عندما أسألهم هل تقرؤون كتب الأطباء العرب المتقدمين يجيبون دون تفكير بأنها كتب تقليدية تجازوها الزمن، فيظهر أن الخلل عظيم بأننا أصبحنا في هاجس عظيم هو تقليد الغرب ونبذ التراث الأصيل وبحث بشغب عن جحر الضب والدخول فيه كما جاء في الحديث الشريف السابق.
يتكلم الأستاذ الدكتور عبد الرحمن الحاج صالح عن كتب الفكر اللغوية ومدارسها الواردة إلينا من نظريات غربية حديثة على أن " اقتصار هذه الكتب على المفاهيم والمناهج التي تعتبر الآن في أوربا وأمريكا آثارا بالية راجت في هذه البلاد منذ خمسين سنة على الأقل " [59]، هذا من جهة ومن جهة أخرى " هي عدم التفاتها إلى النقائص والأخطاء التي احتوت عليها الآراء والنظريات الأوربية – القديمة والحديثة- إذ قد تكون الأخطاء القديمة صعبة الزوال خصوصا إذا علقت بأذهان المتطرفين من المحافظين الأوربيين فإذا تسربت هذه الآراء غير الصائبة في المؤلفات الموجهة إلى من يجهل كل شيء عن حقيقة هذه الأمور ولم ينظر فيها النظر الصحيح ولم تمحص تمحيصا كان الضرر أعظم وأجسم ". [60]
نضيف أيضا أن من المجتمعات من تخلى عن كثير من مظاهر الثقافة المتمثلة في الملبس والمأكل، فها هم اليابانيون مأكلهم وملبسهم وعاداتهم مازالت على مر العصور هي نفسها، ولكن الرقي الياباني أو الصناعة اليابانية يضرب بها المثل في الجودة بل إنها ترعب حتى الأوربيين والأمريكيين، فهل عندما نتخلى نحن عن ثقافتنا الأصيلة ونجلب ثقافة الأكل والملبس سيجعل منا أمة متطورة، بل حتى إن هذه المظاهر تتنافى مع قيمنا وعاداتنا وقيمنا.
أنا لا أقول للغربيين كلوا مثلنا والبسوا مثلنا لكن أقول لمجتمعات أمتنا الكبيرة لنا ما يميزنا من مأكل وملبس، والرقي ليس في باب الأكل واللباس، أمر آخر هنا من مظاهر المجتمع والثقافات الحالية حرية التعبير والكل حر في ملبسه ومشربه وملبسه، ونحن نحترم هذا المبدأ، لكن ما أردنا قوله سابقا هو أن الرقي لا ينحصر في تقليد الغرب في الملبس والأكل ولواحقها، لماذا لا نقلدهم في الأمور الأخرى من أخذ الكل أما أن تتأثر بجوانب تبدو تافهة إلى حد ما فهو أمر غير مقبول
جهة أخرى يظهر لنا أن الأوربيين لم يكن ما ينظمهم إلى وقت قريب، ويؤكد بأن الأمور الحميدة وجب الاقتداء بها مهما كان مصدرها.
أما نحن العرب اليوم فقد تعاملنا مع الثقافات الأخرى وفق تراجم مستعجلة وأفكارا عابرة وخطرات سريعة وفهما ناقصة مبتورا واخذ العرب من الثقافة الغربية ما جاء إليهم بثوب الطارئ الغريب فانشغلوا بروعة ملمسه وشفافية مظهره ولكننا لم نستطع الدخول إليها وفهمها [61]، فتبنوا هم فكر أن الطفل مفطور على الفطرة وأعطونا نحن فكرة أن الطفل صفحة بيضاء فاكتب عليها ما شئت مع أنها تتعارض مع ثقافتنا وديننا فالأصح أخذوه من عندنا ومنحونا الغلط والخطأ، والعجب أن فكرة أن الطفل صفحة بيضاء فاكتب عليها ما شئت هي فكرة بل نظرية عند الكل بما فيها المفكرين والمثقفين والعلماء المتخصصون في التربية وعلم النفس ولا أحد نقب في أصلها وأصل صحتها وقابلها مع موروثنا الديني والثقافي، ويمكننا أن نورد ألف دليل ودليل من القرآن والأحاديث الشريفة والفكر العربي النير ما يبرهن أن نظرية" أن الطفل صفحة بيضاء فاكتب عليها ما شئت" أنها خاطئة، وبعيدة كل البعد عن الصواب.
