لست هنا للحديث عن فضل صناعة المعروف فكلنا يعرف فضائل صناعة المعروف .. وأن صنائع المعروف تقي مصارع السوء .. و كذلك أن من يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة .. و أن من نفس كربا عن أخيه في الدنيا نفس الله كربه في الدنيا والآخرة .. فهذا لا يخفى على أحد منا
ولكن ..
هل صنع المعروف جبلة جبل الإنسان عليها أم عادة وتعود وطبع مكتسب يستطيع الشخص منا تدريب نفسه عليه إن وجد أن نفسه تميل للشح و الأنانية ! وما هي الدوافع الحقيقية لعمل أي معروف كان في هذه الأيام ! وهل أصبحت صناعة المعروف من غير استنفاع عملة نادرة بين البشر هذه الأيام !! كل هذه الأسئلة وغيرها فيما يخص صناعة المعروف لعامة الناس أمر يحتاج لكثير من التفكير والتأمل وتدبر نوعية البشر ومذاهبهم حول صناعة المعروف و عمل الخير دون مقابل ..
أما عن مراتب المعروف فهي ليست ثابتة بنظري إنما هي تتغير بتغير الظروف .. فقد يكون المعروف في موقف ما هو مجرد ابتسامة تبعث الأمل والتفاؤل في نفوس المتشائمين الوجلين من أمر ما .. وقد يكون في موقف آخر هو بذل للجهد والمال والتضحية .. فما الذي يدفع الإنسان لبذل ماله وهو غير ملزم بذلك !! ولمَ يختار الواحد منا المشي والسعي في معاملة صديق له للوصول لوظيفة ما مثلا أو مساعدته لنيل حقوقه المسلوبة بمعنى آخر العمل ( كواسطة ) له لنيل مطالبه الحقوقية سواء كانت في التعليم أم في الصحة أم في أي شأن من شؤون الحياة .. قد يتوهم البعض أن الإنسانية فقط هي الدافع الأساس له لتقديم العون والمساعدة للغير .. و لو فكرنا قليلا و راجعنا مشاعرنا وتحرينا أحاسيسنا في المواقف التي نقدم فيها مساعدة ما لشخص ما لوجدنا أننا نقدمها لدوافع تبتعد قليلا عن الإنسانية المحضة .. فلو طلب أحدهم المساعدة منك وأنت لا تعرفه وفي نفس الوقت طلب منك شخص عزيز عليك جدا نفس المساعدة فلمن ستقرر تقديم العون و المساعدة !! و أنت ليس بوسعك حاليا أن تقدم المساعدة لكليهما فمن ستختار !! أنت ستؤثر من تعرفه عمن لا تعرفه أليس كذلك !! و هذا القرار يؤكد لنا أننا نقدم المساعدة لتعزيز الصداقات و توطيدها و الخوف من خسارة صديق عزيز عليك .. وليست صناعة المعروف هنا خالصة لوجه الله كما تدعي داخل نفسك ..
ومنا من يصنع المعروف ليشار له أنه صاحب الفضل والمنة وأنه اليد العليا .. وكم هذا الشعور شعور أناني انتشر بين الخلق هذه الأيام .... فلا أقدم المساعدة إلا من أجل أن يقال عني أني كريمة معطاءة ومضحية .. وقد يحدث هذا الشعور في اللاوعي ودون أن نحدث أنفسنا به .. فهل هذا هو المعروف المطلوب ! وهل هذه النية في بذله يؤجر عليها صاحبها ! لا أعتقد .. فمن يطلب الوجاهة والعزة والفخر مقابل مساعدة وعون قد يبذله لأحد ما فقد وصله حقه و رُد إليه أجره في الدنيا .. وقد يكشف الله نيته هذه فيكون خسر الدنيا والآخرة و لا حول ولا قوة إلا بالله .. و سبحان الله هنا حتى من يطلب المساعدة و يطلب أن تُقضى حاجته يستشعر بنفسية هذا الباذل الشجع.. وقد يرفض تلك المساعدة إن لم تكن ملحة عند استشعاره بعلو وتفاخر باذلها ..
وهناك ألوان أخرى من الدوافع لبذل المعروف .. كأن أؤمن مصلحة معينة لشخص ما لأنني مدرك أنني سأحتاج هذا الشخص شخصيا في أمر ما سيأتي لاحقا وهذه النية أيضا مستنكرة ومستهجنة ولا تتلاءم مع نفسية فطرة الإنسان السوية المستشعرة لحاجة الإنسان لأخيه الإنسان ..
ومن هنا يتضح لنا أن الدوافع هذه مرفوضة ولا يتمناه أحد لو كان هو المحتاج للعون والمساعدة .. وكلنا يتمنى أن تُقدم له المساعدة دون أن يكون هنالك ثمن سيدفعه لاحقا أو غرض وهدف في عقل و نية من يقدمها له .. وقد نلحظ استغراب كثير من الناس الحذقين عندما يقرر أحدهم أن يساعده و قد يرفض هذه المساعدة لإدراكه التام أنه سيدفع أضعافها فيما بعد ..
الإنسان بطبيعته خير يحب بذل الخير لغيره بفطرته .. ولكن هنالك من الناس من حُرم من هذه الفطرة وهذه الجبلة بأعمال السوء التي يقترفها كل يوم كالكذب مثلا أو الخداع أو الاعتداء على الغير أو أي معصية .. فنحن نحرم من خيرية أرواحنا و أنفسنا التي مُنحت لنا بإصرارنا و تكرارنا للمعاصي والآثام وعدم علاجنا لأمراض قلوبنا التي تأكلنا ليل نهار كالحسد والكره والبغض والكبر وغيرها من الأمراض التي تمحق أي خير جبلنا عليه ..لذلك فقد تكون صناعة المعروف جبلة عند الإنسان ولكن هو بيده لوثها بكثير من النوايا السيئة وقد يكون قتلها بأن امتنع عنها بالكلية ..
وبما أننا جميعا نحيا بعصر الملوثات السمعية والبصرية و أيضا القلبية .. فهذه دعوة مني للتدريب على صناعة المعروف لأجل صناعة المعروف فقط وليس لأمر آخر و إصلاح النوايا السيئة وعلاجها .. فلا نبذل المعروف إلا لأجل الإنسانية التي نطمح لها جميعا والتي تفرقنا عن باقي المخلوقات .. وكذلك نرفض بذل أي معروف لأي نوايا غير نية مرضاة الله ونيل الأجر والثواب لأن كل النوايا أثبتت عدم صالحيتها ولا نية تصلُح في هذا الموقف إلا مرضاة الله سبحانه .. ولأن ما عند الله خير و أبقى وما في هذه الدنيا زائل وفان ..
أطيب المنى ..
التعليقات (0)