دنشواي ..ذكري للشعب وعبرة للقضاة
بقلم د/صديق الحكيم
فاتحة القول :تمر هذه الأيام الذكري 106 لحادثة دنشواي وهو اسم لواقعة مأساوية في التاريخ المصري الحديث حدثت يوم الأربعاء 13 يونيو 1906 في قرية دنشواي التابعة لشبين الكوم بمحافظة المنوفية بدلتا مصر. وليسمح لي القارئ الكريم أن أسرد الواقعة ولوبشئ قليل من التفصيل نظرا لأهميتها التاريخية والوطنية
تبدأ القصة عندما صدرت أوامر الحكومة المصرية برئاسة مصطفي فهمي باشا في عهد الخديو عباس حلمي الثاني لعُمد ومشايخ بعض القري في هذا الزمام بمساعدة مجموعة تابعة لقوات الاستعمار البريطاني آنذاك مكونة من خمسة جنود ممن كانوا يرغبون في صيد الحمام بقرية (دنشواى) المشهورة بكثرة حمامها كما أعتادوا، ولسوء الحظ كان الحمام عند أجران الغلال يلتقط الحب ولم يكن منتشرا على السكة الزراعية بعيدا عن مساكن الأهالى.
وجاء مؤذن مسجد القرية يصيح بالضباط كى لا يحترق التبن في جرنه، ولكن أحدهم لم يفهم منه ما يقول فأطلق عياره فأخطاء الهدف وأصاب زوجة شقيق ذلك الرجل وأشتعلت النار في التبن، فهجم الرجل على الضابط وأخذ يجذب البندقية وهو يستغيث بأهل البلد صارخا الخواجة قتل المرأة وحرق الجرن، الخواجه قتل المرأة وحرق الجرن‘ فأقبل الأطفال والنسوة والرجال صائحين ’قتلت المرأة وحرقت الجرن، فهرع بقية الضباط الإنجليز لإنقاذ صاحبهم.
وفى هذا الوقت وصل الخفراء للنجدة كما قضت الأوامر، فتوهم الضباط على النقيض بأنهم سيفتك بهم فاطلقوا عليهم الأعيرة النارية وأصابوا بعضهم فصاح الجمع قتل شيخ الخفر وحملوا على الضباط بالطوب والعصى فقبض عليهم الخفراء وأخذوا منهم الأسلحة إلا اثنان منهم وهم كابتن الفرقة وطبيبها أخذا يعدوان بعيدا عن ميدان الواقعة وقطعا نحو ثمانية كيلومترات في الحر الشديد حتى وصلوا إلى بلدة سرسنا
فوقع الكابتن مطروحا على الأرض -ومات بعد ذلك- فتركه الطبيب وأخذ يعدو حتى وصل إلى المعسكر وصاح بالعساكر فركضوا حتى جاءوا إلي الكابتن فوجدوه وحوله بعض الأهالى، فلما رأوهم الأهالى فروا فاقتف عساكرالإنجليز أثرهم وقبضوا عليهم إلا أن أحدهم هرب قبل أن يُشد وثاقه واختبأ في فجوة طاحونة تحت الأرض فقتله الإنجليز شر قتلة.
كانت هذه هي القصة وكان الظلم الواقع علي الفلاحين بين ولكن كان رد الفعل البريطاني قاس وسريع فقد قدم 52 قروي للمحاكمة بجريمة القتل المتعمد وتم اثبات التهمة علي 32 منهم في يوم الأربعاء 27 يونيو 1906 بعد أسبوعين فقط من الحادثة وتفاوتت الأحكام فيما بينهم وكانت معظم الأحكام بالجلد والبعض حكم عليه بالأشغال الشاقة وتم اعدام 4 قرويين منهم
ومن الجدير بالذكر أن هذه المحاكمة كانت مسرحية تراجيدية مخرجها اللورد كرومر المندوب السامي البريطاني في مصر وقضاتها من أبناء جلدتنا وهم بطرس غالي الذي عين فيما بعد رئيسا للوزراء وأحمد فتحي زغلول باشا،( الأخ الأكبر للزعيم المصري سعد زغلول الذي كان في أثناء هذه المحاكمة في فرنسا لدراسة القانون الفرنسي) وكان مدعي النيابة "إبراهيم الهلباوى باشا". و كان اللورد كرومرقد أصدر الحكم الذي نطقه قضاة مصر الذين وضعهم التاريخ المصري في مزبلته جزاء وفاقا لأنهم باعوا أنفسهم للمحتل خوفا أوطمعا فكان مصيرهم لعنة المصريين التي لاحقتهم فقتل بطرس غالي علي يد إبراهيم ناصف الورداني وانصرف الناس عن الهلباوي كأنه الأجرب وقد قاطع سعد زغلول أخيه فتحى باشا زغلول بسبب عضويته لتلك المحكمة الظالمة
وشاع أمر هذه المحاكمة الظالمة فاستنكرها القاصي والداني حتي أن الزعيم الوطني مصطفي كامل باشا رفض أن يسلم علي فتحي زعلول عندما جاء لاستقباله واستنكرها كذلك أصحاب الضمير الحي في بريطانيا نفسها فكما يسرد دانى موريسون عن "برنارد شو" قوله أنه فى مقدمة لمسرحية له بإسم ‘John Bull’s Other Island’ ذكر فيها عن فظاعة تدخل الإنجليز فى الشرق الأوسط وما أسماه برنارد شو "ذعر دنشواى"... وكيف كان مثالاً لوحشية الإستعمار واستطرد برنارد شو متهكما " وحيث لم يكن هناك غير مشنقة واحدة فيترك المشنوق نصف ساعة معلقا (يا للفظاعة) للتأكد من موته وليتحقق من مشاهدة أهلة له وهو يتأرجح.
ولما كان يستلزم الأمر ساعتان لشنق أربعة رجال، حرص الإنجليز، إستمرارا للتسلية، جلد ثمانية رجال آخرين فيما بين مشاهد الشنق. ومن كثرة إحساس الإحتلال بالذنب والجرم، كذب اللورد كرومر على مجلس العموم بإنجلترا فى ذلك الوقت "وكانوا قد صوروا لمجلس العموم البريطانى بأن المحاكمة والعقوبات قد نفذت بكل إنسانية وكرامة." وحذر "شو"، إشارة الى دنشواى، ما معناه، إننى أخشى على الإمبراطورية أنها بتصرفاتها هذه لن يكتب لها غير الزوال وهو ماحدث بعد ذلك فتحولت المملكة المتحدة من امبراطورية لاتغيب عنها الشمس إلي جزيرة غرب أوربا
خاتمة القول : نتذكر هذه الحادثة المؤلمة والتي لم ننساها بعد مائة سنة ونيف ليعلم الجميع أن التاريخ يصدر أحكامه بعدالة منقطعة النظير فبعض الناس يضعهم التاريخ في مراتب عالية وإن كانت أفعالهم تبدوا للوهلة الأولي مجرمة فهذا إبراهيم ناصف الورداني الذي لُقب بغزال البر والذي نفذ حكم الشعب علي القاضي الظالم بطرس غالي بعد أن صار رئيسا للوزراء وعلي الجانب الآخر ثلاثة من قضاة مصر وضعوا في مزبلة التاريخ بجدارة لأنهم باعوا ضمائرهم ونطقوا بحكم أملاه عليهم اللورد كرومر
وهكذا تكون مكانة كل قاض يبع ضميره بعرض زائل من الدنيا
الأحد 24 يونيو2012
للتواصل مع الكاتب
Sedeeks2011@twitter.com
sedeeks@yahoo.com
التعليقات (0)