وعلى هذا ندعو إلى التبصر في التراث الثقافي الخاص بنا ولا نقبله وكأنه قرآن بل وجب التحقيق فيه والتنبه لبعض الأغاليط فمثلا:
.نقرأ التفسير، ونحذر من الإسرائيليات، والأقوال الفاسدات.
ونقرأ الحديث، ونحذر من الموضوعات والواهيات..
ونقرأ التصوف، ونحذر من الشطحات والتطرفات..
ونقرأ علم الكلام، ونحذر من الجدليات والسفسطات..
.ونقرأ علم الفقه، ونحذر من الشكليات والتعصبات. [62]
بل وجب تجديد النظر في الفكر في الصحيح منها وتقويمه ما يستوعب الفكر المعاصر وآلياته" فإن البحوث العلمية التي تتطرق إلى ما تركه العلماء العرب القدامى في علوم العربية والعلوم اللسانية عامة [ على سبيل المثال وفي مضامين الفكر عامة] لفي حاجة مسيسة في نظرنا إلى شيء كثير من التجديد والتطوير وهذه سنة الله في أرضه، وهذا يشمل كل جوانب البحث [...]، وكذلك النظرة إلى هذا التراث وكيفية تقويمه" [63]
رابعا: محاولة فرض ثقافتك على الآخر اعتزاز وليس إكراها، وتصحيح بعض الصور المغلوطة حول ثقافاتنا، هذا الجانب مهم حتى تبرز شخصيتك ووجودك وتظهر أمتك كما يجب أن تكون، فتعزز روح انتمائك، فلا يجب أن نصل حد الحجل بانتمائنا، المجتمع هو متشكل من أفراد وأسر، فلينمي كل فرد حسه الثقافي واعتزاز بانتمائه، بل عليه أن يعرف بأن لا خيار له في منطلقه وأهدافه بل خياره لما يحمل من زاد فكري وثقافي ما معناه لا أحد فينا يمتلك خيار أين يولد وفي أسرة من يولد، إنه القدر، ولا أحد يملك خيار نهايته أين تكون وكيف تكون، بل له الخيار فيما يملك من زاد فكري ثقافي وعقدي. إن أوْلى من تعليق أخطائنا على مشجب التآمر الخارجي، أن نردَها إلى الخلل الداخلي، أي الخلل في أنفسنا قبل كل شيء: ﴿ إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ﴾ [64]، والتغيير هنا قد يكون قبليا أو بعديا، معناه حالنا اليوم لأننا غيرنا أنفسنا وإن أردنا حالا أفضل علينا أن نغير أنفسنا، يقول الله تعالى: ﴿ ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم﴾ [65].
" معرفة الواقع من تمام معرفة العصر: الواقع المحلي ( الوطني )، والإقليمي ( العربي )، الإسلامي والعالمي. وهذه المعرفة لازمة لكل من يريد تقويم هذا الواقع، أو إصدار حكم له أوعليه، أو محاولة تغييره ". [66]، نريد القول بن الثقافة والنهضة زاد يجب أن يحمله ويطمح إلى كل المجتمع على مستوى الأفراد والأسر والمجتمع ككل، " ويعتبر دوركهايم هو أول من استخدم مفهوم التنشئة الاجتماعية بالمعنى التربوي، وهو أول من صوغ الملامح العلمية لنظرية التنشئة الاجتماعية يقول دوركهايم بصدد تعريفه لغاية التربية: "إن الإنسان الذي تريد التربية أن تحققه فينا ليس هو الإنسان على غرار ما أودعته الطبيعة، بل الإنسان غرار ما يرده المجتمع، "فالتنشئة هي العملية التي يتم فيها ومن خلالها دمج ثقافة المجتمع في الفرد ودمج الفرد في ثقافة المجتمع، أما سيقموند فرويد، فيري بأن التفاعل الذي يتم بين الأنا الأعلى والهو عبر تدخل الأنا يمثل الجانب الأساسي في عملية التنشئة الاجتماعية [67] ، ومن جانب آخر، تعرف التنشئة الاجتماعية على أنها ".. عملية التفاعل التي يكتسب فيها الفرد شخصيته الاجتماعية التي تعكس ثقافة مجتمعه [68]، فشخصية الفرد في مجتمع معين هي منتوج لنوع الأنماط الثقافية السائدة في المجتمع والتي يتفاعل معها الفرد على امتداد مراحل حياته وكما يتأثر يمكنه أن يؤثر ويغير [69] فترتبط بنية الشخصية ارتباطا وثيقا بالثقافة المميزة لمجتمع معين فنعتبر أن الثقافة نظام القيم الأساسي للمجتمع [70]، هذه المجموعة من القيم الاجتماعية التي يكتسبها ويتعلمها الإنسان من التنشئة الاجتماعية، وعن طريق عملية التفاعل الاجتماعي.
ويشير في
ذلك باندروا Bandyra إلى أن الإنسان يتعلم القيم من خلال عدة طرق أهمها الملاحظة والمحاكاة والتقليد، [71] فالفرد يلاحظ ويقلد ومن ثم يكتسب عن طريق عملية التنشئة الاجتماعية والتفاعل الاجتماعي، فالقيم هنا ستكون أحدى أبرز مكونات شخصية الفرد [72]، كتب كاردنر kardiner قائلا:" الأنا هي ترسب ثقافي" [73].
" ونركز كثيرا على دور الأسر في لعب دافع للثقافة وعجلة النهضة " ولعل الدور الأسري الذي كان في السابق يجعل من الأسرة هي أحد المصادر الرئيسية لهذا الغرس، أصبحت في الوقت الراهن في المجتمع الحديث ليست المسئولة الأخيرة عن غرس القيم. فتشاركها بذلك مؤسسات أخري متعددة داخل المجتمع الحديث والمعاصر" [74]؛ فالأسرة التقليدية على حد زعم وليام أوجبرن كانت تقوم بوظائف متعددة، فكانت تؤدي الأسرة الوظيفة الاقتصادية من حيث كونها تستهلك ما تنتج، وتمنح المكانة الاجتماعية لأفرادها، وتمنح الحماية بكافه أشكالها للفرد داخل الأسرة، وأيضاً مسئولة عن الجانب الترفيهي له. فهي تقوم بهذه الأدوار في ظل انحسار لدور المؤسسات الأخرى داخل المجتمعات التقليدية، وكانت أيضاً هي المسئولة عن عملية التربية وغرس القيم الاجتماعية بشكل عام؛ فالأبوين هما المسؤولان عن العملية التربوية بشكل كامل كما يشير أوجبرن. [75]
خامسا: " إن الله لينزع بالسلطان مالا ينزع بالقرآن"، قول مأثور قاله أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، أريد القول هنا أن تكاتف جهود الحكام وشعوبها من أجل تقرير مصيرها ومصير نهضتها، أمر مهم، فالحاكم يضمن العدل والمجتمع يضمن الأخلاق فتبنى النهضة والحضارات، فهناك معادلة استنبطتها، من النظر في حضارات سابقة ومعاصرة، فدققت النظر في كيف بنيت، وكيف سقطت واندثرت، فوجدت أن هناك معلمين مهمين في أي حضارة، وهما [ العدل + الأخلاق = حضارة أو نهضة]، قد يقول القائل بأن هناك حضارات سابقة ومعاصرة لا تلتزم الأخلاق مثلا كالمجون واللهو والعبث، لكنها العدل فيها موجود، فنجيبه بأن النشأة في أول الأمر تقوم على العدل والأخلاق، أما السقوط والاندثار، فيكون بالتدريج تذهب الأخلاق أولا ثم يتبعه اللاعدل فتهوي الحضارات، وما أردت قوله هنا أن هذه الحضارات السابقة أو المعاصرة وإن رأيتم أن لا أخلاق فيها فهي مازالت قائمة، بحكم أن العدل فيها مازال قائما، فالعدل آخر ما يسقط الحضارات، ومن وجه آخر أن الأخلاق لا يعنى بها عدم اللهو والمجون، فاللهو والمجون صفات غير أخلاقية فردية، الأخلاق المقصودة هنا هي الكل، فمثلا احترام القانون، حب العمل وإتقانه، هما وجهان من أوجه عدة للأخلاق، ألا ترون أن المجتمعات المتقدمة المعاصرة وإن كانت تعرف بالمجون واللهو، لكنها تحترم القانون ولا تدوس عليه، ألا ترون أنها مجتمعات تحب العمل وتتقنه، فإذن أن أخلاقها ناقصة وليست منعدمة.
ما معناه أن الحاكم يستطيع أن يروض شعبا خاملا ويبعث فيه العمل والازدهار والرقي بالتربية وبعث الأخلاق بالقوة والعقاب والترهيب والترغيب، فعصر الميجي (1868-1912) في اليابان شاهد على القول، وتكون النتيجة سريعة وفي زمن قليل، أما بالقرآن ويقصد بالقرآن التربية والوعظ والإرشاد، فهنا الأمر يطول حتى إن من العلماء من قال بأن التربية تأتي أكلها من جيل ( 33 سنة) إلى جيلين ( 66 سنة)، نلاحظ أن الإسلام عمل على الأمرين، رغب في العمل وقرنه مع العبادة والعلم سن قوانين عادلة وصارمة لتربية المجتمع وتهذيبه، السارق تقطع يده، القاتل يقتل، الزاني يجلد، المتزوج الزاني يرجم حتى الموت، كلها قوانين قال عنها الخصوم أنها جائرة، لكن السؤال المطروح كم سارق قطعت يده في عصر الخلفاء الراشدين مثلا الأكيد أنها قليلة جدا لأنها قوانين ترهيبية أكثر منها عقابية من ذا الذي سيسرق لو علم أن يده ستقطع لو كشف أمره، ما أردنا قوله هو سن قوانين عادلة صارمة والعمل وفقها، ولا حياد عنها حتى نضمن العدل بين الناس فتطمئن القلوب للعمل والعلم والجدية والإخلاص وتأدية الواجب، وتبتعد القلوب عن مظاهر الخمول والرشوة والعبث والخيانة، لأنه متى شاع اللاعدل شاعت معه هذه المظاهر، والحق أن الجميع مسؤولون، كل حسب موضعه من طاقته وسلطته، أفرادا وأسرا، العلماء، والمفكرون والمربون والحكام،...، عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ الْإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ قَالَ وَحَسِبْتُ أَنْ قَدْ قَالَ وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ [76].
هذا الجانب الأول الذي عمل به الإسلام الجانب الثاني عمل الإسلام على التربية وزرع الأخلاق والقيم وتهذيب النفوس، فالإسلام راعى تربية الأفراد والأسر والمجتمعات والقوانين الصارمة لتنظيم كل المستويات، فيعرف كل فرد أن أعماله خاضعة لمعيار الأخلاق أولا، ولتربيته وتطلعاته وما يحمل من زاد، والأخلاق لها قيمة كبرى على مستوى الحضارات، النهضة، بناء الأمم، قال الشاعر أحمد شوقي رحمه الله: صَبراً عَلى الدَهرِ إِن جَلَّت مَصائِبُهُ إِنَّ المَصائِبَ مِمّا يوقِظُ الأُمَما
إِذا المُقاتِلُ مِـن أَخلاقِهِم سَلَمَت فَكُلُّ شَيءٍ عَلى آثارِها سَلَما
وَإِنَّما الأُمــمُ الأَخلاقُ ما بَقِيَت فَإِن تَوَلَّت مَضَوا في إِثرِها قُدُما [77]
فالأمم تصنعها الأخلاق السائدة في المجتمع، تحضر بحضورها وتفنى بفنائها، في الحقيقة لا يمكن جعل كل المجتمع ذو تربية أو قيم، لكن نحن نتكلم عن الأغلبية، والأغلبية تؤثر على الأقلية، فلو كان أحدنا يريد رمي شيء في أرض أو مدينة نظيفة سيفكر ألف مرة قبل رميها والعكس صحيح، يشير البيت الأول من الأبيات السابقة على أن المصائب هي التي توقظ الأمم، فالسؤال المطروح هنا متى ستوقظنا مصائبنا التي تعددت وتنوعت؟، متى سنعتبر من مصائبنا وحسراتنا، وننطلق نحو نهضتنا المنشودة؟.
سادسا: وهو مرجع كل ما سبق، وهو استثمار الموارد البشرية، والعمل على تشبعها بالثقافات الأصيلة حتى تحس بالانتماء والهوية وتخدم أوطانها بشكل جيد ولا تتركه في كل الأحوال، و العمل أيضا على تشبعها بكل الأشكال العلمية والفكرية والتقنية الحديثة لمسايرة الركب، الاستثمار في الموارد البشرية هو نبع قوة الدول المتقدمة في العصر الحديث والمعاصر، دول لا تمتلك ثروات باطنية لكنها تبنت الموارد البشرية، ما أردت قوله هو أن نهضتنا تبنى من داخلنا حينما يصبح العدل بين الناس وكل في مكانه الرجل المناسب في المكان المناسب، يجب أن نربي أبنائنا وفق ثقافتنا الأصيلة، ندعمها من مظاهر جديدة تخدم ثقافتنا لا بما يهدمها، يجب أن نعلم أن ثقافتنا الأصيلة مبنية على العلم والأخلاق والعلاقات الطيبة بين كل المستويات، يجب أن نعلم أن رصيدنا الثقافي مشبع بالقيم والعلوم والمعارف وجب استثماره، والاستثمار في الموارد البشرية هو ذو شقين موارد داخلية والعمل على تأهيلها في كل المستويات، والاعتماد على مؤهلات أجنبية ذات كفاءة عليا في كل المجالات، وخير دليل هنا ما قام به الخلفاء العباسيون من الاعتماد على كفاءات فارسية من أطباء وأدباء ومسيرين، وكذلك ما وجدناه في عصر الميجي (1868-1912) فبالرغم من سياسة الانغلاق المنتهجة إلا أنه اعتمد على كفاءات أروبية وأمريكية في كل الميادين، كما بعث كفاءات يابانية للتكوين بعدة دول عادت وبنت وأهلت أبناء جلدتها، ونجد هذا أيضا عند الدول المتقدمة في عصرنا تعمل على جلب الكفاءات أين كانت، وفي كل الميادين بالرغم أنها في غنى عنها.
ووجب استثمار التكنولوجيات والعلوم الحديثة، ولهذا نجد أن مشروع الذخيرة العربية مشروع طيب في هذا الجانب له أبعاد فكرية وحضارية ونهضوية، فهو يهدف لأحياء التراث العربي أولا حفظا وجمعا ويسهل عملية البحث فيه،رأينا أن الثقافة مرتبطة بالأصالة التراثية العلمية والفكرية، فصاحبه الدكتور عبد الرحمن الحاج صالح أدرك بأن الأمة العربية وجب أن تربط بين أمرين ثقافتها الأصيلة من كتب ومعارف وتاريخ ثقافي وحضاري وفكري وبين ثقافة التكنولوجيا حتى تكون الفائدة عظيمة وكبيرة، فهو مشروع وجب احتضانه أفرادا وأسرا وأمما وهيئات وتنظيمات، لما له من ثمار طيبة في مجال الفكر والثقافة يعرفه الأستاذ الدكتور العلامة عبد الرحمن الحاج صالح وهو صاحب فكرة المشروع بقوله: " هو بنك آلي من النصوص العربية القديمة وخاصة التراث الثقافي العربي والحديثة مثل الإنتاج الفكري العربي المعاصر وأهم الإنتاج العلمي العالمي بالعربية وذلك على موقع من الإنترنيت " [78] برزت فكرة المشروع عندما تكلم الأستاذ الدكتور العلامة عبد الرحمن الحاج صالح ، في مؤتمر التعريب الذي انعقد بالعاصمة عمان سنة 1986، فأوضح أهمية المشروع في البحوث اللغوية والعلمية، خاصة على مستوى توحيد المصطلحات ورصد المفاهيم،...، واستثمار وسائل التكنولوجيا الحديثة في ذلك [79]، فالرجل العالم ناضل من أجل الفكرة أكثر 24 سنة، وقد تبنى الفكرة الكثير من الهيئات والمنظمات والدول منها المملكة الأردنية متمثلة في اللجنة الوطنية للذخيرة العربية، وأفكار نيرة مثل هذه وجب تبنيها ورعايتها، دول وهيئات وأفراد...
وخاصة نهضتنا المنشودة." فالذي نريد أن نلفت أنظار إخواننا إليه هو الطابع التقليدي الذي تتصف به البحوث اللغوية [ والعلمية] في جميع البلدان العربية وجميع المؤسسات وعدم تطور هذه البحوث وقلة اهتمام الباحثين في اللغة العربية بما يطرأ من جديد في ميدان تكنولوجيا اللغة العالمي وبذلك تتعذر الاستجابة لمتطلبات العصر" [80]، " إن الثقافة العربية هي إحدى الثقافات الكبرى في تاريخ البشرية، وهي مؤهلة اليوم لاستئناف دورها حاضنة لقيم الخير والعدالة والمساواة والمحبة والسلام ونابذة كل ما يشوه الإنسان من صور الشر والجور والعنصرية والظلم، وذلك من خلال صيغة مركبة متحركة متطورة لا تتنكر للأمس الغابر ولا تغمض العين عن متطلبات اليوم والغد. [81]
استثمار الموارد البشرية يكون بتكوين الشباب تكوينا جيدا نظريا وتطبيقا حتى نضمن الفعالية، ويكونون هم المكويين فيما بعد لتحقيق الاكتفاء في الجانب البشري، ونضمن التواصل بالاحتكاك بالأمم الأخرى من أجل مسايرة الركب في النمط التقني والصناعي، وبعدها إعطاء كل حق حقه في المنزلة، فالرجل المناسب في المكان المناسب بالحق والعدل لا بالرشوة والمحسوبية، فالمتمكن والكفء يعمل بجد وحب وإخلاص عكس المتسلق بالرشوة والمحسوبية، يمكن في بعض المرات الاعتماد على كفاءات خارجية وهذا أمر وارد في كل الحضارات وعند كل الأمم كما أشرنا سابقا، وكما يمكن الاعتماد على العنصر البشري الخارجي( أطباء، مهندسين، صناعيين، فنيين،...) يمكن الاعتماد على المناهج والكتب والتقنيات الأخرى الخارجية، لكن بشرط أن تضع الموارد البشرية بجانبها وأن تلازمها من أجل تحصيل ما عندها من خبرات وفنيات، وأن يحرصوا كل الحرص على الملازمة والملاحظة والسؤال من أجل استنباط وأخذ الخبرات، حتى نكون في استغناء فيما بعد ويصبحون هم المكويين، هنا نجد الكثير من الدول العربية ماضية في هذا الطريق كدولة الإمارات، السعودية، الكويت،...، وهنا نلاحظ بأنهم يعتمدون في الأغلب على كفاءات خارجية من دول عربية لتقارب الثقافات والعادات والدين واللغة.
يلاحظ بأن الدول المتقدمة في هذا العصر وإن كانت ليست في حاجة لموارد بشرية مؤهلة إلا أنها تستقطب الكفاءات باختلافها.
وهنا نجد أن جامعة الدول العربية جاء في تقريرها لسنة 2010 أن هناك أكثر من مليون 1000000باحث عربي ذو كفاءة عالية
يتواجدون في الدول المتقدمة، وأن أكثر من ثلث الأطباء العاملين في إنجلترا من دول عربية، [82] أفلا يجب استثمار هذه الطاقات في بناء صرح نهضة الدول العربية، بل وتدعيمها بكفاءات أخرى، وإعطائها الفرصة للبناء، ووجب العمل على تشبعها بالثقافات الأصيلة، من كتب وتراث علمي وجب التنقيب فيه والتعلق به وربطه دائما بما جد في الساحة العلمية، بل وجب جعل التراث الثقافي -كل حسب ميدانه – المنطلق والقاعدة الأساسية، لكل هدف من الأهداف، فالطبيب مثلا وجب التشبع بالثقافة الطبية العربية والإسلامية القديمة، والاطلاع والتشبع بها، هنا يعد هذا الجانب محفزا، وباعثا على التعلق بالوطن، والانتماء الوطني والحضاري والفكري، فيعمل جاهدا لخدمة قضايا الوطن.
ومتى حققنا العدل بين أفراد المجتمع في كل المستويات، في عدل التعليم والعلاج والأمن والعمل والسكن والحق يصبح يسير إلى أهله، فمثلا لو وظفت طبيبا وهو ليس أهلا لها أو قاضيا أو أستاذا أو إماما وهم ليسوا أهلا لهذه الوظائف فقبل تقاعدهم سيقتلون ويضلون ويهدمون أجيالا خاصة إذا علمنا أن فترة خدمتهم قد تكون 35 سنة، أما إذا وظفت من يستحق المنصب علما وعملا فسيبدع فيه ويتفانى في عمله ويكون أهلا بأن يترك أجيالا أو يكون أجيالا تكون صورة منه بل إن الأجيال المتوالية عنه تكون قد ازدهرت أكثر فأكثر أما إذا كان العكس فالتدهور محتوم علينا، وإن كان ولا بد من تلخيص ما سبق فنهضتنا مرهونة بعدل الحاكم، والتزام المجتمع بالأخلاق الفاضلة، مع شقين اثنين مهمين التشبث بالتراث الفكري الخالص وتنقيحه، واقتناء ما يلزمنا من ثقافات أخرى بالتحري والتدقيق والتنقيب عن ما ينفعنا.
ولله الأمر من قيل ومن بعد، وله الحمد
ونسأله التوفيق والسداد والرشاد
الأستاذ: عبد الحليم ريوقي
الجزائر
هـــــــوامش البـــــــــحث:
التعليقات (0)